“بيان روما” المتأخر: تغيير سوريا لا تدميرها
عبدالأمير الركابي
تأخر “بيان روما”، كان ينبغي ان يصدر في وقت سابق، وان لايخاف من اصدروه اخيرا من الضغوط والإتهامات، وان لا يأملوا بأن الاطراف المعارضة الأخرى يمكن ان تبدل مواقفها.
هؤلاء الاخوة خدعوا او خدعوا انفسهم، بينما المؤشرات كلها تُرى امام انظارهم، فالعمل على قلب الإتجاه وتحويل الحراك الى مجابهة بالسلاح، لم يجر في الخفاء. وبما ان من اطلقوا النداء الاخير، كانوا يزاحون ويخسرون، فلقد كان عليهم هم ايضا ان يستعملوا ما يملكونه من وسائل، وان يبادروا لذلك في وقت مبكر. كان عليهم يوم ان ذهبوا الى روسيا ان يحسموا موقفهم، ويضعوا القطار على السكة: نوافق على الحوار، لكن بسقف التغيير لا الإصلاح. هذا هو السبيل الذي لا سبيل غيره، وكل موقف لا يكون منحازا لخيار التغيير لا التدمير، هو بقاء ضمن شبكة القوى التي تتبنى استراتيجيا التدمير. وإلا فليقل لي هؤلاء الاخوة والاصدقاء ما معنى موقفهم؟ اين يصرف واين يترجم عمليا، السؤال هو: تابعون ام مستقلون؟
وتابعون او مستقلون هذه لا تحددها الرغبة. ليس حب التسميات هو ما جعلهم ينتبهون اليوم. المفترض ان يكون لهؤلاء تصور ورؤيا قائمة على تشخيص واقعي للحالة التي تمر ومرت بها سوريا. لأجل الوضوح، لا بد لهؤلاء ان يقولوا الأشياء كما هي بلا “مغمغة” وبلا لبس. لكن ذلك غير ممكن، ولم يكن على ما يبدو ممكنا لسبب بسيط، هو ان هؤلاء الاخوة ليسوا بلا نقص، ليسوا مكتملي الرؤية او التصور لبلادهم. ومشكلة سوريا، يكمن الجزء الاعظم منها هنا، في هذا النقص او القصور، في العجز عن إدراك ابعاد التغيير، مفرداته، اولوياته، صورته الاساسية التي يتم الإنطلاق منها. لم يضع هؤلاء ولا غيرهم، رؤية لسوريا اليوم والامس، تُرينا اين نحن، واين يجب ان تتجه المتغيرات، لم يحسم هؤلاء البحث حول مسألة الدولة، موقعها، آليات التعامل معها، الافق المناسب والضروري. كل ما نسمعه حتى الآن، شعارات وكلام لا يقول شيئا عن سوريا، ويحولنا من متخيلين، الى متجهين نحو خيالات، وهذه مشكلة الحراك السوري، انه قاصر على مستوى النظر، يسير تحت طغيان النزعة العملية، بينما المطلوب على الاقل بالنسبة للتيار العلماني، ان يبني حركته ومواقفه إنطلاقا من سردية تقول:
1- سوريا اليوم فيها دولة، هي على المستوى التاريخي، الإمكان المتاح والذي اتيح ضمن الظرف التاريخي في نصف القرن الاخير، هذه الدولة هي إمكان “دولة الحداثة” سورياً. حافظ الأسد مزج بين الحاجة في بلد لايعرف المركزية للمركزة، واستجاب لعامل الدينامية الرئيسي المضاف ممثلا بـ” المجابهة مع إسرائيل”، والكتلة الموحدة المتوفرة، اي الطائفة وعسكر الاطراف، وترتيبات اللحمة الاخرى، منها الحزب، ومنها الوطنية الفطرية، وقوة الإكراه التي تؤمن السيطرة المتداخلة مع الايحاء بالوحدة الكيانية، اي الاجهزة الامنية، تحت سقف وخطاب القومية العربية ومواجهة إسرائيل.
2 – هذه الدولة يمكن ان ننظر اليها كإنجاز، كما يمكن ان تعتبر بمثابة قلب للثوابت والتراتبيات التقليدية الطائفية منها بالذات. وفي هذا الحيز تتغذى القوى التقليدية الإسلامية الطابع بزخم اكبر، قاعدته قصور بنية “الدولة القسرية الحديثة المتاحة”. فدولة حافظ الاسد، لم تتوفر لها الديناميات الحداثية الضرورية. فلجأت الى المتاح والمتوفر من مقومات الحكم والسلطة، فكانت قوة قمع احادية، زاد من طابعها القمعي تزايد شعورها بأنها مشروع يتضاد مع ميول قوى واسعة إجتماعياً ومذهبياً. في هذا علينا ان ندرك، بأن معظم اشكال الحداثة على مستوى الدول كما السياسة في عالم تنقصه الديناميات الرأسمالية الحديثة، يضطر الى خلق بدائل غير طبيعية، ولا تنسجم مع مقتضيات الحداثة الضرورية، وتنشأ حالة تناقض، بين الاهداف والوسائل، هذا حدث حتى في روسيا البلد شبه الآسيوي، الذي إنتقل للرأسمالية، عبر وسائل احادية سماها إشتراكية، الصين ايضا شهدت ذلك، وكل بلد ما قبل رأسمالي، دفعته آلياته وظروف القرن الماضي، للإنتقال الى الحداثة، إبتدع وسائل ليست متطابقة مع الهدف الفعلي المنشود، وهنا مكمن نقص تلك التجارب ومقتلها، مع تباين واختلاف درجات فجاجة الوسائل المتاحة لها، وهو ما أودى بالإتحاد السوفياتي وبغيره من اشباهه.
