بين الحوار والمغامرة بمستقبل سوريا
لؤي حسين
قبل اندلاع موجة الاحتجاجات والمظاهرات المعارضة للسلطة السورية ولممارساتها كان قد اقتصر الحديث عن موضوع الحوار الوطني على القوى السياسية السورية المعارضة، التي بادرت منذ بضع سنوات إلى اقتراح مؤتمر حوار وطني يجمعها، على ضعف حجمها وقلة حيلتها الناجمة عن شدة القمع والملاحقة الأمنية لعناصرها، مع السلطة السورية المهيمنة بشكل شبه مطلق على الحياة السياسية منذ بضعة عقود؛ أي تقريباً منذ سيطر حزب البعث على السلطة سنة 1963.
وقد شددت قوى المعارضة على طرح عقد مؤتمر حوار وطني يجمعها مع السلطة بعد أن لاحظت أن هذه الأخيرة بقيادة رئيسها الجديد بشار الأسد لم تقم بمهام التغيير أو التحديث التي أملتها منها، أو التي استبشرتها في الخطاب الجديد للسلطة الفتية. وبغض النظر عن صوابية هذا الطرح في حينه، فإنه اعتمد المراهنة على مخاطبة السلطة السورية بكلام منطقي يقوم على إقناع مَن بيده زمام كل الأمور بالقيام بإجراءات إصلاحية تمكّن البلاد من اتخاذ صيغة حكم ديموقراطية تقوم على التعددية وتداول السلطة.
الآن، ونتيجة لنهوض شارع سياسي احتجاجي في البلاد آخذاً بالنمو يوماً بعد يوم مشكلاً قطباً سياسياً حقيقياً بدأت السلطة تأخذه بعين الحسبان، ولو موارَبة حتى اليوم، مبدية القبول بحوار وطني سياسي يجمعها مع أطراف المعارضة. وقد أخذت تروّج له إعلامياً أكثر من الاشتغال به أو عليه لدرجة أنها لم توضح صراحة ما الذي تقصده من الحوار. غير أنه غير خاف عن المراقب لتصريحات مسؤوليها في هذا الخصوص بأنها لا تقصد أكثر من النقاش ليس إلا. ويبدو واضحاً أن أقصى ما يخطر في بالها هو اجتماع أو أكثر يضم بعض مسؤوليها من غير أصحاب القرار الفعلي مع شخصيات من النخب السياسية والثقافية والأهلية، وفي أحسن الأحوال يمكن أن ينضم لهذا الحوار عدد ممن أفرزهم الشارع الاحتجاجي الذين قدّموا احتجاجاً «لائقاً»؛ وفق تصنيفاتها، لا ينجم عنه (أي الحوار) سوى تأكيد ممثلي السلطة بأنهم فهموا ما يريده المعارضون، وأن رسالتهم قد وصلت؛ ويعدون بأن تدرس السلطات السياسية العليا مقترحاتهم ومطالبهم وتقوم بما هو لازم لإنجازها، وعلى الباقين الذهاب إلى بيوتهم وأعمالهم فقد انتهى شغلهم.
إن السلطة السورية لمّا تزل لحد اللحظة لا تعترف صراحة بوجود طرف سياسي آخر في البلاد، لهذا نراها لا تُظهر أدنى إشارة للقبول بصراع سياسي طبيعي. حيث أنها ما زالت تتعامل مع أي احتجاج على أنه خروج عن وعلى إرادتها المطلقة، فتواجهه بقمع وإقصاء منقطعي النظير. ما يجعل ادّعاءها بالتخلي عن النهج الأمني الذي تعتمده، والذي قد يودي بالبلاد إلى مخاطر لا نجاة لأحد منها، لصالح الدخول بحل سياسي مجرد كلام لا مغزى منه. وهذا بدا واضحا للجميع من خلال تصريحات السيد محمد سعيد بخيتان، الأمين القطري المساعد، التي عكست فهماً قاصراً لمسألة الحوار ولمسألة القبول بصراع سياسي. إذ بدا من كلامه وكأن الحوار ليس أكثر من ورقة يمكنه أن يخرجها من درج مكتبه في اللحظة التي يريد ومن دون الأخذ بعين الاعتبار إن كان الطرف الآخر يقبل بالحوار معه وفق فهمه، أم يرفض الاستمرار بالإذعان للخطاب التسلطي للسلطة الذي ما زال يفترض أن المتظاهرين والمحتجين الذين يدفعون أرواحهم ثمناً لحريتهم يستجدون السلطة التكرم عليهم بالمكرمات التي تشاء. فهذا الخطاب ما زال قاصرا عن فهم أن الشارع الاحتجاجي السوري عقد عزمه على كسر انفراد أحد بالسلطة، وأنه يريد أن يكون شريكاً فيها وبجميع القرارات والمؤسسات.
