تبديد السوريين وحركتهم في وجوه خارج متناسل
وضاح شرارة
في عود على بدء أو تكرار تجيده عادة أجهزة الدعوة والتحريض في الانظمة المحاربة والأحزاب المناضلة، استقرت بعض المقالات التي تعقبت أحوال الحركة السورية على “دولة” الاسد على تشخيص مادي واجتماعي للحركة لم تنفع سنتان وبعض السنة، وحوادثها العاصفة، في تغييره. فالحركة، على ما ترى هذه المقالات، “حراك” في الريف الكردي والعشائري البلدي، و”أرياف” دمشق وحمص وحماة في الوسط. ويقتضي التبويب او التصنيف هذا استثناء مدن أو مدائن درعا وحمص وحماة، من غير تعليل مادي واجتماعي، ولا تعليل سياسي، ظرفي أو تاريخي أو بنيوي يرجع الى مسألة عامة عالقة، أو عامل ناجم عن عمل المؤسسات أو كبحها، ولا ينفك يغذي النزاع ويجدده. والسبب في اقتصار مسرح حركة الاحتجاج السورية والقيام على نظام راسخ منذ أقل من نصف قرن بقليل، على الارياف هو “تدهور الزراعة” جراء “ليبرالية” الاجراءات الاقتصادية منذ العام الثاني لولاية الاسد السلالي الثاني الى أواخر العقد الاول. والسبب في إمساك مدن مثل دمشق وحلب عن الانخراط في حركة الاحتجاج، فالانتفاضة على الحكم البيروقراطي والعشائري الريعي، هو كذلك “الاقتصاد”، على قول بعضهم ملمعاً إلماعاً لا يحتاج الى تعليل والى طول شرح.
أرياف
ومعنى “تدهور الزراعة” هو قدوم الحراك المسلح من الارياف، ودخوله على المدن الساكنة سكون الرضا، والمنقادة الى قيادة بشار الاسد والى طبقاتها الاجتماعية المسيطرة، طائعة ومختارة. وحمل “الحراك المسلح” على أرياف بعض المدن الكبيرة، دون نواتها المدينية الاصلية، يقصد به التنويه باصطناع الحركة، ونزولها على اهل المدن نزول عامل خارجي ومقحم عليها. ولا ريب في ان وصف أحوال الارياف السورية بـ”التدهور” دلالةً على فظاظة الواقعة، يناسب فظاظة الليبرالية “المتوحشة” ويكافئها. وبعض من يذهبون هذا المذهب يعللون “حوادث” حلب وحماه، على ما يقولون في حرب أهلية دابة ومتقطعة قبل ان تنقلب مجزرة أو مقتلة ارهابية جماعية، بحراك “فئات وسطى مدينية”. وهؤلاء مقيمون على أمانتهم لمعالجة “اجتماعية” وطبقية لا تغني عن السياسي وحسب، بل في مستطاع صاحبها إعمالها في نقد السياسة، والتنبيه الى افتعالها وتخلفها وتأخرها، وذلك في مرآة السلاح الفلاحي أو الزراعي الناجم عن سبب كدر وغير صاف هو الريف. فكيف به إذا كان ريفاً متدهوراً، ومتحدراً من ليبرالية لا جدال في عكرها، زيتاً وماء؟ ومدينية “حوادث” حلب وحماه وجسر الشغور (ادلب) إذا كانت تعليلاً اجتماعياً وافياً لخروج بعض “الاخوان” على حافظ الاسد، فما هو تعليل عنف القمع وعنف الانتفاض؟ أم أن عنف القمع في غنى عن التعليل؟ ولو الاجتماعي “الطبقي”؟ إن في الامر لبساً، ولأمر ما جدع أنفه قصير (وهو غير القصير التي “حامت” عنها كتائب قاسم سليماني اللبنانية وقلبت السحر على الساحر)، على ما كانت الزباء قالت.
