بين مصر وسوريا/ ميشيل كيلو
هناك من يعتقد أن مركز ثقل الأحداث العربية انتقل من سوريا إلى مصر، وأن هذا يفسر تراجع الاهتمام العربي عامة، والخليجي خاصة، بسوريا، خلال الشهرين الأخيرين.
هذا الاعتقاد، إن كان موجودا، فهو يعبر عن تخبط في خيارات السياسة العربية، التي تخطئ كثيرا إن هي اعتقدت أن ما يجري في سوريا أقل أهمية بالنسبة للمصير العربي مما يحدث في مصر. أما خطؤها فيرجع إلى الأسباب التالية:
– نجاح من يديرون «الملف» السوري دوليا في تحويله من ثورة يقوم بها شعب ضد نظامه الاستبدادي إلى بؤرة تستقطب توترات وصراعات المنطقة ودولا كبرى، مع ما أدى إليه تكوين هذه البؤرة من تبدل في طبيعة الحدث السوري، ومن طمس لجوهر الثورة، وقلبها إلى صراع محلي وعربي وإقليمي ودولي مفتوح كان من أول نتائجه تدمير دولة ومجتمع سوريا على يد نظامها، وقتل مئات الآلاف من شعبها المظلوم، الذي خرج طالبا الحرية فوجد نفسه ضحية صراعات دولية وإقليمية تجتاح كل شبر من وطنه، شوهت حراكه السلمي العادل، وحولت تطلعاته المشروعة إلى حرب يشنها عليه جيش احتلال داخلي، تتحكم بها إرادات خارجية فتح أمامها أبواب التدخل على مصراعيها، حين استخدم العنف لمعالجة أزمة سياسية / اقتصادية / اجتماعية لا يعالجها العنف، وعمل قائده لإثارة اقتتال داخلي بين مواطنيه، واستدعي القوى الدولية والإقليمية والعربية إلى بلاده، وجعل منها ساحة صراع بين هذه القوى. هذه التطورات، غيرت طبيعة الصراع الدائر في سوريا، فلم يعد صراعا بين نظام إجرامي عنيف وشعب يطالبه بالحرية، بل صار جملة صراعات خارجية مركبة لا ناقة للسوريين فيها ولا جمل، تغير معها نوع القوى المتصارعة داخل سوريا كبؤرة توترات وتناقضات متفجرة.
– هذه البؤرة فائقة الخطورة، المستعرة منذ أكثر من ثلاثين شهرا، تؤثر تأثيرا مخيفا على جميع بلدان المنطقة: من الأردن إلى لبنان فالعراق فإيران فتركيا فدول الخليج المختلفة، وصولا إلى أميركا وروسيا وبعض بلدان أوروبا الغربية والشرقية. هل أزمة مصر من هذا النوع، وهل هي بؤرة استقطاب متفجرة تستدرج دول المنطقة والعالم إلى صراع مفتوح ومتفاقم؟ ليست الأزمة المصرية من النوع السوري، بل هي أزمة داخلية منخفضة الحدة، ولولا الدعم الأميركي للإخوان المسلمين لما كانت غير زوبعة في فنجان، علما بأن التدخل الأميركي فيها يأخذ شكل خلاف بين دولتين وليس شكلا اقتحاميا من نمط سوري يطاول المنطقة كلها وله نتائج خارجية لا تقل خطورة عن نتائجه الداخلية، يهدد استمراره بنسف دول وتفكيك كيانات وإبراز أدوار فوق إقليمية ستمارسها على سبيل المثال إسرائيل، التي ستخرج من صراع لم يكلفها شيئا قوة كبرى فوق إقليمية، لن تتمكن أية دولة عربية من مجاراتها خلال أي زمن منظور، يرجح أن يؤدي صعودها إلى الهيمنة على دول العالم العربي القريبة منها والبعيدة عنها.
– ليست الأطراف الداخلية المصرية مهمشة بفعل التدخل الخارجي، الذي خفض دور الأطراف الداخلية في تقرير مصير وطنهم، رغم أن إخوان مصر كانوا يستقوون بالدور الأميركي، الذي بقي محدود التأثير إلى الآن، ويرجح أن يكون تأثيره مرشحا للتراجع، حتى إن ظل الأميركيون «مزعوجين» من الحدث المصري، بسبب التأييد الشعبي لما قام به الجيش، وقيام الحكم الحالي باقتراح خطوات عملية لحل الأزمة، وحدوث خلافات داخل الصف الإخواني، الذي يزداد ضعفا.
– ألا يرى الخليج هذه الوقائع الحاسمة الأهمية؟ أعتقد أنه يراها، وإن كنت أؤمن في الوقت نفسه أن اهتمامه بالحدث السوري تراجع فعلا بعض الشيء، غير أن ذلك لم يحدث لأن الخليج يركز اهتمامه على مصر، بل بسبب حجم التدخل الأميركي الروسي في المعضلة السورية، ووصوله إلى لحظة مفصلية سيتقرر بعدها ما إذا كانت سوريا ستضيع في النفق المظلم الذي دفعت إليه بمدافع وصواريخ نظامها وحلفائه، أم ستذهب إلى حل سياسي يخدم مصالح الدولتين الكبيرتين، يأمل السوريون أن يخدم مصالح شعبهم أيضا، ويحقق بعض مطالبه كالحرية والكرامة.
– سيعود الخليج عامة إلى الاهتمام بسوريا، بسبب التطابق الجزئي في مصالح الطرفين، مهما كان محدودا، ولأن الخليج لا يستطيع الخروج خالي الوفاض أو مكشوفا ومهددا من صراع انخرط فيه بقوة، وبذل جهودا جدية كي لا يدفع بدوره ثمنه أو كي لا يكون حله على حسابه.
– ليست أزمة مصر من النوع السوري، ولن تنتج عنها الآثار المرعبة التي أنتجتها مأساة سوريا الشهيدة. هذا ما يراه كل من له عينان، ولا أظن أن الخليج لا يرى ما يراه الجميع، وخلاصته أن ما يجري في سوريا هو الأخطر عليه وعلى العرب، منذ اتفاق «سايكس بيكو» وسقوط فلسطين وحتى انطلاق ثورة عام 2011، وإن عليه المسارعة إلى حسمه قبل فوات الأوان، وإلا قاد إلى هلاك السوريين اليوم والعرب غدا، وخرج عن السيطرة، وانتقل إلى بلدان تبدو اليوم بعيدة عنه، ولكن أقل بكثير مما كانت سوريا تبدو قبل ثورتها بعيدة عن الموت والدمار!
الشرق الأوسط