بين إحراق عيد والكساسبة: نشأة “دولة الخلافة” وسقوطها/ وليد بركسية
فرق هائل بين مقطع الفيديو الأخير لتنظيم “داعش” الذي يصور فيه مشهد إحراق الطيار السوري في قوات النظام عزام عيد، ومقطع إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، العام 2014 الذي ما زال بلا شك أكثر المقاطع التي بثها التنظيم عنفاً وتباهياً بالقوة وتأثيراً على مستوى الصدمة. وذلك منذ بروز “داعش” كقوة راديكالية استطاعت إسقاط الحدود بين سوريا والعراق للمرة الأولى منذ اتفاقية سايكس بيكو التي رسمت شكل المنطقة قبل أكثر من مائة عام.
وإن كان فيديو إحراق الكساسبة رمزية بصرية لأقوى لحظات التنظيم وذروة خلافته المزعومة مع سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا حينها، فإن الفيديو الجديد الصادر الجمعة عن “مركز الحياة للإعلام” التابع للتنظيم بعنوان “لهيب الحرب 2″، يعتبر موازياً لتراجع التنظيم وتقهقره بعد طرده من كافة المراكز الحضرية في الدولتين. مشهد إعدام عزام لم يتعدَ الدقيقتين ضمن إصدار من 58 دقيقة كاملة، على عكس مقطع إعدام الكساسبة الذي قاربت مدته 25 دقيقة ركزت بالكامل على الإعدام وسط مدينة الرقة، عاصمته السابقة.
وتضمّن الإصدار الجديد أجزاء منفصلة زمانياً ومكانياً بين تدمر وسيناء وأماكن أخرى غير محددة، فيما يرجح أن زمن تصوير كل منها قديم نسبياً، بشكل يماثل التشتت الحاصل للتنظيم وتبعثر مقاتليه من دون قيادة مركزية حقيقية لهم. وترافق ذلك مع سقوط الخلافة وتحول “داعش” من أول تنظيم إرهابي نجح في “إحياء الخلافة” وإنشاء دولة حقيقية إلى مجرد جماعة إرهابية هاربة في الصحراء تطاردها كل القوى العالمية. كما أن الفيديو بعكس جزئه الأول الصادر العام 2014 يخلو من النجوم. وكان “لهيب الحرب 1” أول فيديو يظهر فيه “الجهادي جون” وهو الاسم المستعار لسفاح “داعش” البريطاني محمد أموازي الذي قتل العام 2015.
وإن كانت فرضية أن الإرهاب يتمدد في الخلاء صحيحة في وقت سابق، فيجب القول إن الإرهاب الداعشي اليوم ينزوي ويتلاشى في الخلاء أيضاً. الفيديو الجديد بكامله، جاء من وسط الصحراء وفي أماكن مفتوحة تظهر معارك أو عمليات إعدام وقطع رؤوس في مناطق غير مأهولة بالسكان. حتى مشهد الحرق تم ببساطة ومباشرة بالقرب من شجرة في مكان غير محدد، بعكس مشهد إحراق الكساسبة “الدرامي” التي اكتظ فيه عناصر التنظيم وراياته وسط الرقة في مشهد مخيف لا يمكن نسيانه وهم يحرقون الكساسبة العاجز في قفص حديدي بوحشية. وتذكر هنا أيضاً مقاطع التنظيم الأخرى مثل تلك التي أصدرها في تدمر سابقاً، والتي لعب فيها المكان دور البطولة، لأن تلك الأراضي التي سيطر عليها التنظيم كانت عامل القوة في بناء دعايته المؤثرة وعامل الجذب الأول للمقاتلين المحتملين للانضمام إلى صفوفه كدولة يوتيوبيا إسلامية، بعكس حالته اليوم.
ولا يعني تراجع “داعش” ميدانياً أن التنظيم قد انتهى ومسح عن الوجود ببساطة، إذ ينحسر نفوذه ويتحول بسرعة من دولة إرهابية إلى مجرد جماعة إرهابية تعمل في الخفاء وتنظم نشاطها عبر الإنترنت بشكل خاص من أجل تجنيد المقاتلين في الغرب والقيام بعمليات منفردة ضد “الكافرين”، من أجل انتظار اللحظة المناسبة لإحياء نفسها. فالمظالم السياسية والاجتماعية التي أدت إلى خلق بيئة خصبة للتنظيم كي ينمو ويزدهر في سوريا ما زالت موجودة، ولم يتم التوصل لحل سياسي حقيقي ينهي هذه الحلقة المفرغة التي يمكن تلمسها في العراق، مع التحولات التي طرأت لتنظيم “القاعدة” منذ العام 2003 والتي انبثق منها “داعش” قبل سنوات.
وهنا يشكل الفيديو الجديد بداية حقبة جديدة لدعاية التنظيم أو نهاية حقبة سابقة له، لأنه يأتي بعد شهرين تقريباً من عدم بث إي إصدار مرئي، بسبب تدمير المراكز الإعلامية التابعة للتنظيم في الرقة والميادين. “داعش” نشر المزيد من أشرطة الفيديو منذ بداية آب/أغسطس مقارنة بالشهور السابقة، عندما كان يكافح من أجل البقاء على قيد الحياة في الموصل، التي كانت أكبر مدينة تحت سيطرته في كل من سوريا والعراق معاً. ولم تنشر المجموعة سوى ستة إصدارات فيديو رسمية في شهر أيار/مايو، تلتها ثمانية في حزيران/يونيو ثم ثمانية في تموز/يوليو، أي ما مجموعه 22 إصداراً في ثلاثة شهور. لكنها في الأسابيع الستة اللاحقة تجاوزت ذلك الرقم بشكل كبير، بإصدارها 21 مقطعاً مصوراً رسمياً في آب/أغسطس، و11 آخرين حتى 14 أيلول/سبتمبر.
ويبدو واضحاً أن التنظيم يعود في الفيديو إلى جذوره الأولى وكأنه أكمل دورة من 360 درجة إلى نقطة بدايته، فاستعاد أبرز لحظات “مجده” الغابر في أول ربع ساعة من الإصدار بما في ذلك مشاهد من فيديو إحراق الكساسبة نفسه. وبدا السياق أشبه بخطاب الوداع وإعلاناً ذاتياً أشبه بالاعتراف بالانتقال إلى حالة جديدة من السبات العسكري وتوجيه العمليات الإرهابية بنمط “الذئب المنفرد” ضد “الأهداف الكافرة” في دول غربية بعيداً عن مراكز سيطرته السابقة، عبر الدعاية الداعشية المستمرة بالتواجد في زوايا الإنترنت المظلمة، وعبر تطبيقات المراسلة المشفرة. وبذلك، يضمن التنظيم بقاء نمطه الجهادي الخاص في انتظار فرصة مواتية أخرى كي ينبعث من جديد لإحياء “دولة الخلافة” في سوريا والعراق بوصفهما دولتين لا تتوافر فيهما حلول سياسية قادرة على القضاء على جذور الإرهاب نفسه.
استذكار ماضي “داعش” هنا ليس عبثياً أو عاطفياً بكل تأكيد، بل يعمل التنظيم على تحويل “إرثه” العنيف ووجوده السابق إلى خرافة أو أسطورة، وهو أمر سعى إليه التنظيم بشدة منذ اليوم الأول لظهوره تمهيداً لليوم الذي يأتي ويهزم فيه ويتقهقر نحو البادية والأرياف التي خرج منها، راسماً صورة المدافع عن المظلومين السنة ضد “المتوحشين الشيعة” و”الأجانب الصليبيين”، مستفيداً من مظلوميات تاريخية تتكرر وتزداد كشعاره تماماً “باقية وتتمدد”.
ولا يعني كل ذلك أن التنظيم يفكر بالبقاء جامداً بانتظار تغير الظروف لصالحه في سوريا والعراق، بل يعمل على تكريس وجوده في مناطق بعيدة عبر الجماعات التي أعلنت مبايعته في وقت سابق، في آسيا وأفريقيا، وتحديداً في سيناء التي يكرس نصف الإصدار الأخير من أجل تبرير توجهه إليها من وجهة نظر دينية تربطها بأنبياء مثل موسى ما يجعلها وفق الدعاية الداعشية مكاناً مقدساً يليق بنقل مركز الخلافة إليها من “أرض الشام”. وهو أمر غير مرجح بطبيعة الحال، لكن إدراجه كعنصر مكاني ثقيل يبقى ضرورياً كعنصر لا يمكن أن تبنى بروباغندا “داعش” الديماغوجية من دونه.
المدن