والارياف التي تحمل على مصدر السلاح المقحم على المدن الكبيرة والناعمة باقتصاد غير ليبرالي، تُجمع في باب مشترك وواحد. وبعض المراقبين لا يقرون بهذا الرأي ولا يرونه. فالعسر الذي اصاب الريف السوري الشرقي، في طرف البادية السورية على الحدود العراقية، يعود في معظمه الى الجفاف الذي ضرب هذه الجبهة من البلاد، وليس الى اجراءات ليبرالية أو غير ليبرالية، وحمل شطراً من اهلها الى اللجوء الى طرف البادية الجنوبي والحوراني. ويزعم بعض المراقبين العاملين في مكاتب وكالات الامم المتحدة بالاردن أن ريف درعا لم يكن يشكو “التدهور”، بل ان توسع المبادلات مع الشمال الاردني، وزيادة حصة الزراعات التجارية منها، وتعاظم دور بعض الدرعاويين السنة في الادارة الاسدية (فاروق الشرع وفيصل المقداد درعاويان)، هذه العوامل حفزت اقتصاد الجنوب الزراعي، وصورت لأهله انهم يرتقون المراتب الاجتماعية. فكان وقع الإهانة “الامنية” عليهم جزاء كتابة بعض اولادهم على جدران درعا ما بدا استباقاً لرغبة شعبية وسورية عميقة، أليماً ومخيباً. وأرجعتهم الاهانة والتمثيل بأحد الاولاد، الى حقيقة المكانات والمراتب والكرامات في “دولة” عصبية وبوليسية.
والتردي الذي عانت منه بعض الفئات الاجتماعية السورية، أحدُ عوامله المنافسة الحادة التي أصلاها تحرير جزء من التجارة بين تركيا وسوريا. فظهرت هشاشة بعض الانتاج الحرفي والصناعي المحلي حين مقارنته بنظيره التركي. ولكن فئات اخرى عاد عليها تحرير التجارة الجزئي بمنافع ومزايا لا تنكر. وهذه الفئات في الحالين معظمها مديني. وأما أثر الازمة المالية والاقتصادية العالمية، منذ صيف 2007 ثم خريف 2008، في الاقتصاد السوري فغير مباشر، وحلقته الوسيطة هي اقتصادات المهاجر العربية والخليجية وانكماشها الجزئي، وأثر ذلك في العمالة السورية. ولا يفتأ حكام سوريا وموظفوهم الماليون يرددون، مزهوين، ان الاقتصاد السوري قليل الانفتاح (على المعنى الساداتي الاميركي)، ومعاملاته مع الخارج ضعيفة. وهذا من اسرار “مقاومته” آثار الحروب الاهلية التي تعصف بالبلد الآمن والمستقر والمختلف، واقتصار خسارة عملته طوال سنتين وقبل انهيارها الاخير الى 240 ليرة سورية لقاء دولار واحد، على نحو 120 في المئة من سعر صرفها الموحد.
وحملت الازمة العالمية وتضييقها على التسليف المصرفي، ولو كان متواضعاً على ما هي حاله في السوق السورية، مُلّاك الارض ومؤجريها الى مزارعين وفلاحين على زيادة ايجارها، واستعجال تحصيله. ولاحظ الامرَ صحافيون ومراسلون في اثناء تجوالهم في الجنوب، وفي ريف دمشق، وحول حمص وحماة ومدن الجزيرة والقامشلي المختلطة. ولا تبدو آثار فروق الحال هذه في توقيت الانخراط في الانتفاضة. وتشذ اراضي العلويين وأريافهم عن الرصد المادي الاجتماعي، وعن قوته التعليلية. فينبغي توقع انفجار الانتفاضة أولاً في ريف هؤلاء “المتدهور” لولا ان الانتفاضة حركة سياسية في المرتبة الاولى، ويتصدر الدواعي اليها داعي فك قبضة الطاقم الاستخباري والعسكري العلوي على السلطة والادارة والريوع والتمثيل. فكان من العسير على الارياف العلوية القيام على من يباشر السلطان باسم اهاليها منذ نحو نصف قرن، ورَفَعهم جماعةً فوق السوريين، وسودهم عليهم، على رغم حصر المنافع في قلة منهم، والاخفاق الذريع في انشاء “بورجوازية” من هذه القلة.
