صفحات العالم

رقابة دولية على اتفاق جنوب سورية/ محمود الريماوي

 

 

تراوحت ردود المعارضة السورية بين مؤيدٍ ومعارضٍ لاتفاق الجنوب السوري، الموقّع بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن. وهذا الانقسام في الرأي مفهوم، في ضوء عدم نشر النص الرسمي للاتفاق. وواقع الحال أن الاتفاق يجمّد الوضع في جنوب سورية (درعا وحوران والسويداء)، ويكرّس وقف إطلاق النار، ويثبّت الوجود الروسي، ويمنحه أفضليةً عبر نشر قوات فصل روسية (زهاء 400 جندي روسي في مرحلة أولية).

يحقق الاتفاق مكاسب للأردن من حيث إبعاده قوات “داعش” الإرهابية والمنظمات المبايعة لهذا التنظيم. كما يضمن عدم تسرّب المقذوفات والمقاتلين مجهولي الهوية عبر الحدود. ويضمن إبعاد مليشيات إيران اللبنانية والعراقية وسواها إلى 40 كيلومتراً بعيداً عن الحدود الأردنية. وما زال الاتفاق بشأن تشغيل المركز الحدودي نصيب غامضاً. ومن حق الأردن إبداء الحذر الشديد إزاء هذه المسألة، فمع التوافق على أن يكون السوريون وحدهم من يتمركزون في هذا المركز، فإن أي عودة لنظام دمشق إلى هذا المركز سوف تفتح الأبواب أمام تسرّب مليشيات إيرانية (ربما بلباس مدني) نحو الحدود الأردنية. وذلك تحقيقاً لحلمٍ توسّعي قديم للجمهورية الإسلامية في اختراق الأردن، والتموضع السياسي والمذهبي والإعلامي على بعض أراضيه، كما أن سجل نظام دمشق في تسريب الأسلحة والمسلحين إلى داخل الأردن طويل وحافل، ويعود إلى ما قبل الحراك السوري عام 2011 بفترة طويلة، وكذلك خلال فترة الحراك الذي ما زال متواصلاً.

وعدا ما تقدّم، فإن الاتفاق (ما تسرّب من بنوده) لا يضمن بعد تمكين اللاجئين السوريين في

“يتمثل التحدّي أمام أميركا في الاستجابة للتطلعات الأساسية للسوريين، وشقّ الطريق نحو تسويةٍ شاملة” الأردن من العودة بصورة آمنة إلى مناطق جنوب سورية، فقوات الفصل الروسية ذات سجل حافل بإيذاء المدنيين والتنكيل بهم (استهداف مخابز ومشافٍ وأسواق ومراكز للدفاع المدني بصورة وحشية طوال العام 2016). وبينما يشدّد الأردن على أنه لا يعتزم إرسال قوات إلى جنوب سورية، أو أي منطقة أخرى في سورية، فإن من الواجب عدم ترك الأمور بيد الجانب الروسي وحده الذي يعمل ضمن أجندة نظام دمشق، ويبدي على الدوام ازدراءً تاماً للمدنيين ولحقوقهم في الحياة والكرامة على أرض وطنهم. ناهيك عن العداء الروسي للمعارضة السورية. وهذا يتطلب آلية رقابةٍ فعالةٍ على الوجود الروسي، كما على وجود الأطراف الأخرى. فخلال السنتين الماضيتين، أثبتت موسكو أنها جزء من المشكلة لا الحلول. وأنها في سبيل تأمين مصالحها لا تتوانى عن تدمير المدن (حلب خصوصاً) والتغطية الحثيثة على استخدام النظام البراميل المتفجرة والأسلحة المحرّمة. وعليه، فإن عودة اللاجئين إلى ديارهم تتطلب ضماناتٍ إضافية، وربما قوات إضافية من دول أخرى، ورعاية مباشرة من الأمم المتحدة ومنظماتها، فضلاً عن الحاجة إلى إعادة بناء ما دمرته الحرب من مساكن ومرافق مدنية، وهو آخر ما يعني روسيا التي لا تمانع في رؤية سورية بدون السوريين، إذا ضمن ذلك مصالحها.

أما وجود مليشيات إيران، وبخاصة حزب الله، فإنه يظل خطراً قائماً، إذ سوف تظل هذه المليشيات تتحيّن الفرص للتسلل إلى مناطق الجنوب بصور شتى، مستفيدةً من حرص موسكو على التنسيق معها، ومن تفادي واشنطن الاحتكاك بهذه المليشيات، إلا على أضيق نطاق.

وعلى الأغلب، سيظل الاتفاق على الأرض هشّاً، بدون آليات رقابة فعالة على الأرض، وليس هناك على الإطلاق ما يشي بأن حرب إيران على السوريين في سبيلها إلى التوقف. وليس أدل على ذلك من تدفق مقاتلين، تسلحهم وتمولهم إيران من الحدود العراقية عبر البادية السورية، وغير بعيدٍ عن الجنوب السوري.

من المفهوم أن توافق جهاتٌ رئيسيةٌ في المعارضة، مثل الهيئة العليا للمفاوضات، على الاتفاق، سعياً نحو وقف شلال الدم، والتوقف عن تدمير ما لم يدمّر بعد على أرض الجنوب، ومن أجل إقصاء مليشيات إيران. كما من المفهوم أن تبدي جهاتٌ أخرى في المعارضة تحفّظها على الاتفاق، وخصوصاً في ما يتعلق بالانتشار الروسي الذي سيكون مهجوساً فقط بتمكين النظام،

“عودة اللاجئين إلى ديارهم تتطلب ضماناتٍ إضافية، وربما قوات إضافية من دول أخرى” كي يجثم مجدّداً على صدور السوريين، وإعادة المشكلة إلى نقطة الصفر، بدلاً من وضعها على سكة حلولٍ جدية، تستجيب لتطلعات السوريين. ومن الملاحظ أن موسكو واظبت على طمأنة تل أبيب من مفاعيل الاتفاق، لكنها لا تبدي أدنى اهتمام لطمأنة السوريين، والاعتراف بحقهم في صياغة مستقبلهم. والرهان هو على أن الاتفاق، على الرغم من سريانه قبل نحو أسبوعين، ما زال في مراحله الأولية، وأنه يجب أن يكون حُكماً قابلاً للتعديل في ضوء مجريات الوقائع على الأرض، واستناداً إلى هدف تأمين وجود المعارضة، وعودة اللاجئين السوريين تباعاً من الأردن، في ظروفٍ آمنة، لا تجعل منهم مُجدّداً لقمة سائغة في أفواه من قاموا باقتلاعهم وتهجيرهم، وبما قد يُجدّد خطر التهجير الإجباري على أيدي من يحلمون بسورية أخرى، تعاد فيها صياغة الهندسة الديمغرافية، ويتم تدمير الحواضر السوريّة التاريخية!.

وبالنظر إلى ما تقدّم، يشكل الاتفاق بالفعل امتحاناً وتحدّياً لكل من روسيا وأميركا، كما أوضح ذلك وزير الاتصال الأردني، محمد المومني، في تصريحاتٍ أخيرة له في 18 يوليو/ تموز الجاري. وفي التعقيب على ذلك، يكمن التحدّي أمام روسيا في وقف عدائها للشعب السوري، والتوقف عن عرقلة مفاوضات جنيف، بينما يتمثل التحدّي أمام أميركا في الاستجابة للتطلعات الأساسية للسوريين، وشقّ الطريق نحو تسويةٍ شاملةٍ وجديةٍ تستند إلى المرجعية الدولية والقرارات ذات الشأن، وعدم الاكتفاء بالتصدّي لداعش الإرهابية، على الرغم من الأهمية الحاسمة لذلك، وبحيث يُصار إلى مكافحة مليشيات إيران وجبهة النصرة جنباً إلى جنب، بالوتيرة نفسها والأولوية ذاتها، وهو ما يهيئ بيئةً مواتيةً لمفاوضاتٍ مثمرةٍ في جنيف، تمكّن السوريين من تقرير مصيرهم بأنفسهم، والانطلاق نحو إعادة الإعمار على جميع المستويات.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى