تجويع “مضايا” مقالات مختارة
كان من الأفضل لو لم يُكتب هذا المقال/ عمر قدور
لن يقرأ ما نكتب أكثر من أربعين ألف «هيكل عظمي»، تحاصرهم ميليشيا «حزب الله» في مضايا السورية، ولن يقرأه حوالى خمسة وأربعين ألف مدني في معضمية الشام، قد تتحوّل أجسادهم بعد مدة قليلة لتصبح شبيهة بأجساد أهالي مضايا، بفعل سياسة «الجوع أو الركوع» ذاتها التي يعتمدها النظام.
الأمر نفسه ينطبق على المدنيين المحاصرين منذ ثلاث سنوات في الغوطة الشرقية لدمشق، أو على المحاصرين في دير الزور من جهتي النظام و «داعش» معاً. ثم إذا افترضنا أن نزراً يسيراً من هؤلاء أتيحت له نعمة الدخول إلى الإنترنت، من المنطقي أن ينصرف اهتمامه إلى ما يمسّ قضيته، ومن المرجح أن يحظى بخيبة أمل كبيرة، فلا صور تجويعه تستثير العالم لإنقاذه سريعاً، ولا المؤشرات المتداولة دولياً تشي بحل حقيقي بعد حين.
هذا ليس تساؤلاً عن جدوى الكتابة، والقارئ «المفترض» الذي أضناه الجوع لا يتوقع منها تقديم الخبز له، إذا لم نقل إنه أصلاً غير موجود في الحسبان، فنحن نستثنيه مسبقاً، إذ نتوقع انحصار اهتمامه بما يتصل بمعدته والسياسات أو المعارك التي قد توصل الطعام إليها. بالأحرى، خيبة الأمل متأتية من أن معظم ما يُكتب عن المسألة السورية غارق في اليأس، أو في انعدام اليقين من وجود إرادة دولية لحل سريع، أو لحل يتمتّع بحدّ أدنى من الإنصاف.
لندع لغة العموميات جانباً، فهي المرة الأولى في الحروب التي تُخاض فيها حرب تجويع على نطاق واسع تحت مرأى العالم كله. ما قيل سابقاً عن حصار إسرائيل قطاع غزة لا يقارن أبداً بما يفعله الممانعون بالمناطق السورية الثائرة. هي المرة الأولى التي تُخاض فيها حرب أهلية، كما صنّفها الغرب منذ البداية، ويُضمن لأحد الأطراف التفوّق الساحق طوال الوقت، التفوّق الذي يضمن المضي في الإبادة، بينما يُحرم الطرف الآخر تماماً من وسائل الدفاع عن النفس.
اصطناع أعذار للعالم غير مقنع، ولا يتّسم بالأخلاقية أيضاً، فالدول الكبرى كلها على تماس مباشر مع ما يحدث في سورية، والجميع يعلم من التفاصيل أكثر مما يظهر على الشاشات ومما نعرفه بوسائل اتصالنا الشخصية. سياسة «الجوع أو الركوع» التي يعتمدها النظام وحلفاؤه مطبّقة منذ ثلاث سنوات، تخلّلها صدور قرار «غير ملزم» عن مجلس الأمن بإدخال المساعدات الغذائية والطبية إلى المناطق المحاصرة، ولا يكفي القول أن القرار لم يكن ملزماً، فالأقرب إلى الدقة أن الأمم المتحدة لم تتابع تنفيذه على الإطلاق. وإذا ابتعدنا قليلاً من تلك المناطق إلى مخيمات النازحين في دول الجوار، سنرى التطبيق الأمثل لنهج الأمم المتحدة، حيث في كل شتاء يموت أطفال من البرد في تلك المخيمات، ولولا المعونات التي تُقدّم من جمعيات محلية أو أفراد لمات عدد آخر من الجوع، ولولا معونات أخرى مماثلة لنشأ جيل كامل لا يعرف عن التعليم شيئاً.
التطبيق الأمثل أيضاً للسياسة الدولية المتبعة، أن تسرّب دوائر صنع القرار تكهنات بأن الصراع في سورية سيستغرق عشر سنوات، وألا يتسرّب هذا التقدير إلى المنظمات الدولية الإنسانية التي بقيت تتعامل مع الحدث في شكل موسمي طارئ، أو تتجاهله كلياً.
سَوق أمثلة عن تقاعس العالم في أماكن أخرى لا يعفيه من المساءلة، فتكرار الجرائم ضد الإنسانية لا يجعل منها شرعة مقبولة، ولا يجعل السكوت عنها فضيلة. ولئن لم يكن العالم مطالَباً بالتدخل لإنقاذ السوريين، فهو مطالب بأن يكفّ عن انحيازه إلى القاتل، ولئن لم يعد العالم مطالباً حتى بحد أدنى من النزاهة والسماح للسوريين بالحصول على أسلحة تمكّنهم من الدفاع عن أنفسهم، فهو على الأقل مطالب بحماية المدنيين منهم، مع معرفتنا ومعرفة العالم أن المدنيين هم الأكثر تعرّضاً للاستهداف، وبأن حرب الإبادة التي يخضعون لها تتراكب فيها عوامل عدة، منها عامل الإبادة الطائفية الممنهجة.
السوريون جميعاً يدركون أن العالم اتخذ قراره، موالو النظام يدركون ذلك قبل غيرهم، لذلك يتشفّون بالصور الآتية من مضايا وغيرها، ويتوعدون أهالي المناطق الأخرى بإبادة مماثلة. نعم، ثمة استقواء وقح من النظام وحلفائه بالمجتمع الدولي، وليس المقصود هنا سلبية مُدّعاة للمجتمع الدولي، الاستقواء هو بانحياز القوى الفاعلة إلى صف النظام، والانحياز يتضمن الموافقة الضمنية على جرائمه كافة.
التستّر بجرائم «داعش» صار تدليساً لا يمر على أصغر العقول، والتستر بالسلبية أو بضعف الإرادة الدولية أمر مماثل، إنها المشاركة الفعلية في الجريمة. ما سرّبته وكالة «أسوشييتد برس» عن خطة أميركية للحل، لا يعني سوى الاعتراف بشرعية القاتل حتى إشعار آخر، ولا يعني سوى ترك قرار القتل وأجهزة القتل بأمرته لسنة إضافية أخرى ترحل في نهايتها الإدارة الأميركية الحالية. لا كلام في الخطة الأميركية، أو في المخططات الأممية عن وقف الحرب على المدنيين، لا ضمانات سوى للقاتل الذي أباد مئات الآلاف من السوريين بالخروج يوماً معززاً مكرماً كبطل، هذا إذا وافق على الخروج.
بالوسائل كافة يريد العالم إفهام السوريين بأن حقوقهم مهدورة، ومن المحبّذ أن يتذكروا حقوق شعوب أُهدرت سابقاً كي يقبلوا بالواقع. لكن تغييب العدالة لم يكن ناجحاً تاريخياً كما يُراد تسويق ذلك الآن، إلا في حالات إبادة معظم السكان الأصليين في العالم الجديد زمن الاستعمار القديم، وإذا تعذرت إبادة السوريين الآن مع تعذر إقامة العدالة، سنكون أمام إنتاج حرب سورية لن تنتهي حتى خلال السنين العشر المتوقعة. على أقل تقدير، سنكون أمام حرب مؤجلة في انتظار انقضاء الزمن الروسي والإيراني الذي لن يدوم لحلفائه في الداخل أو في الجوار.
مع الأسف، ما نكتبه لن يقدّم الغذاء لأهالي مضايا أو سواهم من ضحايا التجويع، وما نكتبه أيضاً لن يقيم السلم الأهلي، ولن يقيم عدالة انتقالية تشفي من الأحقاد. ثم إننا لا نستطيع القفز على كل تلك الوقائع، والقول أن الشمس ستشرق والعصافير ستزقزق، لذا ربما كان من الأفضل لو لم يُكتب هذا المقال.
الحياة
حاصِر مضايا .. لا مفرُّ/ حسام عيتاني
لا مقامات مقدسة في مضايا. وليست البلدة السورية بقريبة من الحدود السورية- اللبنانية بحيث يُخشى تسلل انتحارييها إلى الداخل اللبناني. ولا أقليات طائفية فيها تتعين حمايتها من بطش التكفيريين. رغم ذلك، لا يجد مسلحون لبنانيون عيباً في إماتة أهل البلدة المحاصرة منذ أكثر من سبعة شهور، جوعاً ومرضا.
كذّبَ إعلام «حزب الله» الحربي في بيان له أمس الأول، الاتهامات بالتسبب في تجويع أهالي المدينة محمّلاً المسؤولية إلى قادة «الجماعات الإرهابية المسلحة» المنتشرين في مضايا باسترهان المدنيين وحبس المواد الغذائية عنهم. كما ذكر الإعلاميون الحربيون أن المسلحين في البلدة سبق أن ذبحوا عدداً من عناصر الجيش السوري وشاركوا في المعارك التي شهدتها بلدة الزبداني المجاورة. وطمأنوا إلى أن كمية من المساعدات ستصل مضايا في الأيام القليلة المقبلة في إطار اتفاق «الزبداني- كفريا- الفوعة».
نسلم جدلاً بصحة ما جاء في البيان، بيد أن صحته (المفترضة) لا تجيب عن التساؤل عما يفعله المسلحون اللبنانيون على الأراضي السورية، ومن هي الجهة التي فوضتهم حل النزاعات بين سكان مضايا وبين «قادة الجماعات الإرهابية» من جهة وبين هؤلاء وبين عناصر الجيش السوري من جهة ثانية.
تتعارض هذه الأسئلة مع الطبيعة الاضطرارية التي برر بها «حزب الله» زجّ الآلاف من عناصره في الحرب السورية، تارة بذريعة الدفاع عن المقامات المقدسة وطوراً بحجة حماية القرى الشيعية قرب القصيْر، وحيناً بهدف منع تسلل الإرهابيين إلى لبنان، وحيناً آخر من أجل الوصول إلى القدس مروراً بالزبداني والحسكة (!!) على ما قال الأمين العام للحزب. وهذه كلها أسباب اضطرارية دفعت الحزب وعلى كره منه، إلى الانزلاق إلى الحرب السورية وتنكُّب أعبائها وأكلافها الباهظة.
والحال أن هذه الجولة السياحية المسلحة بين المدن والقرى السورية والمساهمة في تدميرها وتشريد أهلها –الذين يأتي قسم منهم إلى لبنان كلاجئين- لا تفعل غير تعميق التورط اللبناني بالدم السوري وحفر خندق عميق في مستقبل العلاقات بين الشعبين، على ما بات بديهياً ومكرراً.
مع ذلك، لا يرى الإعلام الحربي في الحديث عن حصار أتباعه المدنيين وتجويعهم وإذلالهم عند حواجزه وقنص من يحاول منهم الفرار من الموت البطيء، غير حملة رامية إلى «تشويه صورة المقاومة»… ألا تستحق مقاومة كهذه تحاصر المدنيين وتتشارك -على الأقل- مع قادة «الجماعات الإرهابية المسلحة» في ترهيب السوريين، وقفة مطولة عن معناها ودورها اليوم؟
في جميع الأحوال، تبقى الحقيقة الباهرة في سوادها، هي أن الحزب يكرس محو الحدود الوطنية اللبنانية كلما صعّد مشاركته في القتال متنقلاً بين مهمات كلها اضطراري وكلها عبثي. وربما لم ينتبه الحزب، أو فاته في زحمة «انتصاراته» من مزارع شبعا إلى ريف حلب، الانتباه إلى أن هناك من احتفل قبل أقل من عامين بتدمير الحدود التي اصطنعها الاستعمار في شرق سورية عندما عبرت آليات «داعش» من العراق.
يضمر «حزب الله» و «داعش» عداء، كل من موقعه، للحدود الوطنية ولما تمثله من علامات قيام الدول واستقرارها. بيد أن العداء هذا الذي يجعل الحزب يحاصر مضايا ويهجّر أهالي القصير، ينتهي عند الحدود الفلسطينية- اللبنانية، فلا ينتقم لقادته القتلى إلا في مكان ملتبس السيادة مثل مزارع شبعا. عجباً!
الحياة
تجويع مضايا/ زيـاد مـاجد
على بُعد ساعتين برّاً من بيروت، يجوع الآلاف من الأطفال والنساء والرجال السوريّين ويموت بعضهم جوعاً.
يجوعون ويموتون، لا بسبب “أعمال حربيّة” أو “مواجهات عسكرية” على ما تورِد بعض وسائل الإعلام فتُجهِّل الفاعل أو تجعل الأطراف المتقاتلة على سويّة في المسؤولية، بل بسبب حصار إجرامي ينفّذه نظام الأسد وحزب الله، ولا هدف له غير تجويع المدنيّين والمقاتلين وقتلهم ببطء بعد العجز عن اجتياح أرضهم وبيوتهم في مضايا والزبداني وبقّين واحتلالها.
على بعُد ساعتين من بيروت إذاً، ثمة جريمة حربٍ تُرتكب. هي ليست الأولى في سوريا.
فقد سبقتها جرائم مماثلة نفّذها النظام الأسدي وميليشياته في بعض أحياء حمص ودير الزور وفي غوطتَي دمشق الشرقية والغربية وفي جنوب العاصمة ومخيّم اليرموك. لكنها هذه المرّة جريمةٌ يرتكبها شبّان لبنانيون لحزبهم وزراء في الحكومة في بيروت وله كتلة نيابية وازنة.
بهذا المعنى، يُحمِّل حزب الله في مشاركته في حصار مضايا التجويعي السلطات اللبنانية جزءاً من مسؤولية الجريمة المرتكَبة، ويحمّل لبنانيين كثراً موالين له وِزر الجريمة الهمجية إياها، مُسقطاً من يدهم الحجج (الساقطة أصلاً) التي برّرت تدخّله في سوريا في العام 2012. فلا “حماية الحدود” تتمّ بتجويع الأطفال السوريّين، ولا “الدفاع عن مقام زينب” يشترط قنص الأمّهات الباحثات عن حليب وطحين، ولا “التصدّي للمؤامرات” يمرّ فوق أجساد المدنيّين السوريّين والفلسطينييّن المُنهكين من منع الدواء والغذاء عنهم.
أما النغمة الجديدة المبرِّرة جريمة مضايا (والزبداني وبقّين) بِحصار نبّل والزهراء أو الفوعة وكفريا، فلا تقلّ سقوطاً. أوّلاً لأن لا شأن لحزب الله بأي بلدة أو مدينة سورية كي يرّد على حصارها بحصار بلدات أو مدنٍ سوريّة أُخرى، وثانياً لأن الردّ على جريمة إن وقعت لا يكون بجريمة أكبر منها، وثالثاً لأن لا مقارنة ممكنةً بين حصار نبّل والزهراء والفوعة وكفريا من جهة وحصار أي منطقة على يد النظام الأسدي وحلفائه من جهة ثانية. ففي الحالة الأولى لم ينقطع المأكل والمشرب والدواء (والسلاح) إذ استمرّ إيصالها يومياً الى المحاصَرين بواسطة المروحيّات، بينما لا تُلقي المروحيّات في الحالة الثانية سوى البراميل المتفجّرة والمواد السامة.
ثمّ إن المقارنات في موضوع الإجرام كلّها مرفوضة، وما يفعله المدافعون عن حزب الله لا يختلف في شيءٍ عمّا فعله ويفعله مناصرو إسرائيل في العالم إذ يبرّرون على الدوام حصارها مخيّماتٍ واجتياحها بلداتٍ ومدناً في فلسطين ولبنان بمسمّيات من نوع “حماية حدودها” أو “مطاردة الارهابيّين” أو “الانتقام لمواطنيها”.
أبعد من كلّ ذلك، تَستكمِل جريمة مضايا والزبداني وبقّين الكبرى اليوم، ولَو فُكّ الحصار في القريب العاجل عنها نتيجة الضغط الدولي (المتأخّر)، تأسيس كراهيةٍ بين قسم كبير من السوريّين وقسم من اللبنانيّين تتخطّى كلّ ما عرفناه في السابق. فالتجويع لا مثيل له في الوحشية والخِسّة. وهو لا يحفر عميقاً في الأجساد فقط، بل في الذاكرة أيضاً…
موقع لبنان ناو
“حزب الله” في مضايا: الجوع أقوى من بيان “الإعلام الحربي”/ حازم الامين
لم يأتِ رد «حزب الله» على «الحملة التي استهدفته» واتهمته بحصار بلدة مضايا السورية والتسبب بتجويع أهلها وموت بعضهم موفقاً على الإطلاق. فبيان الرد حمل من الارتباك وسوء المساجلة ما يؤكد دور الحزب في حصار البلدة السورية. قال الحزب في رده إن مسلحي المعارضة هم من يمنع دخول المساعدات إلى الأهالي! وفي اليوم الذي قال الحزب فيه ذلك، أصدرت الحكومة السورية بياناً أبدت فيه استعداداً لإدخال المساعدات، وهو ما يعني أن الطرف الذي كان يمنع إدخال المساعدات أبدى استعداداً لإدخالها بعد ضغوط مارستها الأمم المتحدة.
وقال الحزب أيضاً أن مساعدات دخلت إلى البلدة في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، ثم عاد وقال أن المسلحين منعوا دخولها. والحال أن اضطراب لغة بيان الحزب امتد ليشير إلى أن المحاصرين في مضايا هم 23 ألف مواطن وليسوا 40 ألفاً على ما تشير بيانات المعارضة والناشطين الإعلاميين من أهل مضايا. وخفض الرقم في سياقه السجالي يعني طلباً بخفض منسوب الاستنكار، فتجويع 23 ألفاً مختلف عن تجويع 40 ألفاً.
وامتد بيان الحزب ليشير إلى استغرابه الضجة المُثارة حول حصار مضايا وتجويع أهلها والصمت المضروب على حصار بلدتي الفوعة وكفريا في محافظة إدلب وتجويع أهلهما. والحال أن الحزب يضع نفسه في هذه المقارنة في الموقع الأهلي والعصبوي الذي لطالما جهد في خطابه للتنصل منه، ذاك أنه حزب المقاومة لا حزب العصبية الأهلية والمذهبية، واستحضاره بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في مقابل مضايا السنية يُفرغ المضمون الفارغ أصلاً لخطاب المقاومة. وهنا تحضر الإجابة عن سؤال الحزب بصيغتها التقنية، وتتمثل في أن إغاثة جوية يومية تمد سكان الفوعة وكفريا المحاصرتين بالمؤن والمساعدات، وهو أمر يُمكن التحقق منه عبر آلاف مقاطع الفيديو الموجودة عبر «يوتيوب»، ناهيك بأن الجهات التي تتولى حصار الفوعة وكفريا، وهي «جبهة النصرة» و «أحرار الشام»، لا تُخفي المضمون المذهبي لحربها هناك، وبهذا المعنى يستوي الحزب و «النصرة» في مواجهتهما المذهبية المكشوفة.
ثم إن الحزب حين يشير إلى أن الحملة عليه في مضايا تتولاها وسائل إعلام معروفة الولاء لخصومه المذهبيين يتجاهل حقيقة أن وسائل إعلام عالمية هي من نقل أخبار حصاره البلدة، وبعضها يعمل في مناطق سيطرة النظام السوري، وكان سبق له أن أعد تقارير وأفلاماً عن «داعش» و «النصرة» لا تقل فداحة عن تلك التقارير التي أُعدت عن دور «حزب الله» في مضايا. ثم إن صور المُجَوّعين من أبناء البلدة، لا سيما الأطفال منهم لا تحتاج إلى وسائل إعلام خصمة لكي تثير ذهول الرأي العام العالمي.
الأرجح أن محطة مضايا في مسيرة «حزب الله» السورية أحدثت نقلة كبرى في صورة الحزب وضاعفت ركاكة خطابه، وما البيان الصادر عنه في أعقابها سوى صورة مذهلة عما أصبحته صورته، إذ إننا هنا حيال مشهد لا يمكن التنصل من تبعاته. والمرء حتى لو صدق ما ادعاه الحزب في بيانه، وهذا يحتاج إلى مستويات هذيانية من النكران، سيستنتج أن المستنقع الذي أغرقت طهران «حزب الله» به في سورية مثل كارثة لن ينجو منها الأخير في المستقبل. فتعمد التجويع هو ثيمة «أشرار» يصعب النجاة من تبعاتها، وهي ثُبتت في حالة مضايا بصور وأشرطة فيديو وبوجوه أطفال، بحيث لم يعد من الممكن لبيانٍ أن يُبددها.
التجويع بهذا المعنى يتفوق على القتل المباشر، وهو هنا عُمد بشعار «الجوع أو الركوع»، وليس مهماً أن يُبادر أحد إلى نفي صدور الشعار عن الجهات المحاصِرة، فالقابلية لتصديقه كبيرة، وهذا ناجم عن تبعات قرار الحزب قتال غالبية تملك في الرأي العام أكثر مما يملك. الغالبية هي ما يصنع قوة الخبر، والقوة هنا تحل محل الصدقية.
وبغض النظر عن الدور الفعلي لـ «حزب الله» في مضايا، فإن ما جرى قد جرى وصار مستحيلاً تغيير الاعتقاد به، وهذا ما يعيد طرح مسألة جوهرية في قضية توجه «حزب الله» للقتال في سورية، وارتداد هذا التدخل على مستقبل العلاقات الأهلية في محيط هذا التدخل. الأثمان الكبرى لهذا القتال لن تكون بحجم النتائج مهما كانت هذه النتائج في مصلحة «حزب الله» ميدانياً. فنحن نتحدث عن اضطراب أهلي ومذهبي بلغ مستويات التجويع بعد أن كان تهجيراً وموتاً، والتجويع حين يصبح سلاحاً تتبادله الجماعات الأهلية، نكون حينها قد وصلنا إلى نقطة اللاعودة في العلاقات بين الجماعات المتنازعة. إذا ضرب المرء صفحاً عن كل التقارير الدولية والقرائن الواردة من مضايا عن دور «حزب الله» في حصار البلدة، على ما يطلب الحزب في بيانه، فإن ذلك لن يفيد الحزب بشيء، ذاك أن ما وقع قد التصق بصورة الحزب في سورية، وما عاد في الإمكان مداواته. وهذه بداية طريق طويل، ومحطة لن تكون الأخيرة سيجد «حزب الله» فيها نفسه أمام الحقيقة المذهبية التي هو بصددها هناك.