وحين يتطرق اصحاب المقالات المادية والاجتماعية الى اهل الارياف الذين ادخلو حراكهم المسلح على اهل المدن بينما هؤلاء متمسكون بالفرجة على الانتفاضة، ومراقبتها من بعيد، والاقتصار على تظاهرات طالبية أو “ثقافية” قليلة إسهاماً فيها، يختل الميزان الاجتماعي، والريفي. فالمسلمون الذين أقحموا العمل المسلح على دمشق وحلب وإدلب والرقة والطبقة بعد عامين كاملين من بدايات الانتفاضة، أو “الحراك” على ما يؤثر اصحابنا القول والكتابة، بعد أن مالوا الى قول “الازمة” ليسوا من ارياف هذه المدن، المتفاوتة كثيراً، بل هم، على قول القوم أنفسهم، “سلفيون مسلحون”. وقدموا، شاكي السلاح وعظيمي الثراء، من “ارياف” نائية، بعضها باريسي وبعضها مدريدي وبرشلوني، وبعض ثالث تونسي ومغربي وخليجي، الخ. وعليه، فـ”التدهور الزراعي” والليبرالي قد لا يكون عاملاً نفاذاً في تعليل حرب هؤلاء على كتلة سوريا طهران الحرس الشيعي اللبناني عصائب اهل الحق العراقيين البطاطيين.
والحق ان التحليل المتعرج، والمليء بالمصادرات والقفزات البهلوانية والغاص بعرائش ودوالٍ من المسكوت، ليس لوجه الاجتماعيات المادية والطبقية. فهو ذريعة الى قصد معقد وعرائشي بدوره قد لا يستوفي اختصاره القولُ انه يرمي الى التشكيك في مكانة المجلس الوطني السوري التمثيلية والسياسية، سلف الائتلاف الوطني السوري ومكانته. وبعض وسائل التشكيك وآلاته، بعد حمل المعارضة المسلحة أو المعارضات على “ارياف” مختلطة ومبهمة موشومة بوشم ليبرالي، أشد بعض هذه الوسائل هو مقارنة القوى السياسية الظاهرة على مسارح التمثيل والمفاوضة والاتصال بقواعدها الاجتماعية المفترضة، وقياس الاحجام في ميزان هذه القواعد وكأنها معروفة. فإذا كانت قوى المعارضة المسلحة ريفية او حتى “أريافية”، وكانت قوى “الاخوان” مدينية تعريفاً، وإذا غلب “الاخوان” هؤلاء على تمثيل الثورة السورية، على رغم ضعف أوجها المديني واضطرارها الى استيراد قوى مقحمة على المدن من الارياف، فهذا، أي غلبة “الاخوان” على المجلس ثم على الائتلاف وتصدرهم تمثيل قوى الثورة السورية والسوريين المنتفضين على الاسد الثاني ورهطه الدموي، لم يجز ولم يفهم إلا من طريق عامل خارجي، على مثال اقتحام “الارياف” المتدهورة، وأهلها من فلاحين بدو أو بدو فلاحين، المدن العريقة والرافلة في تقاليد موروثة من الاعيان والتجار والفقهاء والقادة واهل الادارة و”ثقافتهم” الراسخة والمتينة.
