“تجربة الترجمة”: تأمل عبور قوارب لغوية
عبد العزيز جدير
قليلة هي الكتب التي تتناول الترجمة في اللغة العربية، وأقل منها تلك التي تتناول تجارب المترجمين بالرغم من تنامي عددهم في الوطن العربي. يختلف الوضع في لغات أخرى، خصوصاً “اللغات المركزية”، وقد صدر مؤخراً كتاب في هذا السياق بعنوان “تجربة الترجمة”، عن دار “هونوري شمبيون” في باريس، وهو كتاب جماعي أشرف عليه كل من الأكاديميين: الفرنسي جان روني لادميرال والمغربي محمد جدير.
في توضيح نوع اشتغاله على التَرجمية Traductologie، يبيّن لادميرال أن الحديث التقليدي عن “مسائل الترجمة” يجعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بطبقة ملحقة باللسانيات، أُدرجت ضمن ما يسمّى “اللسانيات التطبيقية”. ويشير إلى أن الترجمية تنضوي تحت ما سمّاه “الثالوث المتكامل معرفياً”: المنهجية ومصطلحات اللسانيات من جهة، والتأمل والمفهمة من جهة أخرى، وثالثاً في الثقافة التي تزوّدنا بها الفلسفة، طالما أنه يتعيّن أيضاً رصد المعنى المستوحى من الرسالة، والمتموضِع بين الضائع من النص – المصدر، والممكن من النص الهدف.
ولعل ما يميّز الترجمة أنها تُحدث تطابقاً بين ثلاثة مستويات مختلفة: الممارسة الترجمية، والنظرية الترجمية، والنظرية الواصفة المعرفية. ويُذكّر لادميرال بأن الترجمية باب من أبواب الأدب المقارن، إضافة إلى تقاطعها مع علم النفس، إذ يتعيّن على الدارس أن يأخذ “ما يدور في رأس المترجمين” بعين الاعتبار.
من جانبه، يشير جدير إلى ندرة الكتابات في التجارب الترجمية؛ حيث يكتفي المترجمون بكتابة تقديم قصير تحت اسم “تقديم المترجم” (أو خاتمته)، للتعريف بالكتاب المترجم، وهو ما يطمس الحديث عن تناول مشاكل الكتابة التي اصطدم بها المترجم. ثم يضيف “وحين نعطي الكلمة للمترجمين [في هذا الكتاب] فلأننا نريد أن ننخرط ضمن التقليد الذي سنّه أمبرتو إيكو في كتاب “قول نفس الشيء تقريباً: تجارب في الترجمة” أو لادميرال ضمن كتابه “التنظير في الترجمة”..”. يذكر هنا أن لادميرال وإيكو، وانطلاقاً من تجربتيهما، ينتقدان تجارب التنظير التي لم تقم على ممارسة الترجمة.
تنقسم البحوث التي يتشكل منها الكتاب إلى جزأين. في الأوّل، عولجت القضايا النظرية للترجمة، ومنه نقرأ “تجربة مترجم، تجربة الترجمة”، لـ جان – إيف ماسون؛ حيث يقدّم تصنيفاً لمفهوم “تجربة”، ويميّز ضمنه ثلاثة معان حين يقترن بكلمة ترجمة: إذ يعني خبرة المترجم خلال عمله، ويحيل إلى البعد الذاتي للنشاط الترجمي، ويعني المهارة التي راكمها المترجم عبر ترجماته المختلفة.
تلي ذلك مساهمة الباحثة الإيطالية سيلفانا بوروتي والتي حملت عنوان “ملامح فلسفية لتجربة الترجمة”؛ إذ تعالج مشكل العلاقات بين تجربة الترجمة والمعرفة من أجل أن تبيّن أن الترجمة ليست مجرّد نقل لساني يتعلق بالمعاني، ولكنها تمثّل أيضاً حركة تتعلّق بالمصطلحات، والمعرفة، وأنطولوجيا المواضيع المرتبطة بالعلاقة الترجمية. ونتابع مع يانْ والغافَنسْ عبر بحثه “من الهاوي إلى الأكاديمي، رحلة مترجم”، المسيرة المحترفة لعالِم لغة متخصّص في اللغات الجرمانية طُلِب منه إنجاز ترجمات في كل المجالات والسياقات، وهو نموذج يُمكّن من دراسة التداخل الثقافي.
في القسم الثاني من الكتاب، يقدّم المترجمون تجاربهم الشخصية في ممارسة الترجمة. من هؤلاء، فرانسواز فيلمارت، في مقال بعنوان “شغفي بحسب سان جيروم… أو أصوات الحظ”، أين تعتبر المترجِم الأدبي كاتباً بالمعنى الحقيقي، وأنّ سكب عمله في مادة لسانية أخرى هو عملية كتابة خالصة وإبداع شامل، فالتحويل الذي يهدف أن يكون “أميناً” سيعيد خلق الآثار نفسها داخل اللغة الهدف، وهو أمر لا يمكن أن يتحقّق إلا إذا استمع المترجم إلى “صوت النص”. فالكاتبة تميّز بين الكتابة الذكورية والنسائية على أساس المتخيّل وبنية اللغة المختلفين في الحالتين معاً.
أما الخط الناظم لبحث المترجمة الرومانية صونيا بيربانسكي، “الأمانة غير الأمينة: رفع التحجر في كتابة الرسائل الهجائية”، فهو أن الترجمة مفاوضة. فمن جهة، يجب مفاوضة قلق المترجم في أن لا يخون قصد النص المصدر، ومن جهة ثانية، مفاوضة ضرورة الخضوع إلى الضرورات الصرفية – التركيبية، والسيميائية والنصية والثقافية للغة الهدف.
ويلاحظ أن كتاب “تجربة الترجمة” منح مساحة أكثر للتجارب الترجمية وذلك للتخفيف من هيمنة التنظير في الترجمة، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومحاولة ردم الهوّة بين التنظير والممارسة بأقلام كوكبة ممّن مارسوا الترجمة في مجالات متنوعة (الفلسفة، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، واللسانيات، والأدب، ونظرية الترجمة…)، ولفترات طويلة (من ثلاثة إلى خمسة عقود) وتأملوا الممارسة.
هكذا، يحاول الكتاب تثمين عمل ناقلي المعارف، الجنود المجهولين منذ زمن طويل، والمعترف بهم منذ وقت قصير. في زمن سابق، قال سلامة موسى إن أهم كتاب يكتبه كاتب هو سيرته الذاتية، لأنه يعبّر فيها عن صدق مشاعره وما اقترف من تجارب، فهل يمكن أن نعيد القول ذاته عن مترجم يكتب “سيرة” تجربته الترجمية؟
العربي الجديد