بول أوستر: الأكثر إثارة أن تحيا مع شخصيات متخيّلة
أجرى الحوار: توماس ده فاين
يتجلى الكاتب الأميركي الشهير بول أوستر في روايته الجديدة “1234” بوصفه نموذجًا للكاتب الكلاسيكي التقليدي، الحكواتي المقنع الذي يروي على آذاننا الحكايات التي تصدق، إلا أنه يبقى أيضًا الكاتب التجريبي ما بعد الحداثي، خاصة وهو يكرر على مراسل صحيفة “NRC” الهولندية، قبل إجراء هذا الحوار معه، جملة واحدة: “هذه رواية وليست، وأكرر ليست سيرة ذاتية”.
هنا ترجمة كاملة للحوار الذي أجرته الصحيفة المذكورة في نيويورك مع بول أوستر بمناسبة صدور الترجمة الهولندية لروايته الجديدة “1234” عن دار “ده بيزيخه باي” الشهيرة في أمستردام:
ليست سيرة ذاتية
عندما يبدأ كاتب ما، بعد مرور عدة دقائق فقط على بدء الحوار معه، في التأكيد على أن روايته الجديدة ليست سيرة ذاتية، وأنها مجرد رواية كغيرها من الروايات التي سبق أن كتبها، فهل علينا أن نصدق زعمه هذا؟ أم أن تكرار هذا التأكيد يزيد من شكوكنا في صدقه؟
“فيرغسون ليس أنا”، يقول بول أوستر (مواليد العام 1947) وهو يجالسنا في بيته المبني من الحجر البني في حي الأثرياء في بروكلين، حيث استقبلني وهو يرتدي خفًّا بيتيًّا من الجلد، ومن حين إلى حين كان يخطف نفسًا سريعًا من سيجارته الإلكترونية: “صحيح أن الرواية تستند إلى كثير من التسلسلات والمحطات الزمنية والجغرافية لحياتي، وصحيح أن بطل الرواية “فيرغسون” يشاركني بعض الخصائص والصفات والميول، مثل ولعي برياضة البيسبول واهتماماتي الموسيقية وذوقي في الكتابة، لكن لا، الرواية ليست سيرة ذاتية”.
يتحدث بول أوستر بشغف عن روايته الجديدة “1234”، والتي تعتبر الرواية الأضخم على الإطلاق التي يكتبها حتى اليوم، حيث وصلت صفحاتها إلى ما يزيد عن ألف، وتجلى خلالها ككاتب يعتمد على الأسلوبين الكلاسيكي وما بعد الحداثي، في ضفيرة غير معتادة على أعمال أوستر السابقة، خاصة وهو يرصد لنا خلال أحداثها مسيرة حيوات بطله “آرشي فيرغسون”، الصبي الذي ينحدر من مدينة نيوآرك بولاية نيوجيرسي، والمولود سنة (1947)، العام نفسه الذي ولد فيه بول أوستر.
يكتب أوستر قصة بطله “فيرغسون” في أربع نسخ أو بالأحرى في أربع حيوات، فبعد أن ينتهي الفصل الأول من الرواية بهذه الجملة الأخيرة المضطربة: “هكذا ولد فيرغسون؛ ما إن غادر جسد أمه إلا وكان أصغر إنسان على وجه الأرض لمدة ثوان معدودات”، يبدأ أوستر بعدها في كتابة أربع قصص لأربعة فتيان كل منهم يحمل الاسم ذاته: “آرشي فيرغسون”.
يقول أوستر: “في مساء أحد أيام السبت، جلست إلى مائدة العشاء، ووجدتني أفكر في قائمة الأسئلة من نوع “ماذا لو..؟” التي يحملها كل إنسان منّا داخله، ولأول مرة في حياتي أجدني أبدأ رواية جديدة من خلال فكرة أو هاجس، وليس من خلال شخصية روائية مثيرة أو موقف إنساني ما، ولجعل هذه الفكرة تقترب من شيء ما ملموس، بدأت أقرأ ما أكتبه في الرواية أوّلًا بأوّل، في محاولة مني لتكوين فكرة عن الكيفية التي ينبغي أن تتخذها لغة الرواية. كنت أرغب في التقاط لهجة ما، موسيقى كونية، إيقاع، شيء ما يشبه لغة الأساطير أو الملاحم، وخططت في البداية لأكتب عن تسعة أو سبعة أشخاص يحملون الاسم ذاته، لكني اكتشفت أن ذلك سيكون مستحيلًا، فقررت أخيرًا أن أكتب عن أربعة أشخاص يحملون الاسم نفسه، كما لو كنت أكتب عن كل ضلع من أضلاع المربع، أو عن الجهات أو المواسم الأربعة”.