الخارج
ولا يوصف “الاخوان” بصفات المدن الممتنعة منهم وعليهم، ولو بصفات اهلها الممتنعين من الثورة وعليها. فهم غاية طموحهم احتسابهم في “فئات وسطى مدينية في حلب وحماة واللاذقية” مع بعض بلدات محافظة ادلب، لا يتعدونها ولا يتخطونها، لا عراقة ولا ثقافة ولا وقتاً. فإذا بهم “يفاجئون” الجمهور أو الملأ بإعلان مراقبهم العام “خارج السياق”- على قول بعض كتاب من يسمون (كانوا؟) أنفسهم معارضة الداخل، وهذا يتفق وحال “الخارجية” التكوينية التي تصيب فريق التمثيل… الخارجي عن “دور فاعل في “الحراك السوري” يتولونه بعد أقل من اسبوعين على بدئه، “وهو الذي كان مثل السيل العفوي الذي اجتاح بشكل مفاجئ مجرى نهر قديم توقف عن السيلان تسعة وعشرين عاماً”. فلا يعقل أن يصدق إعلان المراقب العام. ولا يعقل ألا يرتبك المهندس رياض الشقفة بينما هذا “الشيئ “يقصد الحراك” أربك وفاجأ السلطة والمعارضة معاً، من حيث كونه مجهولاً بملامحه ومحملاته ومساراته…” ، على قول كاتب الداخل نفسه. فلا ريب في ان الدور المزعوم لا يعدو الاعلان، على المعنى التجاري الرخيص. وهو دور مستحيل أو ممتنع، للعلل التي سلفت وتعددت الى ان بلغت مرحلة “المجهول”. وما يقوله الكاتب السوري الفرد تورية، يقوله بيان إحدى الحركات اليسارية الجماعيرية العريضة في سورية صراحة: “… راحت الاموال التركية والقطرية والسعودية والاميركية تهطل زخاً على مختلف المناطق، وتسلمت جماعة الاخوان المسلمين دفة الاموال… أصبح الاخوان المسلمون طرفاً اساسياً (وكان تأثيرهم قبلها صفراً في الداخل السوري)… (افتتاحية “الآن”، لسان حزب العمل الشيوعي في سوريا، عن “الاخبار” البيروتية، 30 نيسان 2013).
فمن طريق حلقات “الارياف المتدهورة”، والاجراءات الليبرالية التي فاقمت تدهورها وأخرجت أهلها من ملاذاتهم الهانئة ورمت بهم، مدججين بالسلاح ومتخمي الجيوب بالمال وسلفيين ظلاميين، في شوارع المدن السورية العريقة والمحصنة من “الترييف” (على رغم ملاحظة صاحبهم وصاحبنا التي ترقى الى السبعينات على “ترييف المدينة” السورية في المرتبة الاولى)، وانقلاب “الاخوان المسلمين” بين فتحة عين وإغماضتها الى قوة مهيمنة على التمثيل “الديبلوماسي” في الخارج من طريق هذه الحلقات، وتقريرها الذي لا يعقل الشك فيه ولا سند له إلا التخمين والحدس النظريين، يفصل نقادُ “الثورة المضادة” في الداخل وثورة “فنادق الخمسة نجوم” في الخارج، التركي القطري- الاميركي أولاً، فصلاً قاطعاً ثورة هائمة بين الاقبر والانقاض والاشلاء الممزقة والراغية في الداخل وعلى الحدود السورية الكثيرة، من اطياف تمثيل خارجي، اخوانية أو سلفية. ولا يتنافس النقاد والمنكرون وأهل الداخل المديني، وخصومهم “القطريون” المفترضون والحالمون بتدخل خارجي على مثال مقاتلة “الارياف” السلفيين والمسوِّدين، على إثبات هوية لقوات الثورة في الداخل، وعلى إيجاب جسم متماسك لها تحله أو تحل فيه بعد تطوافها الأليم.