نعم، كفريا والفوعة محاصرتان، وأهلهما مهددون من قبل تنظيم تكفيري (النصرة) يعتبره العالم كله جماعة إرهابية، لكن طائرات مروحية تابعة للنظام ترمي للسكان مواد غذائية تساعدهم في البقاء. ولهذا السبب لم تظهر صور لأطفال جائعين من البلدتين على نحو ما ظهرت صور أطفال مضايا. هذه المعادلة التي لوح بها الحزب في بيانه تصنع فارقاً وتلغي فارقاً. الفارق الأول هو في عجز الحزب عن تزويدنا صوراً من الفوعة وكفريا تشبه الصور القادمة من مضايا، وهو سبب بديهي لتركز ذهولنا على حصار مضايا. أما الفارق الثاني الذي تتولى هذه المعادلة إلغاءه فيتمثل في أن الحزب في مقارنته هذه اعترف لنا بما كان يُنكره علينا، وهو أنه أراد لنفسه في مضايا موقع «النصرة» في الفوعة وكفريا… ويبدو أنه تفوق عليها.
الجوع شأناً روائياً/ معن البياري
سأل الصديق عبده وازن، قبل نحو ثلاثة أعوام: من يكتب غداً رواية الجوع في سورية؟ ولمّا بات التجويع سلاحاً ظاهراً في حرب التمويت المعلنة ضد الشعب السوري، كما هو حادثٌ في مضايا وشقيقاتها، فإن السؤال صار بالغ الوجاهة. وإذا كانت أعمال روائية، صدرت أخيراً، (خالد خليفة، عبدالله مكسور، مها حسن، عدنان فرزات، ابتسام تريسي، سوسن جميل حسن، وغيرهم) قد انشغلت بالثورة والمقتلة السوريتيْن، المستمرتيْن منذ أزيد من أربع سنوات، فإن حدّة الفظائع التي لا يُراد لها أن تتوقف هناك تطرح تحدياً مهولاً على صنّاع الآداب والفنون السوريين، وإنْ في البال أن الجوائح الكبرى قد تحتاج زمناً كافياً لتعبّر عنها أعمال إبداعيةٌ كبرى، وإنْ في البال، قبل وجهة النظر هذه وبعدها، أن ثمّة في الجاري في سورية ما يتجاوز التخييل، ويؤكد صحة القول إن الواقع يحدُث أن يقصر عنه الخيال، ما قد يعني، مثلاً، أن واقعية أستورياس وماركيز وكورتاثار (وغيرهم) السحرية أقل كعباً من خرائط التقتيل والفتك والتدمير والاستباحة التي تفرم السوري وبلاده ومجتمعه. وقد كان نزع حنجرة إبراهيم قاشوش ورمي بدنه في النهر، عقوبةً على نشيده للحرية، من وقائع عصيّة على العد والتوثيق، في التغريبة السورية الراهنة، وهذا هو الترويع الجاري في مضايا، مثالاً شاهداً لا غير، بقتل الناس جوعاً، مقطعٌ راهن في الألم السوري المديد، يستفز قريحة الروائي، عساه يجترح تصويراً ما لهذا الجوع الدامي.
شحيحةٌ نتاجات الروائيين العرب عن الجوع، موضوعاً ومسألةً وحالة، لأسبابٍ في وسع دارسي علم اجتماع الأدب أن يسردوها، غير أنَّ ثمة جوعى غير قليلين في نصوصٍ عديدة، حضروا، مثلاً، عند نجيب محفوظ في “الحرافيش”، وأخذهم علي بدرخان إلى فيلمٍ أعطاه اسم الجوع (إنتاج 1986). وثمّة جوعٌ في رواية اللبناني توفيق يوسف عواد المبكّرة “الرغيف” (1939)، وقد انشغلت، إلى حد ما، بالتعبير عن الذلّ الذي يسببه، وفي أجواء لبنانية في غضون الحرب العالمية الثانية. أما “جوع” (2007)، فقد أجاد صاحبها، محمد البساطي، في تشخيص جوع أفراد عائلة مصرية فقيرة، وتعايشها معه، أحياناً، باستلاف خبز من الجيران، وبغمسِه بالملح. وإذا كان الفقر وقلة القوت والحاجة من عوالم الواقع التي جاءت عليها روايات عربية غير قليلة باقتدار، فإن المستجد السوري لا يتعلق بشيء من هذا، وإنما باستهداف الناس تجويعاً لهم، في عقابٍ لم يتزيّد أهل القانون عندما سمّوه جريمة حرب.
تُرى، أيُّ سقفٍ لخيال روائي بارع، في وسعه أن يصل إلى العبارات في “وصيةٍ!” كتبتها طفلة في مضايا، نادت فيها ملَك الموت ليأخذها إلى الجنة، لتأكل .. “يا ملك الموت، هيا اقبض روحي، لكي آكل في الجنة، فأنا جائعة. لا تخافوا يا أهلي. سآكل عنكم في الجنة قدر المستطاع”. ثمّة استفزاز ثقيل للروائي العربي، (السوري أولاً)، أمام هذا الامتحان العسير. لا أظنه سيفعل كما النرويجي كنوت هامسون الذي كتب عن جوع بطل روايته “جوع” (1890)، لتصوير تشرّده في أوسلو، فالحادث في مضايا وشقيقاتها مغايرٌ تماماً، ربما أمكن العثور على خيط ٍ يصله بما كتبت عنه هيرتا مولر (نوبل 2009) في “أرجوحة النفس” (رواية غير شائقة بترجمتها العربية). والمرجّح أن الرواية التي لم تنكتب بعد عن جريمة التجويع عن مضايا لن تحفل بمعاني الجوع، الرمزية والاستعارية، كما فعلت البلجيكية آملي نوثومب في روايتها “بيوغرافيا الجوع (صدرت بالعربية بترجمة بسام حجار، 2006)، عندما انصرفت إلى مستوياتٍ أخرى لمسألة الجوع، وعندما صوّرت مدينةً فقد أهلها الشهية للطعام، من فرط التخمة التي هم عليها، كتبت عنها أنها مدينة “لم تذق طعم الجوع، ولا تعرف عظمته”.. لا نظن أن كاتباً سورياً عن مضايا سيرفل بمثل هناءة البال هذه، فيكتب عن جوعٍ عظيم هناك. ولكن، من هو هذا الكاتب الذي سيكتب غداً رواية الجوع في هذه البلدة القتيلة؟
العربي الجديد
مضايا: إنحدارات لبنانية/ ساطع نور الدين
حصار مضايا هو بلا جدال شأن داخلي لبناني اكثر مما هو استثناء سوري. المؤكد أنه دشن تمريناً جديداً على تبادل الأحقاد والكراهيات السنية الشيعية، في واحدة من أخطر مظاهر الفتنة المذهبية اللبنانية، التي لا تزال، لحسن الحظ، تعتبر ان سوريا عنوانها ومبررها الرئيسي.
وحسب علم النفس، فانها ظاهرة صحية لبنانية، تطلق المشاعر المكبوتة وتحدد أصحابها وتعريهم وتردهم الى أصولهم وهوياتهم المذهبية الموروثة، التي باتت عنواناً للمجاهرة وحتى المفاخرة بمواقف هذيانية، لم يعد كثيرون يجدون حرجاً في تحويلها الى مادة للنقاش العام، مع انها ثقافة ولغة وصور معتوهين او متخلفين عقلياً أو أولاد شوارع.
مضايا ليست حالة سورية خاصة. سيرة الحرب في سوريا لم تكن سوى فصول متلاحقة من عمليات حصار المدن والبلدات والقرى والتنكيل بسكانها المدنيين وتجويعهم من أجل إجبار الثوار من بينهم على الاستسلام. والخريطة السورية حافلة بالبلدات والاحياء التي سلمت او هادنت تحت وطأة الحصار والجوع، وإكتشفت ان الشكل الحالي من الصراع مع النظام ليس الأنسب ولا الأجدى، بل الأسوأ على الاطلاق، لانه كان ولا يزال السبب الرئيسي لسقوط هذا العدد المخيف من القتلى والجرحى السوريين، ولتشتت هذه الجموع المليونية في بقاع الارض قاطبة.
ولعل عدم تحويل حصار مضايا وغيرها من المدن والبلدات السورية المطوقة من قبل قوات النظام وحلفائه، او من قبل فصائل المعارضة، الى حافز للبحث في ابتكار أساليب جديدة للصراع تحيّد المدنيين وأماكن سكنهم قدر المستطاع، بدلا من استدراج النظام وحلفائه الكثر، وآخرهم الروس لجعلها أرضاً محروقة وغير صالحة للسكن، هو أحد أهم وأكبر مآزق تلك الحرب وطرقها المسدودة على طرفيها وعلى جميع المتورطين فيها…وإن كانت بورصة الدم تضيف هذه الايام رصيداً جديداً في حساب النظام، بحيث تبدو معها فرصة التوصل الى وقف شامل لاطلاق النار خيالاً بعيداً، ويصبح معها خيار التوصل الى هدنٍ موضعية طموحاً واقعياً، يخفف من الاكلاف الانسانية والاخلاقية على الجميع.
وهي معضلة سورية لا يمكن تجاهلها مع اقتراب موعد التفاوض في جنيف بين الفرقاء السوريين، ومع تزايد الضغوط على المعارضة السورية لكي تلتحق بقاعة المفاوضات من دون مطالبها الدنيا المتواضعة وأهمها تخفيف الحملة الجوية والصاروخية للنظام وللروس، وفك الحصارات الخانقة على المدنيين في اكثر من بقعة سورية، وإطلاق جزء من المعتقلين والمعتقلات..
حصار مضايا بهذا المعنى هو تفصيل سوري صغير في تلك اللوحة الدموية، لكنه في المقابل مرتكز رئيسي للمشهد اللبناني الذي إستعاد في الايام القليلة الماضية الكثير من العناوين الجوهرية للصراع الاهلي، السني الشيعي تحديداً، بحيث بدت تداعيات التوتر السعودي الايراني هامشية بالمقارنة مع الخلاف الرئيسي حول سوريا، والذي لم يكن يوما يقبع خارج الحدود او يلتزم بها.
عدا عن انحطاط المشاعر والغرائز والعصبيات اللبنانية، فان مضايا استدعت حزب الله الى الاعلان الصريح والرسمي، الاول من نوعه، انه يحاصر وحده تلك البلدة، رداً على حصار بلدتي الفوعة وكفريا. المعروف ان الحزب كان وربما لا يزال شريكاً في حصار الكثير من المدن والبلدات السورية وحتى المخيمات الفلسطينية. لكنه كان على الدوام ينكر، وأحيانا يدين مبدأ الحصار، وينسبه الى طرفي الصراع السوري. هذه المرة أعلن مسؤوليته، وقرر تحمل التبعات التي يعرفها السوريون جميعا، ويجهلها اللبنانيون بمعظمهم، او يميلون الى تجاهلها.