3 – مشكلة سوريا التي ينبغي الحسم فيها، هي الإختيار بين تدمير هذا النموذج او تغيره. قوى بعينها تريد لا بل إختارت منذ اللحظة الاولى، نهج التدمير، لكن القوى التي ترفع راية التغيير لم تظهر بعد. ما تزال ضائعة مترددة، تقدم رجلا وتؤخر اخرى. سيتغير المشهد كثيرا، حين تعلن هذه القوى بصراحة، انها مع التغيير لأن الخيار الآخر يعني التدمير الشامل، وليس تدمير الدولة الحداثية القسرية القائمة وحسب. ففي سوريا لا توجد ركائز تؤمن قيام إطار سياسي بديل حتى الوقت الحاضر، ونقص مقومات الدولة الموحدة التي يُراد تغييرشكل من أشكالها الفجة الآن، هو بجزء مهم منه نقص موضوعي وبنيوي سوري، وهو ما يؤدي في حال تدمير القائم الى إدخال سوريا في نفق مظلم سيطول لعقود طويلة، وستشهد البلاد تمزقات وتشظيات لن يقوم بعدها لهذه البلاد قائمة في الأفق المنظور، فديناميات التوحيد ماديا وليس ايديولوجياً وشعاراتياً ضعيفة للغاية هنا، لدرجة أنها تقترب من الصفر. ثم ان إنهيار القائم كليا، يعني خسارة قوى الحداثة والمجتمع السوري جهود قرن من التاريخ، توجت بصيغة دولة حافظ الاسد، كانت في العمق جهود وعمل السوريين، وليس عمل الجهة الحاكمة التي تحرس منجزا ناقصا، اصبح اليوم على مشارف ومخاطر التغيير او التدمير بظل نقص عناصره ودينامياته الحداثية.
هذه على العموم ملامح او منطلقات التصور الأساسية الواجبة الإعتبار، من دونها لا تكون للاعلانات من نوع “إعلان روما”، اي قيمة، وستظل متأخرة خطوة، وبحاجة لخطوات من نوع:
– إعلان صريح بتبني نهج التغيير وليس التدمير، وإعتبار الاخير خيارا الى الوراء يؤدي لخسارة الجميع، وفي المقدمة الشعب السوري، صاحب المصلحة في وصول مايجري الى نتيجة مطابقة لطموحاته.
– الدعوة الى مؤتمر لـ”المصالحة والتغيير” يضم كافة المعارضين، الذين يتبنون هذه الوجهة ويعلن الإستعداد صراحة للدخول في عملية حوار بسقف التغيير، مع تشديد التركيز على خطاب الإفتراق في الخيارات، وعدم الخوف من وهم الإنقسام لأنه واقع وقائم أصلا، ولأن السكوت عليه يعني إنتصار احد الخيارات وليس اي شيء آخر.
– المبادرة بوضع هذا الخيار مجسدا في اجواء الموقف الروسي أولا، والمجتمع الدولي ثانيا.
هذه الخطوات الثلاث، اذا اقدم عليها تيار إعلان روما، يصبح ممكنا القول بأن هذا التيار قد بدأ يتحول، من تابع، أو بين بين، جرى ويجري عمليا إستخدامه في الحصيلة، او صب حتى الآن في طاحونة الطرف الآخر التدميري، الى قوة فعل، او تيار ثالث، يبدو انه الاكثر لزوماً وأهلية في ظل التبدل في الواقع الدولي، ومع نشوء ما يمكن إعتباره خطة الإنهاء الفعلية الروسية الصينية، للتفرد الاميركي المستمر منذ التسعينات، الأمر الذي لم يكن متوفرا وقتها أيام غزو العراق، حيث وجد آنذاك تيار ثالث عراقي، إنما من دون اي افق دولي حاضن او داعم، برغم انه سعى بجهود ذاتية معزولة كليا لقول شيء مضاد لتيار عات كان في ذروة صعوده وتركزه مع بدء صعود التفرد الاميركي.
■ اصدر 17 ناشطاً وناشطة سورياً “نداء روما” في اجتماع رعته منظمة “سانتا أجيديو” الايطالية يوم 25 تموز المنصرم.
النهار