فهذا تنافس لا يطمع فيه اليساريون وأصحاب “التغيير الديموقراطي” في الداخل والمهجر، أو هم تخففوا من اعبائه: “(اليسار) لا يقبل ان يرتشي ويرتهن لأحد من جهة، ومن جهة أخرى إذا كان لا يملك الاموال فلا مكان له في مطبخ المجموعات المغزوة بالدولار الاخضر (…) فعلى أي جانبيه اليسار السوري- يميل!” (افتتاحية “الآن”). فهذا سرير بروكوست آخر ومحدث بعد سرير سابق، سوري كذلك، في السبعينات المنصرمة، خيَّر اليساريين بين الانخراط في معركة قومية فاسدة ومفسدة وبين اعتزالها والرضا بالشلل والعقم والنزاهة. والفصل، اليوم، بين ثورة من غير جسم ولا إسم وبين قوى مقاتلة صادرت الثورة المفترضة على أدوارها (وأولها قتال النظام العشائري والريعي والبيروقراطي وإسقاطه)، وعلى مسارحها وبلادها، لا يسد طريق البحث عن الثورة على اليسار واليمين والوسط، وحسب، ويبدد فكرة الثورة ومعناها في مثال ليس من هذا العالم ولا يبلغ، كذلك. فهذا الفصل، وعلى هذا النحو، يصم السوريين الذين يقاومون قوات الرهط الاسدي على وجوه ومقاومة كثيرة وباهظة ومريرة بالعدم واللاشيء (على خلاف “الشيء” الذي وصف بهم أحدهم حركة السوريين وقيامهم على “دولة” العصبية المستولية). ولا يبقي مجالاً للسعي السياسي ومضماراً إلا المنافسة على الخارج، الديبلوماسي والعسكري والمالي والإغاثي والسعي في استمالته، والمفاضلة بين أنواع هذا الخارج وصنوفه وسياساته، والانحياز الى خيرها وأفضلها، والاعتصام بخيره وفضله.
وهم يجدون من سبقهم الى طرق هذا الباب، والانتظار في أفنيته. وأول هؤلاء، من غير منازع، بشار الاسد نفسه وأجهزته الاستخبارية وآلة دعايته اللجبة، ثم حلفاؤه ورعاته الاقليميون والاهليون الذين انقلبوا تدريجاً الى أوصياء عليه، وعلى “دولته” ومواليه، ثم الرعاة الدوليون وهم مزيج من تجار سلاح وموظفي أجهزة. فهم أجمعوا، منذ اليوم الاول للانتفاض على العصبية المستبدة والثقيلة، على ان المطالبين بكرامتهم المهدورة منذ عقود، والبارحة القريبة، ليسوا إلا “مخربين” في لغة استخبارية اسرائيلية عريقة، وآلات طيعة بيد طائفية ومتحاملة على “القلعة” العروبية والمستقلة، وأهل ردة وفتنة يجوز قتلهم وسبيهم، الخ.، على فقه الشيخ البوطي والشيخ حسون ومشايخ كثر حليقين وغير معممين. ونحا هذا التشخيص الى نفي دواع داخلية لقيام بعض السوريين على العصبية المستولية وبيروقراطييها البوليسية الفظة. فالنظام العصبي والبوليسي الاسدي على زعمه وزعم “نخبه” لا داخل له، على معنى الداخل الذي يفترض كثرة القوى المتنازعة وخلافها على مصالح متفرقة وعلى حصتها من صورة الدولة والمجتمع الوطنيين والمشتركين. فهو كله، وفي اجزائه كلها، كتلة متصلة ومتجانسة ومتناغمة لحمتها الرابطة العصبية القومية والمذهبية ومقاومة الخارج (الاستعماري…) مقاومة جوهرية ووجودية تحت راية مقدسة (الاسلام، فلسطين، الشريعة، الحسينية، الارض والعرض، الامة وغيرها مثلها). ويتصدر “مبدأ القائد”، على مثال “مبدأ الفوهرر” أو المرشد الجامع شرائط الإمامة والقيادة في شخصه المقدس السر وفي طبعه، الرابطة المتماسكة والعضوية.
وعلى هذا، لا شقاق في الواحد، ولا كثرة، ولا فُرقة. ولا يجوز حمل الخلاف أو مناقشة الجزئيات والكليات على حد سواء، على غير المروق والعمالة، أو الحرابة والفتنة، في لغة القوم الآبدة وأحكامها القاطعة. وهذا الخارج الذي لا يستقيم تعليل خلاف أو انقسام داخلي إلا به، إذا لم يكن ماثلاً وملموساً في صورة سلاح أو مالٍ أو برقية ديبلوماسية مقرصنة، سعت العصبيات المستولية المتصل بعضها ببعض والمختلطة الرجال والسلاح والمال، في استحضاره، والاستدلال على فعله وإذيته من طريق صحافي ضل الطريق، أو صورة محملة على وسيلة اتصال، أو (لم لا) قتيل تحت التعذيب في معتقل ذراع أمنية فرعية وسرية “خفيت” عن عين القائد. ولكن التجربة أثبتت من غير لبس أن سياسة الارض السياسية والاجتماعية والثقافية المحروقة، سياسة البطش والافقار والبطالة وتجريم التضامن والتهمة المسلطة على الجميع من غير استثناء وإنكار جواز الحقوق في العلاقة بالسلطة هي مجتمعة، حيز تمهيد لتفشي التعصب: عصابات وانحيازاً الى أحكام حرفية وشعائرية وطاعة الامراء يؤمَّرون على العقول والدماء والاموال والفروج. وعلى هذا جرى النظام العصبي السوري قبل ولادة النظام الخميني بعقد وبعض العقد.
ومنذ خطو الحركة الديموقراطية السورية، بقضها وقضيضها “الاريافي” والاسلامي واليساري و”غير الحكومي” والشبابي والاقوامي والمدني والعسكري والاهلي والطفيلي والجانح، خشي فريق من المعارضة اليسارية والعروبية الفلسطينية السابقة مترتبات معارضة النظام العصبي والبوليسي الريعي معارضة رأسية والخروج عليه. ولا شك في ان هذه الخشية استقت مصدقاتها وحججها من تجربة قريبة وحميمة وقاسية بطاقم النظام البوليسي والاداري والحزبي الاعلامي. وهي استقتها كذلك، على زعمي، من مشاطرة طاقم النظام المستولي بعض أحكامه الجوهرية وآرائه في الدولة والقيادة والسيادة والقومية والوحدة الشعبية والاستعمار والغرب والرأسمالية. وهذه الاحكام والافكار هي من مخلفات و”ثوابت” ثقافة سياسية سورية، بطولية ونخبوية فوقية، لم تعف عن القلة القليلة من عقلاء السياسيين السوريين في عصور غابرة من امثال خالد العظم، ولم يتخفف منها حزبيون سابقون اختبروا سرير بروكست الذي مرت الاشارة اليه، ولم يخرجوا من الاختبار بفائدة (وهذا ما لا يلامون عليه، إذا شاء أحد الانتصاب للملامة!).
“الحل السياسي”
ولكن الخشية الحقيقية وغير المصطنعة من انفلات العنف من عقاله، وطاقم العصبية المستولية هو على ما هو عليه، ما كان لها ان تتحول عاملاً سياسياً، على ما أراد اصحابها، إلا إذا سعى الرهط الحاكم فعلاً في مخرج سياسي، ورضي النزول عن بعض امتيازاته وتقييدَها بحقوق “الشعب” السوري في المراقبة والتمثيل، وبحقوق الجماعات في الهوية والقرار. وخشي بدوره مآل انفجار العنف في سوريا. وهو، الرهط الحاكم، حسب انه سوّى سوريا على مشيئته، وأوهمته “هي” انها تشبه مثالها الاسدي: قطعاناً من الخائفين والجشعين الأنانيين. ولمَّا بدا ان “الجبنة” الاصلاحية التي يلوح بها الاسد (المزعوم) الثاني فاسدة وعفنة، لم ييأس الفريق اليساري من المعارضة. ومذ ذاك، اي منذ ابتداء القيام على الحكم، الى اليوم، وبين الوقتين محطة بيان جنيف في حزيران 2012، و”الحل السياسي” يبحث عن مضمون ومسار إجرائي، وعن أصحاب وأهل يتبنونه. وحسب الفريق اليساري انه هو صاحب الحل السياسي، وليس داعيته الخاوي الوفاض فحسب. فدعا الى اتفاق روسي اميركي، لعل العامل الروسي، وهو سند الرهط الاسدي المسلح والسياسي، يوازن العامل الاميركي والاقليمي الحليف، وهو سند مشتت ومتحفظ وحذر للمعارضة على اختلاف مشاربها، وعامل مؤثر في كثرة المشارب هذه وفي تنافسها واقتتالها على مكانة بارزة عسيرة.