الحرب السورية قذرة، أيا كانت وجهة النظر إليها. تورط حزب الله فيها لم يكن بالأمر او الإملاء الخارجي الايراني. الحافز المذهبي كان ولا يزال قوياً جداً. هذا على الاقل ما تكشفه طبيعة الجدل اللبناني حول حصار مضايا، والذي وصل الى حد الجنون، ما دفع بعض الحالمين إلى تجديد المطالبة بخروج الحزب من سوريا.. في الوقت الذي يعلن عن إنخراط جديد، وإنحدار إضافي، لا يقل خطورة عن الإنحدارات التي بلغها جمهوره.
التعبير عن المشاعر مفيدٌ نفسياً، لكنه مرعبٌ سياسياً وأمنياً وإجتماعياً…
المدن
هُولندية الغردقة” ومضايا/ إياد الجعفري
اتصلت به وهي تجهش بالبكاء، لهول ما رأت.. كان غارقاً في عمله، فذُهل حينما سألته، بصوت متهدج ، “كيف يحدث ذلك في مضايا وأنتم لا تحركون ساكناً؟، أليسوا مسلمين مثلكم؟”.
هي هولندية، ارتبطت بمصري الجنسية في الغردقة، تلك المدينة السياحية الهادئة على البحر الأحمر، التي تشهد سنوياً عشرات الزيجات بين شبان مصريين وأجنبيات جئن الغردقة بغرض السياحة أو بغرض العمل في مجال السياحة.
كانت المرأة الهولندية، الثلاثينية، على أهبة اعتناق الإسلام، بعد جهد حثيث من زوجها، الشاب المصري، بعد 3 سنوات على زواجهما.
شاهدتَ صوراً ومقاطع فيديو عما يحدث في مضايا على يوتيوب، وهي من المتابعات المُهتمات بتطورات الأحداث بسوريا، منذ العام 2011.
تساءلت باستنكار شديد، ووقف زوجها مشدوهاً، لا يعرف كيف يرد، فهو بذل جهوداً حثيثة في الأشهر الأخيرة لإقناعها بمزايا هذا الدين، والآن، يحتار كيف يفسر لها أنها اهتمت، هي التي ما تزال مسيحية، بمصير عشرات آلاف الجوعى في بلدة “مسلمة”، فيما هو لا يعلم شيئاً عما يحدث هناك، وإن علم، فهي تفاصيل مجتزأة، يتابعها بصورة نادرة، وعبر الإعلام المصري الذي ينقل الأحداث بسوريا من زواية واحدة، “عوراء”.
بعد أيام من تساؤلات تلك الهولندية، شنّ شباب صغيرو السن، عملية مروعة، لكنها ساذجة، استهدفت سياحاً في أحد فنادق الغردقة، وكان نظراء لهم قد شنوا هجوماً آخر قبله بيوم، قرب القاهرة، ضد مجموعة سياح، قيل أنهم يهود، والهدف، حسب مناصري “داعش”، تطبيق دعوة البغدادي لاستهداف اليهود في كل مكان، في الوقت الذي كان فيه البغدادي يغض الطرف عن جوعى “المسلمين”، في مناطق أقرب إليه من مصر، ويعقد صفقات وخدمات متبادلة مع نظام الأسد بدمشق.
وفيما يشن “داعش” ومتشدديه، الذين يدّعون العمل على إحياء “الخلافة الإسلامية”، والعودة بالمسلمين إلى عهودهم المزدهرة، هجمات مُروعة على “آمنين” من أديان أخرى، كانت مضايا تئن تحت الجوع، فيما كان “مسلمون” آخرون، يعلنون أن ما يُقال عن الجوع في مضايا مجرد حملة ممنهجة تستهدف صورة “المقاومة”.
في هذه الأثناء، كان “مسلمون” موالون لنظام الأسد يبثون عبر وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لهم وسط موائد وبرادات عامرة بالطعام، مرفقة بتعليقات ساخرة وشامتة بجوعى مضايا، “المسلمين”.
وبعد حملة إعلامية مكثفة، تحرك العالم، لحث “المسلمين” على فك الحصار عن “مسلمين”. وما تزال المفاوضات جارية بين المتنازعين “المسلمين” عبر وسطاء غير مسلمين.
في هذه الأثناء، ما يزال الشاب المصري يبحث عن وسيلة يفسر فيها لزوجته الهولندية لا مبالاته، وأقرانه الكُثر، حيال ما يحدث لـ “مسلمين” مثله، في مكان قريب جغرافياً، رغم اشتراكهم في دين واحد. وكان هذا الشاب قد حاول خلال أشهر إقناع زوجته أن هذا الدين، هو أسمح رسالة سماوية متاحة للبشر.
رغم ذلك، ما تزال الهولندية في طريقها لاعتناق الإسلام، فهي تتبع النصوص، وتجد أنها، رغم التعقيدات القائمة فيها، تُوحي بقناعة مُريحة نسبياً، بصوابية هذا الدين، لكنها من دون شك، حسمت أمرها حيال أتباع هذا الدين، بأنهم في حل من معظم تعليماته الأخلاقية، بصورة شبه كاملة.
تعتقد هذه الهولندية أن الإسلام متاح اليوم في النصوص فقط، أو ربما، على نطاق ضيق، في صدور وأخلاق بعض المهمشين من المسلمين الذين قلما تسمع عنهم في الإعلام.
أما أولئك الذين تسطع أخبارهم يومياً، في وسائل الإعلام، على أنهم “مسلمون”، لا يحملون صلة وثيقة بهذا الدين على صعيد المعاملات في ما بينهم، كما خلصت إليه، “هُولندية الغردقة”.
على الهامش.. علينا أن نقرّ، في خضم ما سبق، أن تلك الحملة الإعلامية المكثفة لإنقاذ جوعى مضايا، ابتدأها “مسلمون”، بهدف حث “المجتمع الدولي غير المسلم بالضرورة”، لحث “مسلمين”، على فك الحصار عن “مسلمين”. ويبدو أن تلك الحملة قد تُؤتي ثمارها قريباً، كما نأمل.
المدن
سوريا: التجويع في خدمة السياسة/ إياد أبو شقرا
تشرّفت في حياتي بالتعرّف إلى رجلين استثنائيين كل منهما رحل عن عالمنا حاملاً في قلبه عشقًا لا يموت لدمشق، هما أستاذي ومعلمي الراحل البروفسور يوسف إيبش، والشاعر الكبير نزار قباني.
أشعار نزار في دمشق طبّقت شهرتها الخافقين، أما حبّ «الدكتور يوسف» – كما كان يسعده أن أناديه – لدمشق فما كان يدرك عمقه إلا من عرفه عن كثب، واكتسب من غزير علمه وثقافته وذائقته الفنية المدهشة.
الدكتور يوسف شرح لي ذات يوم: «لا توجد مدينة في الدنيا أهّلتها الطبيعة لتكون حاضرة مثل دمشق، ولذا غدت أقدم مدن العالم. فهي تقوم وسط واحة (الغوطة) الغنّاء التي يسقيها نهران ينبعان من منحدرات جبال لبنان الشرقية، هما برَدى (قرب مدينة الزبداني) والأعوَج (من جبل الشيخ)، ويصبّان في بحيرتين تتموضّعان شرقيها هما العتيبة والهيجانة. ثم إن ما يساهم في خضرة (الغوطة) ومناخها الطيب أنها تتلقى الرياح الغربية عبر المنخفض الفاصل بين كتلتي جبال لبنان الشرقية، أي جبال القلمون شمالاً وجبل الشيخ جنوبًا.
وإلى الشرق تمتد بادية الشام لتحمي ظهر دمشق و(غوطتها) وتجعل منها حاضرة منيعة عصية على الغزاة. أما بالنسبة للجهتين الشمالية والجنوبية فتسيطر دمشق على طريق القوافل التاريخية التي تربط شبه الجزيرة العربية ومصر بما فيها (طريق البخور) بحلب فهضبة الأناضول، ومن ثم أوروبا وآسيا الوسطى شمالاً متصلة بطريق تجاري عالمي آخر هو (طريق الحرير)…». وتابع: «مدن كثيرة في العالم كان يمكن أن تقوم في مكانها الأصلي أو على بعد مئات الأميال منه، لكن لا بد بحكم الطبيعة والبيئة أن تقوم مدينة في موقع دمشق الفريد».
اليوم، ربما لأول مرة منذ الغزو المغولي لدمشق عام 1400/ 1401م تتعرّض دمشق ومحيطها لتهديد ديموغرافي يبدو أكثر فأكثر جزءًا من استراتيجية إقليمية ودولية ما عاد كثيرون يشكّكون بوجودها. والمشاهد المؤلمة التي ينقلها الإعلام لمآسي بلدات منطقة وادي بردى، حصارًا وقنصًا وتجويعًا، ناجمة عن سياسة مدروسة تنفذ بقوة السلاح الشرعي والميليشياوي المحلي والإقليمي والدولي، وهي تكرّر سياسة تهجير سكان مدينة حمص لإبقاء الطريق مفتوحة بين دمشق ومنطقة الساحل السوري ذات الكثافة السكانية العلوية.
هذه البلدات، التي كانت ذات يوم من أجمل مصايف سوريا، تدفع اليوم ضريبة موقعها الجغرافي الذي يعطّل إنجاز خريطة التقسيم الموعود. وللعلم، فإن مخطط التقسيم يشمل أيضًا عملية تهجير أخرى تسير أيضًا بمباركة دولية في شمال شرقي سوريا. ولقد كان لافتًا السعي الإيراني لإنجاز عملية تبادل سكاني بين الكتلة السكانية السنيّة في وادي بردى والسكان الشيعة المحاصرين في «جيبي» نبّل والزهراء في محافظة حلب، والفوعة وكفريا – وربما الأقلية الشيعية في معرة مصرين – في محافظة إدلب. أما الفارق الأساسي بين حالتي الحصار اللتين يعاني منهما الجانبان أن «الجيبين» الشيعيين يحصلان على معظم ما يحتاجان إليه من مؤن عن طريق الجو بفضل سيطرة الطيران الحربي الروسي، ومن ثم تابعه طيران النظام، بينما تمنع بلدات وادي بردى من الحصول حتى على قوت أبنائها.
استراتيجية نظام دمشق قامت منذ البداية على أساس الهيمنة على كامل تراب سوريا، ولكن في حال تعذّر ذلك كانت «الخطة ب» جاهزة دائمًا. وهي الاكتفاء بما بات يُعرف بـ«سوريا المفيدة» في المناطق المأهولة الخصبة بغرب البلاد من حلب شمالاً إلى حوران جنوبًا. وترك مناطق البادية وحوض الفرات والجزيرة وشأنها.
