بين خياري الهيمنة الدينية والعسكرة!/ ماجد الشيخ
يبدو أن عودة العسكر إلى الواجهة في الكثير من البلدان المأزومة أنظمتها السياسية، يشير إلى انقلاب في الأدوار، وفي طبيعة القوى السياسية والحزبية وحتى الشعبية، وقد طاول الانقلاب طبيعة الطبقات الاجتماعية من حيث اصطفافاتها وأدوارها المنظمة، حتى بتنا أمام لوحة تختلف جذرياً عما شهدناه في سنوات القرن الماضي، حين كان يجرى توصيف النظام – أي نظام – يصعد إلى السلطة، بغض النظر عن طريقة هذا الصعود، أنه يمثل هذه الطبقة أو تلك، حتى لو كان العسكر هم الذين في الواجهة، كونهم ينتمون مثل أي فئة، إلى طبقات اجتماعية مختلفة.
وقد مر حين من الدهر، قاربت على الاندثار خلاله، مثل تلك التوصيفات حين صار النظام الحاكم ممثلاً لأشتات من فئات وطبقات ونخب اجتماعية، مدنية، عسكرية وظائفية، زبائنية، مذهبية، طوائفية، مزيج من اللامنتمين سوى إلى حزب المصالح والانتفاع، بحيث تشكلت هناك طبقة يمكن تسميتها «تكنوقراط السلطة» الذين امتهنوا ويمتهنون طرائق وأساليب في التسلط والتشبيح، اقتربوا خلالها من عناصر السلطة العليا، أي من ثوابت دولة السلطة العميقة. وحينها أصبحت السلطة في سورية أكثر من ملكية، أي استملاكية بقوة الأجهزة وتعددها، وحتى بعد أن أصبحت السلطة ممثلة بالقوة والإكراه، لطائفة تمذهبت حتى غدت هي السلطة العليا، أي بمثابة مصدر لتوزيع السلطة، فأي شرعية وأي ديموقراطية وأي قيمة لانتخابات في أروقة سلطة كهذه، علقت الدولة وهمشت وجرى وضعها على الرف، واستبعدت مؤسساتها عن ممارسة دورها المفترض، كدولة حقيقية لها كيانها ودورها النابع من رؤيتها لذاتها، لا ذاك الدور الذي أنيط بها بطريقة غير مباشرة من جانب أعدائها.
أما في بعض البلدان مثل مصر، فقد أنشا العسكر لأنفسهم مؤسسات اقتصادية وتجارية، حتى صار لهم وضع طبقي مميز، محولين أنفسهم إلى طبقة اجتماعية لها تراتبيتها الخاصة والمميزة عن بقية أبناء شعبهم، ما أهلهم لتبوؤ مناصب سياسية وغيرها، بفعل هيمنة المؤسسة العسكرية طوال سنوات ما بعد الانقلاب على الملكية في عام 1952. ومن يومها والأولوية في الكثير من مناصب السلطة للعسكريين من الألوية المتقاعدين.
هكذا، تحولت السلطة في بلادنا إلى موئل لهيمنة العسكر على الحياة السياسية، بعد أن أظهرت معطيات واقعنا العربي، أن عجز السياسة والمجتمع والأحزاب والقوى الشعبية عن بلورة قوة أو قوى منظمة، كان لا بد له من استدعاء القوة المنظمة الوحيدة القادرة على الإمساك بزمام السلطة. وهكذا كان في مصر، حتى في ظل صعود حركة «الإخوان» وهي الأكثر تنظيماً من بين القوى الشعبية والحزبية، وعلى رغم فشلها في إدارة الدولة، بل تحويلها إلى مواقع هيمنة سلطوية فئوية لها، لم تستطع مواجهة السخط الشعبي عليها، حتى جاء العسكر ليقطفوا ثمار الاستياء والسخط وعدم الرضا على نظام «الإخوان»، وبدت عودة العسكر في هذا الشكل الفاقع كثمرة الاستدعاء الشعبي لهم، بغض النظر عن مصير السياسة ومآلاتها والعمل السياسي الشعبي والحزبي، وبغض النظر عن سلامة العملية الانتخابية التي أشارت وتؤشر إلى غياب ثقافة الديموقراطية وإجراءاتها الاعتيادية، حتى في أبرز شكلياتها وأساليبها غير المنظمة.
هكذا، لم تغب الدولة القديمة وجبروتها، بل هي اليوم تستعيد مجد هذا الجبروت، باستئناف أجهزتها وقواها العميقة، لكل ما اتصفت وتتصف به الدول البوليسية وأجهزتها الأمنية، وكأن الاستبداد مقيم في ربوعنا إقامته الدائمة، كالأب الأكبر أو كالطوطم الذي لا يموت. وبين خياري الحكم الديني والحكم البوليسي العسكري، سنبقى نراوح مراوحتنا الانحطاطية، فلا قيامة ولا من يقومون، ولا خلاص ولا من يخلصون، فعلاً لا قولاً، أو لمجرد الوعود الربانية أو الإلهية التي أجادها ويجيدها من وعدوا أنفسهم بجنة السلطة ونعيمها.
بين فشل الحكم الديني وفشل العسكر في القيام بما يتوجب على الدولة المدنية القيام به، أكثر من وشيجة ارتهان الفشل بطبيعة القوى التي هيمنت وقد تهيمن على الدولة، فاستمرار عجز المجتمع وعجز السياسة والقوى ذات المصلحة – الشبابية خصوصاً – سيبقى يتيح لقوى الاستبداد التسلطية ممارسة هيمنتها المطلقة، ليس على السلطة فحسب، بل وعلى الشارع، مهما كانت واسطتها وأساليبها للحفاظ على تلك الهيمنة، الأمر الذي يضع على عاتق قوى التنوير والحداثة الثورية مهام إضافية، لاستعادة الدولة من أيدي مغتصبيها، وتنقية المجتمع والسياسة من عفن «سياسويي» التدين والعسكرة، وهذه عملية معقدة وطويلة نسبياً…
* كاتب فلسطيني
الحياة