صفحات الثقافة

بيار بورديو وبؤس العالم/ عيسى مخلوف

 

 

كانت باريس بالنسبة إليّ، يوم وصلتُ إليها هرَباً من الحرب الأهليّة، مدينةَ الشعراء والفنانين، وفي مقدّمهم بودلير ورامبو. لكن سرعان ما فتحت لي المدينة أبواب كنوزها الأخرى. من جامعة “السوربون” إلى “الكوليج دو فرانس”، وجدتُ نفسي أمام علامات حيّة فارقة شكّلت جزءاً مهماً من خريطة المعرفة في القرن العشرين. ما تعلّمته في “الكوليج دو فرانس” غيَّرَ كثيراً رؤيتي للواقع. (كانت باريس، آنذاك، تعيش أوج نشاطها الفكري والفلسفي، وكانت العلوم الإنسانية لا تزال تتمتّع بمكانة كبيرة). من الذين تابعتُ محاضراتهم هناك، وبأيّ نَهَم، جاك بيرك، ميشال فوكو، رولان بارت، كلود ليفي ستروس، إيف بونفوا وبيار بورديو. علّمني هذا الأخير كيف أرى العالم بصورة أخرى لم أكن أعرف أنها موجودة أصلاً. بورديو الذي غادرنا منذ خمس عشرة سنة لا يزال حاضراً من خلال أطروحاته التي تبدو وكأنها كُتبَت الآن، لهذه اللحظة التاريخية بالذات. ولقد نشرت دار “سوي” الباريسية مؤخّراً الجزء الثاني من المحاضرات التي قدّمها، في الثمانينيات والتسعينيات، في “الكوليج دو فرانس”، ومهّدت لكتاباته حول الثقافة والإبداع الأدبي والفني بصورة عامة (إدوار مانيه، فرانز كافكا وفيرجينيا وولف)، وحول دور الإعلام وبالأخصّ التلفزيون “الذي يمارس رقابة على كلّ رأي لا يتلاءم والأفكار السائدة”. إنها فرصة رائعة للّذين لم يتسنّ لهم يومها الاستماع إليه، وإن كان سيفوتهم وَقع صوته وحضوره.

في رصده الشأن الثقافي، كشف بورديو كيف أنّ “الثقافة في خطر” ولاحظ أنّ النتاج الإبداعي والفني في معظم الدول الصناعية يعكس حالة مستجدّة. المنطق التجاري هو المنطق المتحكّم بالنتاجات الفنية ولا يعنيه الإبداع بقدر ما تعنيه المردودية المادية وتحقيق الربح السريع. الأخطر من ذلك أنّ هذا التوجّه يتحلّى بمظهر ديموقراطي. فالنتاج الذي لا يلتفت إليه الجمهور الواسع يُهمَل ويهمَّش مهما كانت نوعيته وقيمته الجمالية. إنها المرّة الأولى في التاريخ يمكن أن يتحول فيها كلّ ما هو بشع ومبتذل إلى موضة ثقافية تجد من يتبناها ويدافع عنها بحماسة كبيرة. هذا التعامل مع الثقافة لا يمتلك فقط سلطة اقتصادية، بل أيضاً سلطة رمزية يمارسها من خلال لعبة إغواء يساهم فيها ضحاياها أنفسهم.

وضع بيار بورديو رؤى وقواعد جديدة لعلم الاجتماع، واستطاع أن يحوّل الأفكار المجرّدة إلى معطيات على صلة مباشرة بالحياة اليومية. ولقد ترك منهجه أثراً كبيراً في مسار البحث العلمي في فرنسا وخارجها. وممّن أفاد منه، لا سيّما من كتابه “سوسيولوجيا الجزائر” (1958)، محمد أركون الذي استعان أيضاً بالكثير من مصطلحات بورديو السوسيولوجيّة في قراءة التراث الإسلامي ومنها مصطلح “الرأسمال الرمزي” وكيفية استغلال الدين للوصول الى السلطة.

كانت لبورديو علاقة استثنائية بالجزائر بدأت في الخمسينيات من القرن العشرين. هناك أدّى خدمته العسكرية، وتابع أبحاثه وحاضَرَ في الجامعة. في تلك المرحلة، تناول في نتاجه الانعكاسات السلبية للاستعمار وأوضاع العمل والعمّال الجزائريين وأزمة الزراعة في المجتمع التقليدي (بالاشتراك مع الباحث الجزائري عبد المالك صيّاد)، وقام بدراسة ميدانية لمنطقة القبائل معتمداً على عناصر كثيرة منها الصورة الفوتوغرافية. (عام 2012، أقامت “مؤسسة بورديو” في مدينة “تور” الفرنسية معرضاً ضمّ الصور التي كان عالم الاجتماع الفرنسي قد التقطها في الجزائر قبل زهاء نصف قرن). عندما عاد إلى باريس، عاش على هامش المؤسسات الأكاديمية الرسمية التي انتقدها في أعماله، وتوقّف عند موضوعات عدّة كالتعليم والمنشأ الاجتماعي، سقوط الإيديولوجيات والتحوّلات الكبرى التي طبعت النصف الثاني من القرن العشرين، وهي تطالعنا في بعض مؤلفاته ومنها “الوَرَثة”، “الهيمنة الذكوريّة” و”بؤس العالم”. هذا الكتاب الذي أشرف عليه بورديو وشاركت في صياغته مجموعة من علماء الاجتماع، يروي بؤس العالم المعاصر ويُظهر أنّ المشاكل الفعليّة لا توجد دائماً في الأماكن التي يُشار إليها في العادة، كالضواحي الساخنة مثلاً، بل في مكان آخر، وفي الغالب، في قلب الدولة نفسها.

يحضر بيار بورديو، بفكره النقدي ولغته النافذة، أكثر من أيّ وقت مضى، ومؤلفاته مترجمة إلى الكثير من اللغات، شرقاً وغرباً. كان يحلو له أن يردّد: “إذا كان ثمّة دور لعالِم الاجتماع فيمكن أن يكون إعطاء الأسلحة لا إعطاء الدروس”. لكنها أسلحة الحياة والتغيير في مواجهة أسلحة القتل والموت.

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى