بين إسلامَيْن
علي جازو
تكشف نتائج الانتخابات التونسية والمغربية، وتصريحات رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل، إضافة إلى أحداث مصر بين المسلمين والأقباط والنتائج الأولية لانتخاباتها البرلمانية، عن ترافق الربيع العربي مع طغيان موجة إسلامية كاسحة، وتناحرات طائفية، تحيل بمجملها إلى ماض مكبوت أكثر ممّا تحمل وعداً بمستقبل لا يكون فيه للدين دور في تحديد خيارات المجتمع، ولا في اعتبار “الأصل” الديني أو الانتماء الطائفي سبباً للرفض أو القبول السياسي.
وكان محبطاً بحقّ أن يكون خطاب إعلان تحرير كامل ليبيا، بعيد مقتل القذافي، مناسبة للسماح بتعدّد الزوجات واعتبار الإسلام المصدر الرئيسي للتشريع، فالإسلام، كأيّ دين أو عقيدة، مسألة إيمان فردية، فيما إدارة الدول ذات منشأ اتفاقي. إنّها عقد بين مواطنين “مدنيين” يتفق عليه وفق دستور يمثل رأي أغلبيتهم التي يمكن أن تتحوّل إلى أقلية “مدنية”، إذا أخذنا بتدوال السلطة السلمي مبدأ عمل حقيقيا. لكنّ الواضح أن الأغلبية (غير الوضعية ولا الاتفاقية) تميل إلى حكومات إسلامية شبه جاهزة، ليس النموذج التركي أفضلها، وإن كان أكثرها تداولاً، وربّما لا يكون النموذج التركي سوى دعاية لكسب الأصوات، على اعتبار تركيا “الإسلامية” أفضل من نموذج “الإسلام” الإيراني، وكأن على شعوب هذه المنطقة أن ترى أفقها السياسي والفكري معلقاً بين أتاتورك – أردوغان من جهة والخميني – نجاد من جهة مقابلة، كأنها بلا داخل قبْليّ ممتلئ وقادر على ابتكار نموذج يناسب كلّ بلد على حدة، ويحوز شرعيته من حاجات الناس الدنيوية لا من “منافسات” العقائد الغيبية.
***
وممّا له دلالة أنّ تدمير المقموع ثقافياً، وعزلته الاجتماعية المديدة طوال سنيّ الاستبداد، خلّفت كوارث في الوعي العام. فإن كانت ميول الغالبية العربية دينية، فهي في الآن نوع من الرجوع عن قيم العصر وتكاد تشكل انقلاباً على مطاليب من دفع ثمن الثورات؛ فمواطنو “الفيسبوك”، مثلاً، ومعظمهم من الشباب الذين يشكلون أغلبية المجتمعات الثائرة، يبتكرون نوعاً جديداً من الانتماء، ولا يشكل الدين أو الطائفة مصدر ميولهم الأساسية. ويبدو غريباً ترافق الثورة السياسية مع انتكاسات فكرية وانقسامات اجتماعية. ويفضي هذا لاحقا أن أسباب اندلاع الثورة ليست فكرية ولا منظمة تحت توجه سياسي يتناول شكل نظام الحكم وعلاقة الدولة كلسطة عامة مع الفرد كشخصية مستقلة. هكذا لم يترافق مطلب التخلص من الاستبداد المديد مع قطيعة عن الماضي الثقيل، فالذين احتكروا الوطنية بالأمس، يمكن لمن حلّ محلّهم أن يحتكرها باسم الدين، والدين هنا أكثر حدّية ونفوذاً، ذلك أن حدوده من حدود المقدسات. وإن كان الحاكم القديم، الذي لم تحمه آلة العنف ونهب الثروة، قد مسخ الدولة في شخصه وعائلته، فإن الحاكم الجديد يستعير سيادة تتجاوز الأرض إلى السماء.
الذين خرجوا على السلطة خرجوا بسبب اليأس، لا الأمل. وإذ توفر لهم الأمل حقيقة، اكتشفوا أن عادات كثيرة لم تتغير داخل مجتمعاتهم. وطريقة قتل الليبيين للقذافي تظهر مدى الشراسة التي خلفها القمع، لكنها تظهر أيضاً انعدام القدرة على رفضٍ يشكل قطيعة مع الماضي الذي جعل من القذافي على ما كان عليه.
***
وإذ يفكر السوريون الآن، أو يبدو أنّ جهات قوية تدفعهم إلى هذا النمط المريض من التفكير، مصنفين أنفسهم بين إسلامَيْن (سنة وعلويين) ومسيحيين ودروز وأكراد وعرب، إنما يقدمون الدليل على عدم قوة الرابط الوطني الذي تحول دونه، عدا ما سببه حكم البعث البشع من فروق وضغائن داخل بنية المجتمع السوري، عادات ثقافية وفكرية تسهل على مرحلة ما بعد البعث أن تكون أقرب إلى التيه والتفتت منها إلى الوحدة والتكاتف. وسبب التيه سوء ظنّ “مكونات” المجتمع السوري بعضها تجاه بعض، واعتبار الأغلبية الإسلامية، سلفاً، أغلبية تميل إلى احتكار السلطة. وإذ يركز الجميع على إسقاط النظام، ينسون في الوقت نفسه، إسقاط الفكر القديم والتصنيف البشع الذي يسمح بتحويل سوريا إلى غابة تناقضات لا يمكن إيجاد أي عامل مشترك بينها. ولذلك علاقة قوية بين السياسي والأخلاقي، التي من علامات انحدارها، غلبة الانتهازية دون التفكير بنتائجها على الحالة العامة للشعب، ومدى حاجته إلى روابط جديدة يأخذ فيها الإنسان قيمته الأساسية كفرد مستقل خارج سجون التصنيف الدينية والعرقية وما يلحق بهما من تبعات كارثية. وفي هذه الظروف شديدة التعقيد والخطورة، يحسن بالجميع “أنسنة” السياسة، والعودة بها إلى الصالح العام، إلى عمق المشترك الاجتماعي الذي يشكل عامل حماية ذاتية خارج علاقات الدين الإقصائية والتي تحول المجتمع الواسع إلى تجمعات متقلصة ومنطوية على نفسها.
***
أنسنة السياسة مدخل ضروري وسط حمّى التمزق الاجتماعي ذي الجذور الدينية. أنسنة السياسة أي اعتبارها الفعل الأسمى، والفاعلية الاجتماعية التي ترفض النظر إلى الإنسان كرقم ضمن طائفة دينية. الاعتماد على إحصائيات من هذا النوع، لا يحوّل المجتمعات إلى أقليات وأكثريات غير مدنية فقط، إنما يعيدها قروناً إلى الوراء.