بيان الليدي غادة السمان حول طعم البوشار/ أحمد عمر
استفاقت من نومها لترد على البيان باستعراض قطع اكسسوارتها الأدبية قطعةً قطعةً
قبل أن أتحدث عن طعم البوشار، سأعترف أنني قلت مستبشرا، وأنا أقرأ السطر الأول من بيان غادة السمان المنشور في القدس العربي (24/9/2016): ها هي غادة تنهض من نومها، لتندد بالبيان أَسْوَد الجَاعِرَتَيْن الذي صدر باسمها، وحمدت الله أن بها رمقاً، تكذب به المثل الذي قال: اللي اختشوا ماتوا، وبان من أول كلمة من البيان المنسوب إليها أنه مدسوس من الدوبلير “غادا” بالألف الطويلة كعصا الهراوة، عليها، والبيان المدسوس عمره سنتان، وقد عاد إلى الحياة في صحيفة تونسية وهو رميم.
ويطالب البيان، السوريين، بصيحة مثل صيحة سبارتاكوس، لكن بالمقلوب، بأن يعودوا إلى حضن الوطن. سأعترف أننا رفعنا شعار “الموت ولا المذلة”، والشعارات فاخرة عادة، والحقيقة أننا لا نريد أن نجمع الموت والمذلة معاً بالعودة إلى جمهورية “حضن الوطن” المفيدة، ولهذا نرضى بعسل المذلة وحدها من غير ألف طويلة. مع أنني مثل غيري أحب الأحضان الوطنية الدافئة، وغير الوطنية أيضاً. نذكر بأن نظرية فرويد قائمة على الأحضان أو على ما تحتها بذراع.
البيان السبارتاكوسي “المفيد” لا يليق بكاتب من هواة بريد القراء، لكن بيان الخانم الأصيل، صاحبة تاء التأنيث المربوطة، صاحبة ليلة المليار، كان أكثر ركاكة من البيان المزور، ليس لغوياً وبيانياً، فهي خانم في الإنشاء الواضح لطلاب المرحلة الثانوية، ولحلقات البحث، وهي رائدة، وإنما أخلاقياً وسياسياً. وقد كنت أنتظر من الخانم “أن تنهض من نومها”، على صوت هدير الطائرات السورية والروسية والأميركية، وهي تتسلى بدكّ سورية، أو أن تستيقظ على أنين الأطفال والثكالى تحت الأنقاض، فتقول كلمة وهي على عتبة الخامسة والسبعين، وفي هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا، ومن تاريخها، وهي رائدة، والرائد لا يكذب، فأضرب بالإزميل صارخاً: أنطق أيها الحجر.. أنطق…
ينظر الإنسان عادة إلى سهول عمره من الشرفة، والإنسان كلمة. لكن البيان بيّن لنا أنها وجدت فيه فرصة للتفرس في ذاتها:” غ- يو- ك تتفرس” وعرفنا أن وطنها هو ذاتها، ولم يعبد الإنسان- قتل ما أكفره- أكثر من الهوى. وعرفنا من سيرتها الذاتية أنها سمّت ابنها على اسم أحد أبطال رواياتها إعجاباً منها بصنيعها، وعرفنا أن الصورة الشخصية المرافقة للبيان هي صورتها التي صوّرت قبل ثلاثين سنة!
هذه هي دولة الكاتبة الرائدة المفيدة في بريطانيا والشام وتتمدد، فهي بطلة الصحافة والإنشاء الأدبي في الستينات. وصفت بالجرأة، ووصفت بأنها نجيب محفوظ الإناث، أمّ الرواية العربية. في بلادنا، المديح يكال للأديبات بلا حساب، حسب نظرية فرويد في الأحضان، وهي مناضلة، حبست ثلاثة أشهر، ثم غادرت سوريا، ورحلت، والرحيل ليس تهمة، وإن كان كذلك لدى النظام، الذي لا يريد الرحيل حتى يجعل سوريا مرافئ قديمة.
استفاقت من نومها لترد على البيان باستعراض قطع اكسسوارتها الأدبية قطعةً قطعةً، حارصةً على الدفاع عن الأبجدية. مدحت غادة الكاميليا في ردِّها، اللغة العربية، والمجلة العربية ورئيس تحرير المجلة العربية، ومدح اللغة العربية رسالة مخصوصة باتحاد الكتّاب العرب، الذي كان يربّي “الحيوان في الشعر الجاهلي” يوماً على سطح المبنى. ثم دارت الأيام، فوجدنا الحيوان في الشعر الجاهلي هو الذي يتحمل “المسؤولية” في قيادة الحنطور الأدبي.. ذكرت غصن البان في ردها على سميّتها غادا إف ستاعش السمان، أنها من المستحيل أن توجه رسالة لمشرّدي وطنها. فهي مشردة من ألف عام- وإن كان شرودها من فئة خمس نجوم- وهي تقيم في باريس التي تكفل حق الرأي السياسي. ومع تلك الحرية بدا بيانها وكأنه لمستشرق عابر، بل إن من المستشرقين من ضحى بنفسه في سبيل شعبها، مثل الطبيب عباس خان، والصحافي الياباني ميكا يامو موتو… “وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء”. انطق أيها الحجر .. أنطق.
