بكائية النادبات/ دينو فلاماند
كان زقاقاً للنادبات
جوقة من يوريبيديس
عبر المنازل المطلّة على الضفة الأخرى من النهر
كما لو كانت تقف بالفعل على الحافة
حيث الظهورات تحتجز طراوة
مياه غير مرئية
مقابل بضع حفنات من الفول
كن يندبن ميتاً في سلس البول
وفي تلك الأيام كان أطفالهن يلتقطون النقود المعدنية الصغيرة
على مفترق الطرق
أثناء عبور المواكب الجنائزية
كنّ يُؤمَرن بأن يحملن إلى الطاحونة كيساً مليئاً
بدموعنا المحبوسة
التي يكتفين فقط باختيار صوت الألم لها
بسبب معرفتهنّ بتقدير وزن الطحين
من الدراما التي تتمخض فجأة
عن هائل من العجز
كن يندبن تعاسة العالم كطهو
وأحياناً تلوح في دموعهن
بوادر فرح خادع لم يكن سوى الرقائق
التي تمعن في الفرار من الباحثين عن الذهب
في النهر حيث لا يصنع أحد ثروة
كن يحملن آلاماً شاهقة كالجبال
التي تنحني على “جسر الأرض”
فيما تتحمل أجسادهن صواعق الغضب
المرسلة من اللامتوقع الذي يتهددك أحياناً
بما يكفي فقط لكي تفهم أنك ما زلت على قيد الحياة
كن يغسلن في مياه الصُدف
قشعريرة كتفيك
عرق جلدك
مثلما النساء الغسّالات على الضفاف
بين أشجار الدردار
بمطارق خشبية تنهال على الغسيل
كن ينقلن قيامة الروح
على الطرقات الرفيعة حيث لا تترك العجلة آثاراً
في طين الهيئة حيث يبقى شكل الغياب
مطبوعاً أمام العيون المغمضة
لأن الدموع لا ترتقي إلا إذا كنّا نعرف
كيف نلج الألم دون أن تدير رأسك
للتسليم والعزاء
عندما يفتح الذهول في الأعماق
ليلاً لا يتراجع تصبُّ فيه الأيام
ومن ثم فإن الضوء ليس إلا
الظلّ المتصدع الذي يتلو عكوف الذاكرة
عندما تتحرر اليد من الحركة
لتبدو كما لو زرعت مسمار هيئتها المتسمرة
هكذا كن ينتحبن من أجل شرور العالم كلها
فيفتحن صمامات الأمطار التي طال حبسها
في أعالي الجبال
في مضاءة ستامبا
عند مدراة الحصان
فيضاناتٍ للقرى التي تجف ببطء تحت الشمس
فيما يبحث الأطفال عن التوت البري تحت الأوراق
وفي اليوم التالي كن يذهبن للحرث
جمع الذرة
والتبن
إزالة الأعشاب وزرع البذور
كادحات في الإرهاق الذي يمنحه الفرح القاسي للحياة
وفي وقت متأخر يستسلمن للذهاب لملذات الأيادي
بحثاً عن جسد آخر
يتلمس كالأعمى طريقه
في العطش الذي لا يمكنه إيجاد مورد
والفقيد لهذا اليوم كان بالأمس يمسك بمؤخراتهن
أو يوصيهن بالصعود إلى أعلى شجرات التفاح على السلّم
للتحقق ما إذا كانت تحمل تحت أغصانها شيئاً آخر
غير الدموع والأسرار
وحيث أن الليالي شرعت باصطياد فوهات النهار
وانزلق هذا الأمل من جديد في الجرار
كانت النادبات لا يزلن يلجن المساء
حقولاً تعج بالصمت والغياب
بتيجان من السنابل
مخمورات أكثر من الباخوسيات
وفي أبريل الثمل فوق صوف الأغنام
مفقوداتٍ فجأة بين قصب الضفاف
كن يستجبن للقتل من الأغصان التي تنزف
النسغَ الذي يخفي النبض في أعماق الأحياء
ولم يكن إلا لقمة غير سائغة
كان الموتى يعودون أحياناً لإسداء النصائح
لتخزين البرسيم والكحول ومربى التفاح
والطرقات الغريبة أين كانوا يتجولون
تتكشف في قعر الكأس
عند إخماد الفرن
لتبزغ فجأة بقية من الحطب في الموقد
تتنفس الصعداء
وبعدها يسود الصمت
كان الأحياء يطردون الشتاء بعيداً باتجاه الصيف
يسبِّحون ويشيخون
يعودون من ساحات القتال ويصلحون براميل الخمور
أو يفتشون بين القبور عن صدع في الصخور
لكي يقطعوا حجراً قاسياً جديداً لمنجل جديد
وكانت النادبات ينجبن في الآلام آلامهم
الوافدة للتو
بينما كانت السحب تمسح قمم الجبال
والنهار وجوه البشر
ويستمر النسيان في طمس الألم المطموس
حين أكون أنا من يبكي على الباكيات
اللواتي اعتدن فيما مضى البكاء على العالم
حتى في انحسار النسيان فإن التذكر ليس سوى
حروقه الطفيلية –
كان يكفي بحركة رشيقة واحدة
تمزيق ظلال الماضي
تماماً مثلما على البلاط الساخن للمخازن
في المنزل
فيما تتقدم منحنياً تحت العوارض الخشبية
حريصاً ألا يمتدّ لسان الشمعة
إلى أنسجة العناكب التي اخترقتها كتفك
وها أنا الآن وجهاً لوجه
مع شمعتي المتعسفة
الجائعة
يتهددني في كل لحظة حريقُ
آلامِ تلك الأيام المضطربة.
من الخارج يتسرّب بين العوارض الخشبية
الضوء المضغوط الذي توجهه الحديقة
والغد
والمستقبل صوبي
شعاع مخادع
لبداية جديدة
كان يكفي
أن أزيح بظهر يدي جميع أنسجة العناكب
الحريق ليس شيئاً
الحريق كل شيء.
* Dinu Flămând شاعر روماني ولد عام 1947 في قرية صغيرة بشمال ترانسيلفانيا. ظهرت أولى مجموعاته الشعرية سنة 1971، وبعد مشاكل مع الرقابة والتضييق عليه غادر رومانيا إلى المنفى عام 1980، وبقي فيه حتى عام 2010 حيث عاش في باريس وعمل في الإعلام. أصدر قرابة عشرين مجموعة شعرية من بينها “حالة حصار” (1983)، “أحجار الصمت” (2011)، والقصيدة المترجمة في هذه الصفحة من مجموعته “انتباه وسبات” (2016).
** ترجمة: ميشرافي عبد الودود
العربي الجديد