وماشى الفريق النظام المستشرس، ضمناً، على حمله المعارضات المتفرقة، والمتقاتلة في بعض الاحيان والمتنافسة في الاوقات كلها، على معارضة واحدة، مسلحة وقاعدية وإرهابية. وعجز، شأن النظام وسنده الروسي والسند الايراني، الذي يسكت هذا الفريق من المعارضة عنه وعن تورطه المذهبي المباشر والمتعاظم في الميدان السوري اليومي، عجز عن جلاء أضعف معنى للحل السياسي: كيف يبدأ وقف القتال؟ وكيف يتزامن وقفه؟ ومن يتولى مراقبته؟ وتعثرت بالاجابة عن هذه الاسئلة الابتدائية “المبادرة” العربية، ثم مهمة أنان الدولية. وتعثرت مهمة الموفد الدولي والعربي الاخضر الابراهيمي بالاسئلة السياسية التي تقوم نظير الاسئلة الميدانية الاولى: كيف يعلن النظام الخروج من جلده وإهابه، ويخلع وهم إحاطته الشاملة بالدولة؟ وعلامة هذا الخروج أو أمارته الفارقة هي اسم العلم على المرحلة الانتقالية وطاقمها أو وزارتها والمفوض صلاحياتها. وحين يتطرق حسن عبد العظيم، رئيس هيئة التنسيق الوطني للتغيير الديموقراطي (“الحياة”، 30 نيسان)، الى هذه المسائل من باب تناول المفاوضة الاميركية الروسية، عشية زيارة جون كيري موسكو، يرى 3 مشكلات تعترض طريق “الحل السياسي”: 1- تعويل اميركي على تغيير ميزان القوى العسكري من طريق تسليح قوى المعارضة (“وترى موسكو أن هذا يعقد الحل” على قول عبد العظيم) 2- سعي اميركي في الاتفاق على تفاصيل المرحلة الانتقالية كلها وعلى الاسماء والمناصب (“فيما تريد موسكو اتفاقاً عاماً… وأن يترك للسوريين الاتفاق على المرحلة الانتقالية”)، 3- زعم اميركي يقصر تمثيل الشعب السوري على “الائتلاف” (” في حين تدعم موسكو تعاوناً بين قوى المعارضة خصوصاً هيئة التنسيق ومؤتمر الانقاذ…”).