وقد بلُغنا في براهين البيان أنها كتبت “رسائل الحنين إلى الياسمين” و”فسيفساء دمشقية” فأبشر بطول حنين يا مربع، وقد صار الشعب السوري فسيفساء في براهين الأرض بيد رسام فسيفسائي حنطوري أحبَّ المسؤولية حبا قاتلا. لكن السوري، نازحاً أو غارقاً أو مقيماً في ظل البراميل؛ لا يؤمن بالرسائل والفسيفساء صكاً أبدياً للغفران. حرصت صاحبة البيان غادة السمان المفيدة، على تذكر كتبها المنهوبة، وأبدت غيرتها على أغلفة كتبها، وعلى الفصل العنصري بين الأجناس الأدبية، فالرواية رواية، والقصة قصة، الساكت عن الحق شيطان أخرس. لذا هي مصرّة على النزوح من البيان السياسي إلى الفضاء الأدبي، والتنديد باستباحة أبجدية الكاتبة، التي لا يشق لها غبار، فلسوريا ربٌّ يحميها، ألم يقل الشعار السوري الفاخر “سوريا الله حاميها”. الشعارات فاخرة عادة، أيتها السيدة الفاخرة على شرفات الحياة الساخرة.
نددت الخانم بتزوير رحيل المرافئ مع شكر السارق، على احتفاظه بالغلاف، وشكرت منى كيوان على الحوار معها، وذكرت السيد (خمس خمسات)- وهو نوع من السمنة في أيام الرئيس الأب، التي فقدت فيها الزبدة والورق وماء الوجه، بأن “أسلوب الكتابة الرديء لا يشي بأي شكل من الأشكال بوجودها في النص” حتى لتظننَّ كل الظن أنها ستشكر جميع الأهل والأقارب في برنامج ما يطلبه الجمهور لماريا ديب، بمن فيهم منير فاخوري، وهو من الراسخين في النت، والإشارة السياسية الوحيدة جاءت على لسانه في وصف صاحبة البيان “بالشبيحة القذرة” كسادتها المجرمين، كما شكرت المستشرقة برنامجاً تلفـــــزيونياً من إعــداد وتقــديم ميرنا منذر وهنادي الخطيب، حــــيث رفضتا مناقشة الحكاية مطولاً قبل أن تتبينا هل هذا التصريح «باطل» أم لا .. ” وهذا يعني أن لدى الليدي تلفزيونا وترى الأخبار والصور، ولم يبق إلا أن تشكر الناشر بو علي بوتين، وصاحب المطبعة أبو حسين الكيناوي، والمؤلف والمؤرخ بشار الأسد، لكن المؤكد أن الخانم محايدة، من بلاد أدب عدم الانحياز، وأدب البوشار المزركش، المهموم بالحنين إلى المرافئ القديمة، ورعشة الحرية، والتسكع داخل جرح…
أهنئ سيدة الزركشة الأدبية على حسن استشهادها بقول لسارتر في مقدمة ردها الساحر، وكان سارتر قد رفس نوبل بقدمه، ونذكرها بقول مارتن لوثر كينغ، الذي قال: إن أسوأ مكان في الجحيم مخصص لأولئك الذين يقفون في المرافئ القديمة، ويتسكعون داخل جرح، بلا أجنحة، بحثا عن رعشة الحرية، في المعارك الأخلاقية الكبرى”.
لغادة السمان “الجريئة” في سوح العواطف، محبون، ولأدبها في وغى العشق، معجبون، فهي مثل فلسطين تحت جلد غسان كنفاني! وفلسطين أكبر من جلودنا جميعا، والناس أذواق، بل اني أذهب على أن أحلام مستغانمي هي من الخارجين من معطفها، ونختم هذه التحية بطعم البوشار الذي جاء في العنوان، والبوشار هو غير رئيس سورية المقاومة، فهو طعام اكتشفه الأميركيون الأوائل، الهنود الحمر، أصحاب أكبر حضارة زركشة، وايمان بعيون الأقدار، ولهذا سقطت، والبوشار طعام لم أحبه يوما، وأدب لم أستسغه، لأنه يؤكل في الاستراحة في صالات السينما، باليد كلها، وهو أُكُل خَمْط، بل هو أكل هواء.
وإنني من قوم حَبَّبَ اللَّه إِلَيْهم الحق وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِهم وَكَرَّهَ إِلَيْهم عبادة الأصنام السياسية والأدبية، وهذا هو سبب الثورة السورية، وإن كنت لا أخفي ضلالاً ونزوعاً وثنياً إلى الأصنام المفيدة، المصنوعة من العجوة أو الشوكولا، الأصنام التي تؤكل، أما المزركشة فلا أرب لي فيها.
و:
إِنِّي لَمِنْ مَعْشَــرٍ أَفْنى أَوَائِلَهُمْ
قِيلُ الْكُمَاةِ: ألاَ أَيْنَ المـُحَامُونا؟
المدن