حاليًا الميليشيات الانفصالية الكردية تخوض، بالفعل، معركة بناء «كيان» يمتد من الحدود المتهافتة بين شمال العراق وشمال شرقي سوريا وحتى «جيب» عفرين المتاخم للواء الإسكندرونة (إقليم هاتاي) التابع اليوم لتركيا. وتكتيكيًا على الأقل، لا يرى الانفصاليون الأكراد أي مصلحة لهم بقتال نظام لا يقاتلهم. بل على العكس، فإن النظام يجد نفسه لأسباب طائفية خاصة به وبداعمه الكبير نظام إيران يقاتل عدوهما التاريخي، أي الحكم التركي. وهكذا، من منطلق «عدوّ عدوّي صديقي» يتعاون النظام وعملاؤه المحليون مع الانفصاليين الأكراد، كونهم يهددون ليس فقط النظام التركي بل وحدة أراضي الكيان التركي نفسه.
بروز ظاهرة «داعش» أسقط كل الاعتبارات – أو بالأصح، الأقنعة – في اللعبة الدولية، وتحوّلت الأولويات الغربية المعلنة من ضرورة تغيير النظام في دمشق إلى تبني شعاراته عن «مكافحة الإرهاب» (السنّي، طبعًا). ومع هذا التغير، حتى عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لم تشفع لها. فقد خذلتها واشنطن، أولاً، في الموضوع الكردي بعدما جعلت من قضية إنقاذ بلدة عين العرب (كوباني)، التابعة لمحافظة حلب، مسألة «مصيرية» بينما كانت مدينة حلب تُدكّ وتجوّع وتُهجّر. وخذلتها ثانيًا، في ربطها مصالحها المحوَرية بتعزيز مكانة النظام العراقي التابع لطهران، عبر الدعمين السياسي والعسكري، بعدما رفضت مرارًا إنشاء «ملاذات آمنة» و«مناطق حظر طيران» في شمال سوريا بحجة المخاطر والتكلفة العسكرية! ثم خذلتها للمرة الثالثة، بعد حادثة الطائرة الحربية الروسية التي أسقطتها تركيا إثر انتهاكها مجالها الجوّي.
المسألة واضحة إذن. وتقارير منظمات كـ«الشبكة السورية لحقوق الإنسان» وثّقت حقًا خلال عام 2015 بالتفاصيلمخطّطات «النزوح القسري» والتغيير الديموغرافي الحاصل في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات الكردية بالشمال السوري بعد تهجير السكان العرب منها في ريفي محافظتي الحسكة والرقة. وكذلك ثمة تقارير موثقة عمّا هو حاصل في حمص والمناطق المحيطة بها بعد تهجير سكان الأحياء السنّية من المدينة. وهذا من دون أن ننسى ألاعيب «الهُدنات» التي مورست على عدة مناطق بضواحي دمشق لقاء فك أسرها بعد ابتزازها بالتجويع والقنص والقصف.
إن تهجير بلدات وادي برَدى، ومنها مضايا والزبداني وبقّين وبلودان، خطوة مدروسة بدقة تهدف لتهجير المسلمين السنة من غرب دمشق ومبادلتهم بشيعة حلب وإدلب، وتحصين وجود النظام – ومن ثم، حضور إيران – بربط دمشق عبر المنطقة بلبنان الخاضع لسيطرة حزب الله.
من قال إن مأساة فلسطين كانت آخر مآسينا؟!
الشرق الأوسط
“مضايا” إذ تصفع قتلة الضاحية وسيدهم في طهران/ ياسر الزعاترة
لا شيء يستر عورة «السيد» في الضاحية الجنوبية، ولا «ولي أمره»؛ الولي الفقيه في طهران، فلا الرد الذي كتبه «الإعلام الحربي» نفع، ولا الهاشتاغات المستميتة للأنصار الذين غُيبت عقولهم وأضاعوا ضميرهم، ولا إعلام الأدوات والأبواق، فقد تفوقت وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى في فضح القتلة، لكن فضيحتهم الكبرى جاءت من وجوه الأطفال البريئة وصرخاتهم جراء الجوع، وأجسادهم التي أحالها الجوع إلى هياكل عظمية.
كل التاريخ الذي يتبجح به نصر الله عن الشرف والمقاومة ينسخه بكاء طفل واحد من وطأة الجوع في مضايا، وهو نُسخ أصلا منذ أن تورط في الدم السوري، ومنذ أن أعلن أن طريق القدس يمر بالزبداني ودمشق ودرعا.
هنا في مضايا سقط القتلة مجللين بالعار، ومن ورائهم وليهم الفقيه، ومعهم بوتين، لكن قتلة آخرين في واشنطن وعواصم كثيرة لم يكونوا بمنأى عن ذلك، ومن ورائهم نتنياهو الذي قرر فصول الصراع في سوريا عبر الضغط لمنع السلاح النوعي عن الثوار كي تتواصل المأساة. أما حين قررت واشنطن التعاطف مع أهل مضايا، فلم تزد على أن ناشدت المجرم أن يفك الحصار من حولها، ويسمح بدخول المساعدات، لكنها جيّشت الجيوش من أجل انتزاع الكيماوي لحساب الكيان الصهيوني.
تضيع الأحرف ويسقط الكلام أمام صرخات الأطفال، وأجسادهم المتهالكة، ومعهم الرجال والنساء في مضايا، ويزداد عار القتلة وضوحا، وهم يشترطون لإطعامهم أن يخرجوا من ديارهم، في عملية تطهير طائفي حقيرة، لا تقل عن حقارتهم، بالانتصار لطاغية ينتمي لأقلية استمتعت بحكم الغالبية بالحديد والنار، وتريد المضي في ذلك بأي ثمن.
البيان الي أصدره «الإعلام الحربي» في حزب نصر الله لم يزد المشهد سوى فضائحية، ولم يزد القتلة سوى عار على عارهم، فهو يتحدث عن أن الجماعات المسلحة هي التي تأخذ “السكان رهينة”، لكأن المطلوب لقاء رغيف الخبز أن يسلم الناس رجالهم، ويقبلوا بترك ديارهم كي يسيطر عليها الحرس الثوري وأذنابه.
لا أحقر من القتلة سوى من يبررون لهم، من كل ملة ومن كل لون. إنها سوريا التي أسقطت وجوها كثيرة، وكشفت فقرها للأخلاق، فقضية سوريا قضية أخلاق قبل أن تكون سياسية، ومن فقدوا الأخلاق يمكنهم أن يتوسلوا الشعارات بحثا عما يستر عارهم، دون جدوى.
في «مضايا» سقط القتلة وأذنابهم مجللين بالعار، وسقط عالم ظالم لا يحسب حساب الضحايا إلا حين ينتمون إلى الدم الأزرق، وقد يصرخ دفاعا عنهم إذا كانوا ينتمون إلى بعض الأقليات، أما إذا كانوا ينتمون إلى الغالبية المطحونة بعنف رموز الطائفية، ومعها أنظمة الظلم في هذا الشرق الحزين، فلا حسَّ ولا خبر.
الدستور الأردنية
الشنفرى في مضايا/ معن البياري
يُشهر سكان مضايا، البلدة السورية التي يحاصرها جيش النظام ومليشيات وافدةٌ تُشايعه، جوعَهم، بل يستجيبون لتصوير أبدانهم، جلوداً على عظام، وفي ذلّةٍ ظاهرة. ليس غرضهم أن نُصابَ بالرّوْع، وأن نمحَضهم عطفاً وتعاطفاً، عندما نراهم يفتك بهم الجوع، فهم مستباحون لغير التصوير أيضاً، للقتل بالتجويع مثلاً. ليس في وسع أحدٍ منهم أن يفعل كما قال الشنفرى عن نفسه، أنْ ينسى الجوع ويُراوغه، يُميته بأن ينساه، فلا يذكُره: أُديمُ مِطالَ الجوعِ حتى أُميتَه/ وأضربُ عنه الذّكْرَ صفحاً فأُذهلُ. لا يقدر ناس مضايا على مكابرةٍ مثل هذه. وإذا كان الطريد العربي القديم، الصعلوك الفارس الجاهلي، صاحب اللامية التي أوصى عمر بن الخطاب بتعليمها لأبنائنا (هل من يفعل؟)، إذا كان يُؤثر أن يُطعم نفسَه التراب على أن يطلب شيئاً من أحد يمنّ عليه بذلك، فإن السوريين، المحاصرين منذ شهور في مضايا، لا يدّعون فائضاً من الشّمم فيهم يجعلهم يرفضون إسعافاً بأي طعام من أيٍّ كان، وإنْ بتمننٍ وتفضّل. للشنفرى أن يقول ما يشاء: وأستفُّ تُربَ الأرضِ كيلا يُرى له/ عليَّ من الطولِ امرؤٌ مُتطوّل. وله أيضاً أنْ يطوي أمعاءه على الجوع، فتصبح لخلوّها من الطعام يابسةً تلتفّ على بعضها، كأنها حبالٌ أُتْقن فتلها: وأطوي على الخمصِ الحوايا كما انطوت/ خيوطةُ ماريٍّ تُغارُ وتفتلُ. إنه بهذا يُخفي حاله إذا ما أمضّه الجوع، وصار خاوي البطن، فالأَنفة التي تطبع شخصه لا تُجيز له أن يراه الناس على هذا النحو. أهل مضايا ليسوا من طرازه، هم مباحون لمن شاءَ أن يراهم، بل يشتهون أن يرى العالم كله موتهم جوعاً، والأصح قتلهم جوعاً. لا مطرح بين ظهرانيهم لحكاية الأنَفة هذه، كما يراها الشنفرى في نفسه، بعد أن أمعن النظام الحاكم في دمشق، منتصراً بمسلحي حزب الله وطيران بوتين وثرثرات أوباما، في إزهاق الأرواح في مضايا وشقيقاتها، وثمّة من يقترح عليه أن لا يصرف وقتاً في تجويع الناس هناك، بل أن يُجهز عليهم حرقاً، فذلك أجدى، بحسب شبيحٍ مجرم، لم يستح من إشهار مطلبه هذا.
يَقنَع ثابت بن أوس (قيل أواس)، الملقب بالشنفرى، بقلة الزاد، لكنه يعدو في طلبه كالذئب، وإذا حضر الطعام، لن يكون أول من يمدّ يده إليه، فالعجول هو الجشع: وإن مُدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم إذ أجشعُ القومِ أَعجلُ. ليست هذه المسألة مطروحةً في مضايا، فليس ثمّة زادٌ وجشعون، وإنما تمويتٌ للناس بتجويعهم، لا بأس من أن يعرف كل الأَنام حالهم هذا، فهم بلا قومٍ ينتصرون لهم، إنهم متروكون لجوائح يتخيّرها رجال بشار الأسد، كما يشاءون، الحرق أو التجويع أو القنص أو الخطف. كأنّ في صيحة الشنفرى، لمّا نبذه قومُه، ولم يعترفوا به، فخرج عليهم، بعضاً من حشرجة أهالي مضايا، إذا ما ندّ عنهم صوتٌ عن قومهم الذين ما عادوا قوماً لهم. افتتح الفارس العتيق لاميّته (68 بيتاً) بإعلان هجرهم، وانتسابه إلى غيرهم: أقيموا عليّ بني أمي صدور مطيّكم/ فإني إلى قومٍ سواكم لأميلُ.
ولكن، على من يميلُ أهالي مضايا المتروكون لضباع بشار الأسد وذئابه. الصعلوك الذي انتهى قتيلاً، وعاش شجاعاً، وقيل فيه إنه كان أعدى من الخيل، آنس راحةَ باله بمعايشة الوحوش والذئاب الرقطاء والضباع في الصحراء. أثنى عليهم كثيراً في “لامية العرب” التي تستلّ هذه السطور منها أبياتاً، رآهم أهلَه الذين ينصرونه إذا استنصرَهم. ناس مضايا لا يعثرون على من ينتصرون لهم، والوحوش والذئاب والضباع قدّامهم بشرٌ أشرار، ليسوا كما الذين انتسب إليهم الشنفرى، لمّا تمرّد على الظلم، ومنّى نفسه ببلوغ القوت في عشيرةٍ يهنأ فيها بحياةٍ منعّمة. رفضه أهلوه، فصار يبحث عن زاده وقوته، وإنْ بالإغارة على آمنين ليلاً، كأن الجوع وحده ما كان يخيفه، فقاتله وانتصر عليه بقوسٍ مزيّنةٍ يسدّد منها النبال، وبالشعر الذي غالى فيه وكابر. ناس مضايا لا يكابرون، ولا يلهجون بالشعر. … يهزمهم الجوع، ويمضون إلى الله، وحيدين عارين من أي انتصار.
العربي الجديد
تفاعلات حصار مضايا تجبر النظام على التراجع؟ العلامة النافرة مشاركة “حزب الله” في التجويع/ روزانا بومنصف
تفاعلت تداعيات الحصار التجويعي الذي يفرضه النظام السوري وحلفاؤه على بلدة مضايا، مع تسريب صور مرعبة لأطفال ومدنيين، لا يمكن أحدا أن يتصور أن تحصل في سوريا في هذا القرن، بحيث اضطر النظام في الساعات القليلة الماضية الى إعلان موافقته للامم المتحدة على السماح بعبور بعض المساعدات من أجل الحؤول دون تعاظم المسألة وإحراج حلفائه. وبغض النظر عن التزام النظام ذلك ام لا، وهو الذي يتقن الألاعيب على هذا الصعيد، فإن التفاعلات أخذت أبعادها في لبنان، خصوصا أن البلدة المحاصرة لا تبعد سوى كيلومترات قليلة عن الحدود اللبنانية في ظل تواتر معلومات عن مشاركة عناصر “حزب الله” في هذا الحصار، وهو ما اتخذ بعدا إضافيا ترددت انعكاساته في الداخل اللبناني. إذ فجأة بدا كل المنطق الذي يرفعه المجتمع الدولي إزاء الاستعداد للبحث في السعي الى تطبيق وقف النار في سوريا قرابة منتصف الشهر الجاري، تمهيدا لمفاوضات بين النظام والمعارضة، سخيفا مع انكشاف تداعيات الحصار الذي يمارسه النظام السوري على بلدة مضايا منذ ستة أشهر، وباتت الصور المتناقلة من البلدة أشبه بما كانت تنقله وسائل الاعلام عن المجاعة في الصومال، إنما في القرن الماضي. وبدا أن هناك جانبين نافرين على نحو سافر في هذ ا الواقع: احدهما هو مشاركة “حزب الله” في هذا الحصار، وهو لم ينف هذه المشاركة التي تمت الاشارة اليها علنا او ضمنا على ألسنة مسؤولين أجانب متابعين للشأن السوري تولوا قبل ايام كشف ما يتعرض له أبناء البلدة على غرار ما كان عليه موقف المندوب البريطاني الى سوريا غاريث بايلي. ففي الوقت الذي لا يجد خوض الحزب القتال في سوريا أي منطق دفاعا عن نظام بشار الاسد في وجه السوريين، فإن المنطق الذي اعتمده دفاعا عن اعدام الشيخ نمر النمر في المملكة السعودية يضعف بقوة إزاء استشراسه في الدفاع عن شخصية جدلية قد تكون لها حيثيتها لديه، في الوقت الذي يسمح بتجويع زهاء 40 ألف سوري. ففي الحروب يتم اللجوء الى كل الممارسات الممكنة من أجل كسب المعارك، لكن ثمة اسئلة جدية تثار في وجه الحزب ازاء مشاركته في الحصار التجويعي لمضايا، وكيف ينسجم ذلك ليس مع عقيدته القتالية فحسب بل مع اخلاقيته التي يرفقها بهذه العقيدة، والتي يسعى من خلالها الى التعالي على الاخرين. فالصور التي يتم تناقلها عن الاطفال وحالهم الصحية الضامرة من الجوع لا يمكن أن تشكل في أي حال نقطة مضيئة في حال الحزب وواقعه الراهن ازاء مواطنيه كما ازاء الخارج. وهذا يسري عليه دون النظام السوري الذي سبق أن مارس الحصار والتجويع ضد مدنه وقراه، ونراه يخوض حرب بقاء لم يتوان فيها عن تسجيل سوابق في المنطقة وهو آيل الى الذهاب عاجلا او اجلا، في حين ان حسابات الحزب ينبغي ان تكون طويلة الامد سواء بقي الاسد او لم يبق، وسيكون صعبا جدا عدم اثارة حساسيات مذهبية بعيدة في المستقبل. فقد أحدث النظام مناخا غير مسبوق في المنطقة حيث بات كل شيء مسموحا، فأتى بإيران والحزب وكل الميليشيات الشيعية الى سوريا، كما أتى بروسيا ايضا، وهذا لم يحصل منذ زمن القياصرة، وقصف شعبه ولا يزال بالبراميل المتفجرة والاسلحة الكيميائية، ومارس الحصار والتجويع لاخضاع مواطنيه. وتجدر الاشارة الى ان هذا المأخذ لا ينسحب على ابرز حلفاء الاسد، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في تاريخه خلال الحروب التي خاضها لتطويع خصومه.
والجانب الذي لا يقل نفورا واستفزازا هو صمت المجتمع الدولي ازاء المأساة السورية، والذي شجع النظام على ممارساته منذ حمص وما قبلها وما بعدها. ولعل الجهود والاتصالات التي تحركت اخيرا جاءت نتيجة الصور المخجلة والمحزنة التي تم تناقلها للاطفال والمدنيين في البلدة، وتتصل بالاحراج الذي يمكن ان تواجهه الدول الكبرى الاعضاء في مجلس الامن الدولي والتي تستعد للبحث في تطبيق خريطة الطريق التي تم الاتفاق عليها في القرار 2254، وتبدأ بمحاولة الوصول الى وقف للنار في موازاة بدء المفاوضات بين السوريين. ليس سهلا ان يرى الرأي العام الدولي الرئيس الاميركي باراك اوباما قبل بضعة ايام باكيا بتأثر لمقتل عشرات الاطفال باطلاق النار في الولايات المتحدة، في حين ان الاطفال في سوريا متروكون لمصيرهم، وكأن السياسة الخارجية للدول الفاعلة والمؤثرة فقدت كل اخلاقيات انسانية او ان حقوق الانسان وجدت اكتفاء لها باستقبال اللاجئين في الدول الاوروبية. وفي المقابل يبدو المواقف من الوضع الانساني في سوريا خاضعا لحسابات الدول الفاعلة على غرار الاعتراض الروسي الشهر الماضي على تفعيل القرار 2191 من أجل نقل المساعدات الانسانية عبر الحدود الى سوريا، بذريعة الخوف من ان تصل المساعدات الانسانية الى مناصري الدولة الاسلامية، وفي ظل اصرار روسيا على تجديد الاذونات حول عبور المساعدات الانسانية المتعلقة بهذا القرار باعتماد خطاب في شأن الارهاب، ويطالب الدول الاعضاء بمنع عبور مناصري “داعش” من سوريا واليها، من دون إغفال الصراع المفتوح بين روسيا وتركيا في هذه المرحلة.
النهار
#مضايا_تموت_جوعاً .. و”فايسبوك” يفقد تأثيره/ نذير رضا
مضى أسبوعان على بثّ أول صورة خرجت من مضايا المحاصرة. تكاد العظام تخرج من جسد نحيل، يتضوّر جوعاً، ويلتف حول نفسه، في محاولة لتجنّب نوبات ألم بطنه. الرجل – الشيخ، لم يحرّك أياً من المنظمات الدولية، ولا إنسانية سجّانه… تتالت الصور منذ ليلة عيد الميلاد الماضي، واجتاحت مواقع التواصل الإجتماعي، من غير أن تحرّك اي ساكن. ذلك، إن مواقع التواصل، فقدت قدرتها على التأثير، في ظل الضخ، والضخ المقابل.
حوصرت جلبة الصورة في الموقع الازرق، كما ملتقطيها، وآلاف الاجساد التي تنتظر الموت جوعاً. وحوصرت معها، مئات المحاولات لإظهار بؤس المشهد، وبؤس الانسانية جمعاء.
ذُبحت القطط، وظهرت في الموقع الازرق أيضاً، وطهيت أوراق الشجر. فاحت رائحتها الى ما وراء الشاشات الصغيرة. إكتفى مشاهدوها بالتأسّف. تألموا، بالتزامن مع احساسهم بحريق ناتج عن حساء ساخن كانوا يحتسونه في ليلة العاصفة الثلجية الاخيرة. وواصلوا الإعراب عن أسفهم، حتى إكتمل المشهد، وباتت الصورة المكسّرة، مادة تلفزيونية لا يمكن تجاهلها.
تحرّكت الأمم بعد عرض الصور في التلفزيون، فضغطت على النظام السوري، وانتزعت منه موافقة على إدخال المساعدات الانسانية اليوم. قبله، أثبتت الحملات الإلكترونية عجزها عن التأثير. فقدت مصداقيتها، وانتاب روادها ومتابعيها الشك في ما تقدمه. حتى الصور التي تُعرض، ما عادت أكثر من وسيلة للتسلية. تحشد “لايك” المتفاعلين، و”شير” الواثقين، وتعليق المتعالين والمشككين.
لم تعد صورة “فايسبوك” و”تويتر”، إلا ذريعة للنكران. وأعادت تداعياتها التأثير، الى ما قبل العام 2010. الى زمن الإعلام التقليدي. الى التلفزيون الذي يبثّ، فيُصدّق، وينقل فيحرّك الأمم.
كلنا مسؤول عن إفقاد حساباتنا الشخصية، مصداقيتها. إدعينا زوراً بوصول الذئب لتهديدنا مرة ومرتين وثلاثة.. وحين وصل الذئب فعلاً الى مضايا، كنا ننكر، لأن تجربتنا مع حكايته، محبطة.