وليس مصدر الكوميديا السوداء التي ينم بها كلام حسن عبد العظيم هو الجد الصارم والوديع الذي يتناول به الرجل الوقائع السورية المختلطة والمواقف المقنعة والمراوغة والمتجاذبة منها، وحده. فالأثقل وقعاً كوميدياً وأسود هو الغفلة المطبقة عن حوادث المسرح أو الميدان السوري وأطواره، وعن علاقة واشنطن وموسكو والنظام و”الائتلاف” و”هيئة التنسيق” بالحوادث ومسرحها وأطوارها. فالمسألة السورية يختصرها التسليح وأسماء وزراء المرحلة الانتقالية وحصة “هيئة التنسيق للتغيير الديموقراطي” من التمثيل، والخلاف الروسي والاميركي عليها. وهذا مآل من مآلات إنشاء سوريا والسوريين على المثال الاسدي، العصبي والبيروقراطي الأمري والريعي، واستئناف سوريين كثيرين هذا المثال “الخارجي” في تأويلهم الحوادث وتعاطيها. وهو تشترك فيه الانظمة المتسلطة المتحدرة من الخمسينات والانظمة الريعية والاسرية القديمة، معاً. فهو “عربي”، عميق العروبة أو العروبية. ويشترك في “لغته”، وتداوله في الامور وتخطيطه لحلولها والبت فيها، مع مثالات أخرى سائدة أو متخلفة عن مثالات متحللة مثل المثال الحرسي الايراني والمثال “السوفياتي” و”القيصري” البوتيني والمثال “الاخواني” والسلفي الحركي والاستيلائي. وترد هذه المثالات، أو بعض وجوهها، من طرق متعرجة وكثيرة الى مرجع كولونيالي وتوسعي قامت وتقوم سياسات غربية (الى وقت قريب) واسرائيلية علماً عليه.
فيعوَّل في “الانتقال” المفترض من السلاطة العصبية الاسدية وهذا ما لم يخطر ببال رهطه وأركانه، ولم يقر به بوتين وأعوانه، ويقول خلافه ونقيضه عشرات جنرالات الباسدرات البحريين والجويين والبريين صباحاً ومساءً الى ديموقراطية مدنية وتعددية، يتولاها الائتلاف الوطني السوري في عهدة أصفار “الاخوان” و”الأريافيين”، بعد أن يدعو هيئة التنسيق الى اعتلاء مكانتها الشاغرة ويقر لها بهذه المكانة. ووالدة هذه المعجزة هي المفاوضة الاميركية الروسية. ويعوَّل على “حل سياسي” ناصع، لم ينفك الائتلاف الايراني الحاكم، تحت عباءة الخامنئي القائد وفي ظل السلاح الصاروخي الحرسي والاذرع المحلية والمذهبية، يدعو اليه ويعمل في سبيله، من طريق “اصدقاء حقيقيين لسوريا في المنطقة والعالم لن يسمحوا ان تسقط بيد أميركا أو اسرائيل أو يد الجماعات التكفيرية”، على قول الخطيب الحرسي المحلي وناظر الاضرحة المقدسة الأمين. وهؤلاء قاموا مع “الجيش السوري واللجان الشعبية (و) المساعدة المناسبة بمواجهة المسلحين… وانقلب السحر على الساحر”. وعلى المنوال نفسه، يهزم “الاصدقاء الحقيقيون” “كل الذين يقفون خلف الحرب في سوريا (وهدفهم) تدميرها كدولة وشعب ومجتمع وجيش”، وينجزون الحل السياسي المنتظر والمأمول. و”(تمسك) إيران وحزب الله بكامل القرار في الملف السوري”، وتنتقل “سلطة دمشق على الاسلحة الاستراتيجية الى أيدي إيران وحزب الله”، على ما يكتب مطمئناً الى بصيرته الاستراتيجية ، قبيل الغارات الاسرائيلية على قاسيون، معلق باسيجي. والخطيب الحرسي يقول قولته هذه، ويشكر الله على نعمه. ومنها انه “كمن يتكلم باسم حلفائه جميعاً، الاقليميين والدوليين، وهو الذي التقى… مبعوث الرئيس الروسي… ميخائيل بوغدانوف، وتعمد قبل أسبوعين نشر صورة له تظهره الى جانب مرشد الجمهورية الاسلامية في ايران السيد علي خامنئي…” على قول الملحق الصحافي والاخباري الحرسي في لبنان. فالكتابة باللغة المسمارية، أو بالاشرطة المصورة، هي البلاغة ونهجها المعاصر الاسمى.
المستقبل