أصالة واقعية
*عند هذه النقطة وجدتني أسأله: وهل كانت التجربة مثيرة أثناء كتابتها على هذا النحو؟
أوستر: “إلى درجة كبيرة جدًا، فبفضل تلك الشخصيات الأربع، تسود الرواية حالة متصاعدة من التخييل والارتجال المستمر، على الرغم من أن الرواية ككل ترصد وقائع عالمنا الراهن، وتعتمد الحكايات جميعها على خلفية تاريخية حقيقية (رواية أوستر تؤرخ لعدة عقود من تاريخ أميركا المعاصر). لم أزيف الحقائق التاريخية من قبل في أيّ من رواياتي، بل على العكس من ذلك؛ عادة ما أستخدم التاريخ في أعمالي كخلفية ضخمة تحدد زمن الرواية ومعالمها، كما فعلت في روايتيّ: “قصر القمر” و”ليفياثان Leviathan”، ومعلوماتي التاريخية التي أعتمد عليها في هذه الأعمال غالبًا ما تكون في غاية الدقة”.
هنا عاد أوستر ليوضح من جديد مسألة رفضه اعتبار روايته الأخيرة مجرد سيرة ذاتية: “بدأت مؤخرًا التفكير والتساؤل حول ماهية السيرة الذاتية وتأثيرها في بناء العالم الروائي، فإذا كنتَ ككاتب قد دخّنت خلال حياتك مئة ألف سيجارة وبطل روايتك لا يدخن سوى سيجارة واحدة في اليوم، فهل تصبح هذه الرواية سيرة ذاتية أم لا؟ وإذا كنت قد شربت ثمانمئة علبة من اللبن الرائب وإحدى شخصيات روايتك فعلت الشيء نفسه، فهل ستكون الرواية سيرة ذاتية فقط أم رواية؟ السؤال الذي حاولت طرحه في “1234” هو: كيف لنا أن نفرق بين الرواية المتخيلة وبين الحياة الواقعية، أين يكمن هذا الحد الدقيق الذي يفرق بين الواقعي والمتخيل في حيواتنا؟”.
*لكن، وعلى الرغم مما تقوله الآن، إلا أن هناك العديد من الإشارت في روايتك الجديدة التي تحيلنا إلى وقائع عديدة معروفة في حياتك، أو سبق لك أن تناولتها في أعمالك السابقة؟
يرد أوستر على ملاحظتي متسائلًا: “بالطبع لا. ما هي هذه الإشارات أو الأحداث إذن؟”.
*ما ترويه مثلاً عن موت مراهق بعد أن ضربته صاعقة أمام عينيك، لقد سبق أن تحدثت من قبل في عدد من حواراتك الصحافية عن موت مشابه عايشته أثناء شبابك، كما سبق أن كتبت عن الأمر ذاته من قبل.
أوستر: “حسنًا، هذا هو ما أقصده بمنبع السيرة الذاتية التي ينهل منها الكاتب في صياغة أعماله، وهو السبب ذاته الذي جعلني أكتب “1234”. كنت صبيًا في الرابعة عشرة من عمري حين ذهبت إلى مخيّم صيفي في نيويورك بصحبة 19 صبيًا في مثل عمري، وأثناء المشي داخل إحدى الغابات بدأت عاصفة رعدية ضخمة في الاقتراب من نقطة تجمعنا داخل الغابة، وحين حاولنا الاحتماء من العاصفة بالزحف تحت مساحة من الأسلاك الشائكة القريبة، في محاولة منا للفرار والاحتماء، وجدت نفسي أزحف مباشرة خلف صبي لم يكن يبعد عني سوى سنتيمترات قليلة، وفجأة ضربته الصاعقة ليموت أمام عيني، حينها تراجعت ووقفت أرقب المشهد مذهولًا غير مصدق ما حدث للتو، عندها أيقنت أن أي شيء يمكن أن يحدث، في أي وقت، ومع أي كان”.
غير المتوقع
“المصادفة” هي التيمة الأكبر في أعمال بول أوستر على الإطلاق، هي المفتاح أو الطاقة التكوينية التي تمنح رواياته الكثير من السحر فتزيد من قوة جاذبيتها أمام القراء: “لم أعد أستخدم كلمة “المصادفة” للإشارة إلى هذه التقنية في أعمالي، لأن الجميع يستمرون للأسف في ترديد الشيء نفسه في كل مناقشة لأعمالي، صارت لديّ كلمة جديدة أفضل أن أستخدمها وهي “غير المتوقع”، وهذا هو ما يهمني إيصاله إلى القارئ هنا: إن “غير المتوقع” هذا يحدث بانتظام وبشكل يومي في حيواتنا جميعًا، وإن الأمور لا تحدث بالطريقة التي تحدث بها غالبًا، بل على نحو عشوائي وغير متوقع أو في حسبان أحد”.