14 يوماً من النكران والتجاهل، قضت على العشرات من سكان البلدة المحاصرة، جوعاً. لا تنفع التبريرات اليوم. كلنا مسؤول عن إبقاء الموت في البلدة متقداً، إلى حين بثه في التلفزيون. مسؤولون، كما جميع الاطراف المعنية بالحصار. النظام وحلفاؤه الذين أرادوا مساومة الموت هنا، بتوسيع فعالية إتفاقية الزبداني – كفريا والفوعة الى مضايا. الامم المتحدة مسؤولة أيضاً عن عدم رمي المساعدات من الطائرات، كما في كوسوفو وأوغندا التسعينيات. فصائل المعارضة تتحمل جزءاً من مسؤولية عدم المبادرة الى سبيل، أي سبيل سياسي أو عسكري أو دبلوماسي، لرد الجوع عن المحاصرين. المتفرجون أيضاً مسؤولون، والمتألمون أيضاً، والمتفاعلون من بعيد، والداخلون في حرب إفتراضية عبثية، على وقع الإنقسام السني – الشيعي في المنطقة.
الصورة فقدت تأثيرها. تجربة مضايا منذ 24 كانون الاول الماضي، تثبت ذلك. فهي تخفي تحليلات، وتترك مجالاً للمناقشة، لم ينجرّ التلفزيون اليها. وبعد إتقاد المشهد، استطاعت الشاشة الفضية أن تحرّك خلال 24 ساعة، ما عجزنا جميعاً عن تحريكه عبر #مضايا_تموت_جوعاً أو أي من الوسوم المرافقة.
المدن
عن أخلاقيات “حزب الله” ومضايا”/ محمد شبارو
كارثية على المستوى الأخلاقي تلك الحرب التي تورط فيها “حزب الله” في سوريا. فرضت المعطيات العسكرية، وتغيير الشعارات، وتبديل الأولويات على الحزب التخلي عن كثير من الأخلاقيات، بدءاً من قرار دعم نظام ديكتاتوري مجرم، ضد شعبه، وان تستر لاحقاً بحجج قتال التكفيريين، وتنظيم “داعش”، في معارك لم يخضها الى اليوم.
مع حصار مضايا تخلى “حزب الله” دفعة واحدة عن كل شعاراته القديمة. كان “حزب الله” يخوض الحروب مع اسرائيل ملتزماً بثوابت دينية – اخلاقية، يسوّق لها، ويروّج لها، ضمن بيئته الشعبية، وضمن صفوف مقاتليه. وكان يرفع شعارات مثل “عدم التمثيل بالجثث”، و”التعامل بحسنى مع الأسرى”، اضافة الى كل طريقة التعامل مع العملاء خلال التحرير وبعده في العام 2000.
في سياق الأخلاقيات هذه، يستذكر البعض تجربة شهيرة مع العميل عقل هاشم، عندما اتخذ قرار في “حزب الله” لتصفيته. في المرة الاولى، تم تأجيل اغتياله، لأن ابنه كان يرافقه، ونفذت العملية لاحقاً عندما تأكد الحزب، ان ابنه ليس معه. كان سرد هذه الحادثة عادة ما يأتي في سياق الدلالة على أخلاق “الحزب”.
كل ما تقدم، يشير إلى أن البيان الذي أصدره “حزب الله” لتبرير تجويع المدنيين في مضايا، لا يمكن وضعه سوى في خانة “البيان – الفضيحة”، خصوصاً لجهة مقاربة عدد الجوعى (23 الفاً وليس 40!)، أو القائه باللوم والمسؤولية على “الجماعات المسلحة التي تتخذ من مضايا رهينة لها”، وهو الحزب الذي لطالما اعتبر أنه يقدم نموذجاً قتالياً مختلفاً عن “همجية” التنظيمات المتطرفة.
لكن الفضيحة الأخرى في البيان، تلك المساومة بين ادخال الشاحنات محملة بالمواد الغذائية والطبية إلى مضايا وسرغايا وبقين، مقابل إدخال نفس الكمية الى كفريا والفوعة، وهو ما يعني عملياً أن “حزب الله” دخل في بازار الأخلاقيات المفقودة، التي من المفترض أنه يرفضها جملة وتفصيلاً، في الحرب كما في السلم، وهو ما يضرب الصورة النمطية التي عمل على بلورتها منذ صراعه مع اسرائيل، خصوصاً أن هذه المساومة تنتظر مساعدات ستصل قريباً، كما وعد البيان، تنفيذا لاتفاق “الزبداني – كفريا والفوعة”.
لاشيء يبرر التجويع، ولا شيء يبرر الحصار، ولاشيء يبرر ان يتخلى “حزب الله” عن كل اخلاقياته، حتى لو كان في مضايا ألف “داعشي” و”داعشية”!
المدن
حزب الله” مجوّع أطفال سوريا/ احمد عياش
كل المحاولات التي قام بها إعلام “حزب الله” في الايام الماضية لتغيير صورة حصار مضايا السورية وأهلها الجياع لم تنجح.والسبب أن صور الاطفال في المدينة المنكوبة كانت أبلغ في التعبير عما حلّ بها بعد حصار مستمر منذ 7 أشهر على يد قوات النظام السوري و”حزب الله” كما اوردت بي بي سي. وينقل مراسلها عن أحد سكان مضايا واسمه عبد الوهاب احمد قوله: “الناس بدأوا يأكلون التراب لأنهم لا يجدون ما يأكلون، فقد ماتت الاعشاب وأوراق الشجر بسبب الثلوج”.وهكذا اكتسب “حزب الله” الذي يفاخر أمينه العام بأنه جندي في جيش ولي الفقيه الايراني سمعة جديدة هي مجوّع أطفال سوريا بعد سمعة دعم الديكتاتور بشار الاسد.
كي لا يُحصر الظلم بهذا الحزب وحده والذي رعى مؤسس الجمهورية الاسلامية الامام الخميني قيامه منذ العام 1983 لا بد من جردة حساب بما الحقته طهران بالشيعة العرب عموما وبشيعة لبنان خصوصا من أذى سيلطّخهم لزمن طويل. فهي نجحت في إبراز صورة “الشيعي الظالم” بدلا من صورة “الشيعي المظلوم”. وهذه الصورة قد بلغت الآن ذروتها في سوريا.
حاول الامام موسى الصدر طويلا أن يبرز في لبنان صورة الشيعي المظلوم وذلك من خلال تأسيس “حركة المحرومين”، فناضل طويلا من أجل إنصاف أبناء طائفته بدءا بشتلة التبغ في الجنوب مرورا بالتنمية في البقاع وصولا الى المناصب الرسمية في بيروت. لكنه اكتشف أخيرا ان قضية إزالة الحرمان لن تنجح ما لم تحسم قضية فك ارتباط جنوب لبنان بلعبة الامم بعدما تحوّل منذ السبعينيات المسرح الوحيد للصراع العربي – الاسرائيلي، ملحقا بسكانه أفدح الاضرار. فسعى، كما يقول معاصروه، الى تحييده من خلال بسط سلطة الدولة بدلا من سلطة المقاومة الفلسطينية. فلجأ أولا الى الرياض فوجد دعما لدى الملك فهد بن عبد العزيز. ثم انتقل الى دمشق فتلقى “نصيحة” من الرئيس حافظ الاسد أن يزور ليبيا حيث كانت مأساة اختفائه نهاية آب 1978.
لم يمض عام حتى بدأ الواقع الشيعي في لبنان يدخل في حظيرة النظام الايراني الجديد الذي استولى على السلطة عام 1979. وبعد إخفائه الجسدي في ليبيا تولى نظام الخميني إخفاءه معنويا. وأبرز شهادة على ذلك، تلك التي دوّنها الوزير فؤاد بطرس الذي غادرنا قبل أيام. فكتب في مذكراته يقول: “تابعت قضية اختفاء الامام موسى الصدر من خلال مؤتمر وزراء خارجية الدول الاسلامية في الرباط (10-13 أيار 1979)… ما أثار استغرابي المعلومات الواردة في برقية السفير عادل إسماعيل الذي نقل عن وزير الخارجية الليبي التريكي قوله: إن الرئيس جلّود بقيّ في إيران حوالى الاسبوعيّن… ولمس لدى الخميني عدم إهتمام بهذه القضية، ولم يحدثه عنها إلا بصورة عابرة”. ولاحقا وصف مسؤول كبير في “حزب الله” الامام الصدر بأنه “عميل السافاك” الجهاز الامني لشاه إيران.
النهار
مضايا وجرف الصخر… التجويع ثم التهجير منذ تل الزعتر/ وائل عصام٭
يعرف فلسطينيو لبنان جيدا معنى الحصار والتجويع على أيدي النظام السوري والميليشيات الطائفية، ففي منتصف السبعينيات حاصرت ميليشيات مارونية بدعم من قوات النظام السوري مخيم تل الزعتر الشهير، الذي ألف محمود درويش من أجله قصيدة «احمد العربي».
وبعد أشهر من الصمود توفي آلاف المدنيين وسقط المخيم. «المخيم ضم عددا من الفقراء من الأكراد والشيعة لجانب الفلسطينيين»، لترتكب مجزرة بآلاف المدنيين العزل الذين بقوا على قيد الحياة. أبعدت الميليشيات المارونية هذا التجمع السكاني وسوته بالأرض، وأخرجتهم من مناطقها المسيحية في تغيير ديمغرافي معلن، كان بشير الجميل يفاخر بمنطلقاته العنصرية على الملأ حين يقول «سأحول مخيمات الفلسطينيين لكراج سيارات أو حديقة حيوانات» !
في تل الزعتر ظلت الدول العربية عاجزة لأشهر عن أي فعل، بل إن قوات الردع العربية هي من أبرمت اتفاقا يقضي بانسحاب المقاتلين وسكان المخيم ودخول الميليشات المارونية، وبحسب سكان عاصروا تلك الحقبة فإن قوات الردع العربي عجزت حتى عن حماية المنسحبين من المدنيين، الذين اعتقلوا وتمت تصفيتهم.
وبعدها بعشر سنوات تقريبا، أي في أواسط الثمانينيات، تعرضت مخيمات فلسطينية كالرشيدية وغيره لحصار وتجويع، هذه المرة من ميليشيات شيعية، على رأسها حركة أمل، وأكل السكان الحشرات والقطط وصمدوا لأشهر .
من الميليشيات الطائفية المارونية والشيعية في لبنان، إلى ميليشيات العراق.. فبعد احتلال بغداد، شرعت الحكومة العراقية وميليشياتها بعمليات تغيير ديمغرافي في انحاء بغداد، بحيث تقلص عدد السكان السنّة في بغداد إلى نصف عددهم قبل الاحتلال، وهجرت أحياء كاملة، خصوصا في نصف بغداد الشرقي، الرصافة، واستمرت عمليات التغيير في بغداد وحزامها ومحافظة ديالى، وصولا إلى عمليات التهجير الكبرى في عمليات الحشد الشيعي ضد المدن والبلدات السنية خلال المعارك مع تنظيم الدولة، فقد هجرت عشرات القرى في ديالى ومحيط بعقوبة ذات التركيبة المختلطة من اكراد شيعة فيليين وعرب سنة، واعترف محافظ ديالى السابق، بأن الساسة السنة عجزوا عن وقف عمليات التغيير الديمغرافي في ديالى، ثم بدأت تلك القوات في عمليات تطهير لحزام بغداد الذي تسكنه تجمعات عشائرية سنية، وكانت العملية الأكبر في مدينة جرف الصخر، التي تسكنها عشائر الجنابيين التي عرفت بمقاومتها الشرسة للقوات الامريكية في هذه المنطقة التي تضم اللطيفية واليوسفية والمحمودية، حتى سميت مثلث الموت، وتعرضت إحدى الفتيات القاصرات وهي عبير الجنابي للاغتصاب من جندي امريكي حوكم لاحقا في الولايات المتحدة.
