بين سورية والعراق: التفاصيل هي كل شيء/رستم محمود
يُماهي الزميل حازم صاغيّة في مقالته المعنونة بـ«العراق- سورية: غزو لا تحرير»، («الحياة» 11 نيسان – ابريل – 2015)، بين طبيعة أفعال القوى العسكرية المقاتلة في كل من سورية والعراق، وخصوصاً المنخرطين في معركتي تكريت العراقية وإدلب السورية، إذ يرى في كلتا القوتين اللتين استطاعتا «الهيمنة» على المدينتين خلال الأيام الماضية القليلة، قوتي غزو وهيمنة، لا قوتي تحرر سياسي ومجتمعي: «فإما أن يكون الحدثان تحريرين تمارسهما دولة مستبدة وطغيانية (وهو ما لا يقوله إلا صاحب عقل دمجي يؤيد الدولة بالمطلق ضداً على المجتمع)، وإما أن يكون الحدثان غزوين، وهو إقرار نزيه بواقع الحال». ثم يفصّل في تناقضات الجهات التي ترى في إحدى هاتين المعركتين تحريراً والأخرى غزواً، وكيف أن الوعي الطائفي المستبطن هو الدافع إلى مثل هذا التفريق، لأنهما، وفق صاغيّة، مجرد غزوتين طائفيتين لقوى طغيانية. من جهتنا، نرى أن ثمة إمكانية كبيرة لملاحظة فروق كبيرة بين ما جرى/ يجري في كلتا المدينتين العراقية والسورية، وفي عموم مجريات البلدين، من دون أن يكون الدافع إلى ذلك التفريق الحس الطائفي أو المناطقي المستبطن، وهو تفريق يستند إلى أساسين سياسيين ومجتمعيين في الحالتين:
أولاً، إن ما يجري في العراق من سلوك طائفي محض وأرعن، إنما يجري في شكل منظم وواع لذاته. فقوات «الحشد الشعبي» (الشيعية) إنما هي تقريباً واحدة من مؤسسات الدولة القائمة. فهي تأخذ عتادها وإنفاقها من الخزينة العامة للدولة، ومن المفترض أن القوات العسكرية العراقية هي التي تشرف على أعمالها وسلوكياتها، أي أن ما مارسته من عمليات نهب عام واعتداءات طائفية، إنما نتج عن تخطيط مسبق ومدروس، وتحت حماية القانون العام وبإشراف السلطات الرسمية في البلاد. بذا فإنهم أشبه ما يكونون بتنظيمات الشبيحة السوريين، الموالين للنظام الحاكم.
على العكس تماماً، فالقوى العسكرية السورية إنما هي خليط غير متجانس من القوى العسكرية، لا يشكل الانضباط العقائدي والعسكري جوهراً في انتظامها العام. فوق ذلك فهذا الخليط لم تُعرف عنه ممارسة النهب العام كقوة احتلال. فحوادث النهب التي جرت إنما حدثت من قبل بعض الأطراف الأقل انتماء وتماهياً مع الجانب السياسي من مسألة «الثورة السورية»، أي أنها كانت قوة نهب محلية ناتجة عن تحول عميق في موازين القوى في البيئة الاجتماعية نفسها. أما العنف الطائفي فتقريباً لم تمارسه القوى العسكرية الطائفية السورية ضد «الآخر»، إنما كان عنفاً موجهاً ضد أبناء البيئة الاجتماعية نفسهم التي ينتمي إليها هؤلاء المسلحون. فهو كان عنفاً سياسياً للصراع على السلطة المحلية، لا عنفاً طائفياً ضد الآخر. فجميع حالات القتل المروعة التي مارسها «داعش» و«جبهة النصرة» في سورية إنما كان عنفاً بحق منتمين للبيئة السُنية السورية، لا البيئة العلوية.
من هنا يُفتح سؤال كبير في الشأن السوري: هل سيطرت هذه القوة المسلحة الطائفية السورية على مدينتي الرقة وإدلب منذ اللحظة الأولى لهزيمة النظام في هذين الموقعين؟!، أم أن مزيجاً من الخذلان الإقليمي والدولي، وبمساعدة واضحة من النظام السوري، ساهم في سيطرة هذه القوى المتطرفة على حساب القوى الأخرى التي كانت شريكاً وفاعلاً قوياً في الفترات الأولى من التحرير؟!. الجيش السوري الحُر مثلاً تم سحقه وسحق كل توجهاته السياسية بُعيد تحرير الرقة بفترة طويلة، وبصمت ورضا إقليميين، وبممارسة عسكرية واعية من قبل النظام السوري. أي أن ما جرى في سورية من هيمنة لهذه القوى «الغازية» إنما كان نتيجة مسار من الممارسة السياسية، كانت فيه القوى غير السورية والتي لا تنتمي للثورة هي المسبب لها، وكانت قوة التحرير الحقيقية والفاعلة في لحظات التحرير الأولى، أي «الجيش السوري الحر»، ضحية لذلك. وهذا بالضبط عكس ما يجري في العراق، حيث إن قوة النهب العام والعنف الطائفي إنما هي الأساس الأيديولوجي والجذر السياسي للقوى العسكرية العراقية («الحشد الشعبي»)، لا ترادفها ولا تشاركها قوة عسكرية أخرى مناهضة لأفعالها هذه.
ثانياً، ثمة فرق كبير بين طبيعة القوتين العسكريتين وعلاقتهما بالمجتمعات التي تُراد السيطرة عليها. فالمقاتلون السوريون يسعون للسيطرة على مجتمع يرون أنهم جزء منه (العرب السُنة السوريون)، ويرى المجتمع نفسه في قوات النظام السوري قوة احتلال أجنبي عليه، بغض النظر عما يمكن أن تمارسه هذه القوات. على العكس، فالمجتمعات المحلية في سهب العراق المُحتل من «داعش»، ترى في قوات «الحشد الشعبي» الطائفية المهاجمة قوة احتلال، وترى نفسها أقرب إلى «داعش» نفسياً وعقائدياً مما إلى «الحشد»، وما كان قبولها النسبي بطغيان» داعش» سوى ردة فعل على ما مارسه الجيش العراقي والقوى الأمنية والرديفة حيالها طوال السنوات الماضية. فهي، فوق جلافتها، كانت تعامل تلك المجتمعات المحلية كسلطة غريبة انتقامية، بالضبط كما كان النظام السوري يفعل بكل المدن «السُنيّة» منذ اندلاع الثورة، وربما قبلها.
على أن ذلك لا يعني أن هذه المجتمعات المحلية في سورية والعراق ترى في «داعش» والقوى الراديكالية الأخرى قوى تحررية بالمعنى الليبرالي، وربما هذه الأخيرة ليست ذات أولوية في ظروف كقصف المدنيين بالطائرات والبراميل وسط صمت عالمي مريع، لكنها بالتأكيد تراها قوة تحرر تنتمي إلى العصبية الاجتماعية نفسها، في مواجهة غريب يسعى إلى إفناء جماعة بذاتها. وهو شرط لا يتوفر قط في الحالة العراقية. لذا يمكن وسم ما يجري في سورية بـ «التحرر» في إطار الفهم العصبوي لما يجري في منطقتنا، بينما ليس الأمر كذلك في العراق أبداً. وفي مرات كثيرة كان التحرر العُصبوي مقدمة للتحرر الكلي المتخيل، أو ليس تاريخنا مع الكولونيالية سيرة عن ذلك!؟.
* كاتب سوري
الحياة