يتردد أوستر قليلًا، كأنه يتخير الكلمة التي سيبدأ بها الحديث من جديد: “كانت تلك الحادثة واحدة من أكبر وأكثر التجارب إيلامًا في حياتي، يطاردني المشهد ذاته منذ حدوثه وحتى اليوم، وسبق لي – كما أشرت في حديثك – أن كتبت عن الحادثة ذاتها في إحدى قصص كتابي “دفتر اليوميات الأحمر”، وربما الآن أعاود الكتابة من جديد عن الحادثة ذاتها في محاولة مني لمعرفة الدروب الغريبة والمفاجئة وغير المتوقعة التي تتخذها الحياة أمام أعيننا، لكن موت صبيين مراهقين في “1234” لا علاقة له بهذه الحادثة، إلا في رصد فكرة الموت ذاتها في القصص الثلاث”.
“ولأنه كان لابد من الخيال في النهاية”، يستطرد بول أوستر: “كتبت “1234”، خاصة وأن أغلب كتبي الأخيرة كانت غير خيالية، بدءًا من “حكاية الشتاء” و”رسالة من الأعماق”، وانتهاء بمراسلاتي مع “جي إم كوتزي”، فالعملان الأولان ينتميان إلى السيرة الذاتية الخالصة، وكانت المرة الأولى في حياتي التي أنظر فيها بجدية إلى الوراء، وأترصد طفولتي وسنوات مراهقتي وصباي من خلال الكتابة، وبطريقة واعية متسقة، أثناء كتابتي هذين العملين بدأت أتذكر أشياء كدت أن أنساها أو كنت قد نسيتها فعلًا.
“أما كتاب “رسالة من الأعماق” فله حكاية طريفة، وهي أن زوجتي الأولى فاجأتني قبل عدة سنوات بأنها لا تزال تحتفظ بما يقرب من 500 رسالة ورقية كنت قد أرسلتها إليها خلال أربع سنوات من حياتنا المشتركة، منذ كان عمري 19 عامًا حتى بلغت الثالثة والعشرين، وحين أرسلت لي نسخة من هذه الرسائل وبدأت في قراءتها، كنت كمن يلتقي شخصًا غريبًا تمامًا عليه، وحينها أدركت أنني فقدت أي اتصال بالشخص الذي كتب هذه الرسائل.
“وأعتقد أن تجربة كتابتي لهذين العملين في السيرة الذاتية هي التي كشفت لي مرحلة تكويني الأولى، كأن هذين الكتابين قوسان كبيرتان جعلتاني أعي هذه الفترة الغنية من حياتي، ومهدتا هذه التجربة الطريق أمامي لكتابة “1234”، إلى الدرجة التي تجعلني بت مؤمنًا اليوم تمامًا أنه لولا هذان الكتابان في السيرة الذاتية، لما كانت روايتي الجديدة ستظهر على هذا النحو، لأن المجال صار مفتوحًا أمامي لأطأ أرض الطفولة من جديد، ولكن من خلال أربع طفولات متخيلة لأربعة أشخاص يحملون الاسم ذاته، ربما هربًا من طفولتي الواقعية التي عشتها”.
* إذن إصرارك على أن روايتك الجديدة ليست سيرة ذاتية…
يقاطعني أوستر صائحًا: “ليست سيرة” ويستطرد متحمسًا: “الأكثر إثارة بالنسبة لي هو أن تحيا مع شخصيات متخيلة، لقد كتبت بعض أعمال السيرة الذاتية والمذكرات، وهي أعمال لها مكانتها الكبيرة بداخلي، وفوق ذلك لا أعتبر هذه الأعمال مجرد سيرة ذاتية أو مذكرات، بل دراسة معمقة لفكرة ما أو نسق معيشي كنت عليه ذات يوم، حيث أتمكن من استخدام وقائع حياتي الخاصة في تتبع فكرة أو منظومة الحياة التي كنت أحياها آنذاك، إلا أن هذه الأعمال في السيرة الذاتية تبقى أقل إثارة بالنسبة لي من كتابتي لرواية يحكمها الخيال أولًا وأخيرًا، حتى ولو استخدمت فيها نتفًا أو تفاصيل من حياتي الخاصة”.
كما لو كانت موجودة في الواقع
*هل تعني أن التحدي الحقيقي الذي أردت لنا أن نراه في روايتك الجديدة، هو اختراعك لأربع حيوات تتجاور مع بعضها البعض، كما لو كنت ترصد لنا المصائر الخاصة التي كانت طفولتك مهيأة لها في وقت ما؟
أوستر: “لا بالطبع، وجائز جدًا، فهذا هو التخييل الذي أقصده، جوهر هذا التخييل المستمر خلال الكتابة هو أن يحب القراء هذه الحيوات الأربع للشخص ذاته، كما لو كانوا أشخاصًا موجودين بالفعل في الواقع الذي يعايشونه، مطلبنا الرئيسي جميعًا كقراء هو أن نصدق الواقع الحياتي لهذه الشخصيات المكتوبة على الورق، وإلا فلماذا نقرأ إذن؟ الأمر ذاته ينسحب على الكاتب، فإن كان يكتب حياة شخصياته دون أن يتورط معهم عاطفيًا فالأفضل له ألا يحاول كتابة الرواية”.
فجأة انطلق رنين الهاتف المنزلي، فتراجع أوستر إلى الخلف قليلًا وهو يرفع السماعة إلى أذنه، أنصت وهو ينظر في البعيد ثم ارتفع صوت رد أوتوماتيكي، وضع السماعة واجمًا وهو يغمغم: “صارت شيخوختي إحدى مهام شركة التأمين الصحي، يتصلون بي ليخبروني بأحقيتي في الحصول على بعض الأدوية الضرورية، وهي أشياء أعلم تمامًا أنني لست في حاجة إليها.
“أين كنا، نعم، كنا نتحدث عن ضرورة تصديق القارئ لأحداث الرواية التي يقرأها، حتى وهو يعرف أنها مجرد أحداث متخيلة، وهذا هو مربط الفرس في “1234”، فمهمتي أثناء كتابتها كانت أن أكتب حيوات متخيلة لشخصيات غير موجودة، على أن أجعل القراء يصدقون أنها حقيقية، فهذا هو ما يفعله كل الكتاب في الحقيقة، لا أشعر أنني لاعب ماهر بالدمى أثناء الكتابة، لكنني أشعر بوجود الشخصيات التي أرسمها دائمًا، إنها موجودة وكامنة حولي باستمرار، ولكن الشخصيات الأربع التي تحمل اسم “فيرغسون” في “1234” تختلف عن بعضها البعض، فكل شخصية منها تطور نفسها بنفسها عبر طرق مختلفة ومتباينة، والأشياء الوحيدة التي تؤثر على حيواتها المختلفة هي الأسر التي خرجت منها والأماكن التي نشأت فيها، والمعطيات والظروف التاريخية التي مرت بها خلال حيواتها. لذلك ستجد في الرواية على سبيل المثال، أن أحد هؤلاء الـ”فيرغسون” على علاقة سيئة جدًّا مع والده، فيما ستجد “فيرغسون” آخر يفقد والده في وقت مبكر من حياته، ويكبر “فيرغسون” ثالث في ولاية نيوآرك، فيما يكبر رابع خارج المدينة، أحدهم يذهب إلى جامعة كولومبيا، والآخر يكتشف جنونه كفنان في باريس، وعلى هذا النحو كنت ألعب وأبدل في حيوات الشخصيات الأربع طوال الوقت”.
ما زلنا محاصرين بالمشاكل
“هل تعرف ما هو الغريب في هذه الرواية”؟ يتساءل بول أوستر، ويواصل متنهدًّا: “أنني كنت أفكر في أن يكون عنوانها هو “فيرغسون”، ولكن ما إن كتبت العنوان حتى جال في ذهني الوقع الذي سيتركه لدى القراء الأميركيين تحديدًا، حين يتذكرون الحادثة التي شهدتها مدينة “فيرغسون” التابعة لولاية ميسوري، عندما أطلق شرطي أبيض الرصاص على شاب أسود وأعزل فقتله في الحال، حينها قررت تغيير العنوان كي لا يحيل إلى هذا الصراع العنصري الذي تشهده الولايات المتحدة كثيرًا في الآونة الأخيرة”.
ويضيف: “هل تعرف أيضًا؟ ما من أحد من الذين كتبوا عن الرواية في الصحافة الإنجليزية أو الأميركية حتى الآن، التفت إلى أن الرواية ترصد الحياة الأميركية في الأعوام الخمسين الماضية، وصولاً إلى ما نعيشه اليوم من راهن يتشابه كثيرًا مع ما عشناه قبل نصف قرن، وهذه الملاحظة فاجأتني، لأن هذا الجانب بارز بقوة في الرواية، فنحن ما زلنا محاصرين بالمشاكل ذاتها، كأن هذه الأعوام لم تمرّ علينا ولم نتعلم منها شيئا، بل قد نكون أكثر انقسامًا من أي وقت مضى”.
ترجمه عن الهولندية: عماد فؤاد
ضفة ثالثة