هذا الفهم للحوار ليس بعيداً كثيراً عن فهم قوى المعارضة التقليدية، أقله من الناحية العملية. إذ يبدو أنها ما زالت غير قادرة على استيعاب أن فكرة الحوار التي كانت تطرحها قبل نهوض الشارع الاحتجاجي لم تعد تصلح بعد أن أخذ الشارع يتشكل كثقل سياسي حاسم في المعادلة السياسية السورية. فما زال ما تقوله هذه القوى عن مؤتمر حوار وطني، حتى لو ضم فعّاليات جديدة ممن يبرزها الشارع التظاهري، لا يتعدى أيضا إطار النقاش المنطقي الذي تعتقد أنه يمكنها أن تسجل فيه نقاطاً مرجّحة في حجاج منطقي يمكّنها من إفحام السلطة أو ممثليها في الحوار.
فالسلطة وقوى المعارضة التقليدية لم تستطيعا رؤية أن أي حوار سياسي الآن، بعد أن بات محكوماً بمعادلة سياسية أحد أطرافها شارع تظاهري احتجاجي قوي بامتداده واتساعه وإصراره وصموده على تحقيق أهدافه، لا بد أن يقارِب جانب التفاوض بين قوى لها ثقلها على الأرض السياسية العيانية؛ ووفق ثقلها هذا يكون لها القول الراجح.
ولئن كان الشارع الاحتجاجي لم يتبلور كحركة سياسية بيّنة الصورة والمشهد لحد الآن، إلا أنه صار يمتلك قولاً حاسماً في الحياة السياسية. لهذا فإن رفضه للحوار في ظل القمع، الذي بات يرفعه شعاراً في جميع مظاهراته، بات قولاً راجحاً، لا بد لجميع السياسيين أن يأخذوه على محمل الجد، وأن ينتبهوا إلى أنه لن يطول الأمر حتى يتبنى الشارع رفض الحوار بالمطلق مع سلطة يعتبرها، حينئذ، قد فقدت شرعيتها بعد أن أوغلت بالاعتداء عليه وقتل أبنائه.
من وجهة نظري، ما عاد الحوار بالمعنى الذي تقصده السلطة صالحاً كعنوان للحيلولة دون دخول البلاد بمأزق سياسي ومجتمعي، ولا بد من إحلال التفاوض بدلاً عنه. تفاوض يقوم على استعدادها التنازل عن سيطرتها على قطاعات واسعة في الحياة لصالح الدولة والمجتمع، وإخضاع جميع أجهزة التسلط التي تعتمد عليها للقانون.
ولتأكيد هذا الاستعداد يتوجب على السلطة حالاً إطلاق كافة الحريات العامة وإيجاد آلية سلمية وسليمة لتنظيم التظاهر تعـتمد القبول بحق السوريين بممارسة كافة أشكال الاحتجاج السلمي على أنها أدوات في الصراع السياسي المشـروع؛ وذلك بعد إلغاء قانــون التظاهر سيئ البنية والنية الذي فرضته السلطة مؤخراً. ليصار بناء على ذلك فتح باب الحياة السياسية على مصراعيه، الذي من شأنه فرز ممثلين حقيقيين عن الشارع يكون لديهم التـخويل الكافي للتفاوض مع بعضهم ومع السلطة لرسم مرحلة سياسية انتقالية للبلاد.
هذا هو مبتدأ النية الصادقة في اعتماد الحل السياسي وإيقاف العملية الأمنية نهائياً. وبغير ذلك فإن كل ما تقدمه السلطة من كلام أو إجراءات مدّعية أنه إصلاحات لن يكون له سوى معنى واحد: المغامرة بمستقبل الوطن السوري.
([) كاتب وناشر سوري
السفير