وسيطرت قوات الحشد الشيعي بعد معارك طاحنة مع تنظيم الدولة على جرف الصخر، وبعد سيطرتها بعام كامل وحتى يومنا هذا منعت تلك القوات وبأوامر من قادة الميليشيات المتنفذين في الحكومة، السكان من العودة، بل إن قوات بدر اغتالت أحد شيوخ الجنابيين الذين تجرأوا وطالبوا بإعادة السكان، اغتيل الشيخ العشائري الذي كان قبل أيام في مكتب نائب رئيس الوزراء المحسوب على السنة صالح المطلك، واغتيل سبعة من افراد حمايته، وترك ابن اخيه النائب في البرلمان العراقي ليذهب ويقول لزملائه السياسيين السنة ألا تتطرقوا لموضوع إعادة سكان جرف الصخر مجددا !
وبعد جرف الصخر، تحاول قوات الحشد تكرار الامر نفسه في تكريت وبيجي، حصار وتهجير ثم تشييع، فلم يعد من سكان تلك المدن الا القليل، ومعظمهم ممن يرتبطون بصلات مع قادة الصحوات الموالية للحكومة العراقية، مبان رسمية حولت لحسينيات، لتمتد كسلسة عنقودية من سامراء لتكريت حتى بيجي يجري العمل على تغيير تركيبتها المذهبية والسكانية.
ومن لبنان والعراق حتى سوريا، فقبل مضايا كانت الزبداني والقصير ويبرود، كلها بلدات تولى حزب الله السيطرة عليها بشكل أساسي مع قوات النظام السوري، في مخطط واضح لصناعة جيب نقي طائفيا من أي وجود سني، وخصوصا الشريط الممتد من دمشق حتى حمص وحماة وصولا إلى اللاذقية، وسط عجز حكومي عربي لافت، عن اي تحرك، بينما تمكنت إيران والمنظومة الطائفية التي تقودها من توفير مقومات الصمود للقرى الشيعية المحاصرة في ريفي حلب وادلب، نبل والزهراء وكفريا والفوعة، لدرجة أن عرسا جماعيا أقيم بالأمس في مدينة نبل الشيعية المحاصرة بريف حلب الشمالي، وتوسطت صورة خامنئي قاعة الحفل، في إشارة رمزية لفرق الحال بين المدن المحاصرة، والتي تحظى بدعم الدولة الايرانية الشيعية، وبين من تنتظر دعم الدول العربية السنية حتى تموت جوعا ثم تتهجر كمضايا، وقبلها تل الزعتر وجرف الصخر والقصير ويبرود والزبداني!
القدس العربي
شربل خليل.. العنصرية المزدوجة/ علي السقا
العنصرية غير المستندة إلى نظرية، مهما بلغت من خواء، تستحيل تفاهة. لكن مع مخرج برنامج “بس مات وطن” في قناة “أل بي سي”، اللبناني شربل خليل، فإن التفاهة المتأتية من عنصريته، مطعّمة بنزق مراهقين وسُذّج، لم يجدوا ربطاً بين المحاصرين في مضايا، وجوعى احدى بلدات القارة الافريقية السمراء، إلا تكريساً لشوفينية يعبّر عنها على قاعدة النكران والتشكيك أولاً، والسخرية من ألم الآخرين، وفق نظرية التشفّي.
لا شيء يوحي بأن خليل مؤمن بنظرية. عنصريته عارية، لا يغطيها أي لباس نظري وفكري. ليت عنصريته من ذلك النوع الذي صنعته نظرية الكيانية اللبنانية، وما استتبعها من أسطرة للتاريخ والاشخاص. لكن عنصريته كريهة وفارغة، وكان يفترض بالمخرج العظيم أن يكون قد تخطاها، كما تخطاها جزء يسير من المجتمعات الغربية قبلنا نحن العرب بعقود طويلة. والمقصود هنا، العنصرية تجاه أصحاب البشرة السوداء، وحتى ولو كانت فقط في معرض التشكيك في أصالة الصور الآتية من مضايا، وهو تشكيك يجعل السطقة مزدوجة.
التغريدة التي نشرها مخرج البرنامج السياسي الساخر على حسابه الرسمي في “تويتر” أمس الجمعة، تتحدث بما يكفي من الصراحة عن تلك النظرة المقيتة لأصحاب البشرة السوداء. فخليل من أصحاب البشرة البيضاء، وبالتالي يحق له، (ولا ندري من فوّضه بذلك!)، أن ينشر صورة لأفارقة بأجسام هزيلة تشير صراحة إلى الأزمة الغذائية التي تعيشها مناطق في القارة الإفريقية. لكن النشر لم يكن استنكاراً لحال هؤلاء ولا طلباً لاعانتهم، بل لأن جوعهم موضع سخرية.. سخرية من حقيقة مجاعة مضايا!
الجوع مادة للسخرية. خواء المعدة وهزال الجسد الذي يمهد للموت المحتوم والبطيء، مع ما يرافقه من ألم، مادة للتندّر عند شربل خليل. سخريته الوقحة ليست بتناوله الافارقة بهذا الاسلوب فحسب، بل في افتعاله توليفة تريد أن ترفع المسؤولية الانسانية والاخلاقية، تجاه ما يتداول عن موت بطيء جوعاً وبرداً، لأناس في بلدة مضايا السورية.
لم يطلب أحد من شربل خليل، أن يعلن مناصرته لطرف دون آخر في الحرب السورية. لكن ثمة سؤالاً أخلاقياً يطرح عليه وعلى أمثاله: هل يمكن لإنسان أن يؤيد موت إنسان آخر جوعاً؟
تغريدته التي تشمل صورة لأفارقة كتب خليل معرفاً بأفرادها “رئيس بلدية #مضايا المحاصرة وأعضاء المجلس البلدي في آخر صورة لهم #أين_الضمير؟”. يريد خليل أن يكذب كل ما يُشاع عما يجري في مضايا، ليكون واحداً من جوقة التكذيب. لكن فات المخرج اللبناني، أن المسألة أكبر من النفي أو الاثبات القاطع لما يحدث في تلك البلدة السورية، ولا في أي سياق سياسي وميداني يحصل ما يحصل. بل، في أن يخول خليل لنفسه، بالمطلق، القبول بفكرة موت الناس جوعاً وبرداً، سواء في مضايا أو غيرها. لكن يبدو أن المخرج الذي تم “تدجينه مؤخراً”، بحسب ما ردّ عليه ناشطون في صفحته في “تويتر”، قرر أن يدخل في تلك “الحرب” الدائرة في وسائل التواصل الاجتماعي حول صدق وكذب ما يجري في مضايا.
شربل خليل، هو من الصنف الذي ينظر الى أناسه بعين واحدة. الصورة عندهم نصف صورة. ويبدو أن كل أطراف الحرب السورية العبثية اليوم، يعملون بهذا المنطق. الموت مقابل الموت والجوع مقابل الجوع. وبينهما، أطفال قررت أطراف الحرب السورية، التحكم بمصائرهم.
ليتخيل شربل خليل نفسه محاصراً في مضايا، أو في كفريا والفوعة، أو في دير الزور، أو في أي من مناطق الحرب السورية التي يقول تقرير للأمم المتحدة إن 4 ملايين سوري فيها مهددون بالموت من سوء التغذية، لصعوبة الوصول إليها. ليضع خليل ابنته مكان طفل أو طفلة ويراها تذوي أمامه جوعاً وبرداً، هل يلعن الحرب ويستصرخ الضمير الذي سخر منه في تغريدته؟
يرجح أن يفعل خليل ذلك، لا بل وسيلعن عنصرية كل من يسخر من جوعه وجوع ابنته ويكذبه، كما يحصل معه الآن.
المدن
الممانعة” ضد “المقاومة/ مازن عزي
علّق “الإعلام الحربي” التابع لـ”حزب الله”، على الصور الرهيبة للمجوّعين، في بلدة مضايا في ريف دمشق، بالقول إنها “حملة ممنهجة لتشويه صورة المقاومة”.
صور الناس الذين يموتون جوعاً، تشوّه صورة “المقاومة الإسلامية” التي تُحاصرهم. صور تعكس وقائع، تشوه صوراً ذهنية، أو انطباعات عن “المقاومة”. فـ”حزب الله” المعني بتكريس هالته “المقاومة” لإسرائيل، يقوده الفعل السياسي-الحربي، لحصار سوريين، وقتلهم جوعاً، وتسمية الوقائع “حملة ممنهجة” للنيل من سمعة “المقاومة الإسلامية”. المنطق الذي يستخدمه الحزب، يغلب عليه جانبه المثالي الصوري، فلا وقائع مادية تخرقه، مجرد الاتساق في العمليات الذهنية يكفي لأن تكون النتائج صادقة. في هذه اللحظة، يبدو بأن الحزب، ما زال منسجماً مع ذاته، فلا شيء يحدث في الخارج سوى مؤامرة تستهدف “المقاومة”.
الحزب تعدى منطقه الصوري المثالي، إلى المنطق الرياضي، في تحليل نسب الجماعات المسلحة “الإرهابية” في مضايا: 60 في المئة “أحرار الشام” و30 في المئة “جبهة النصرة” و10 في المئة “جيش حر”. والمنطق الرياضي، حين يستخدمه فكر مثالي، يصبح أكثر صورية، فلا شيء يحدث خارج الذهن، ولا بد أن يستقيم الواقع للحساب. وفي الرياضيات الحسابية، للعقل “المقاوم”، هناك مجرد أرقام ينبغي التخلص منها. أرقام تعيق انتصار صورة المقاومة. وفي منطق “حزب الله” قطيعة كلية مع منطق الفلاحين والمحرومين الذين خرج منهم، وحكمتهم القديمة “حساب البيدر غير حساب الحقل”. والحساب الرياضي الذهني البارد، يذهب أبعد من ذلك، فقد “أدخلت في تشرين الأول/أكتوبر كمية مساعدات تكفي لعدة شهور”، بحسب بيان “المقاومة الإسلامية”، فعلام كل هذه الجلبة؟ فالجوع مفتعل، والموت مفتعل، والحصار وَهمٌ. وما يناقضُ ذلك التصور الذهني، أسعارٌ فرضها مقاتلو الحزب على المواد الغذائية: سيارة بكيلوغرام رز، بندقية بعشرة كيلوغرامات، ليلة مع امرأة مقابل “كاسة” رز. هنا الواقع، لا يحفل بالعقيدة ولا المنطق. عناصر الحزب يجسدون قوة مطلقة تُحاصِر وتجوّع وتذّل أهل مضايا.
“حزب الله” في بيان التبرير المختبئ خلف اسمه القديم “المقاومة الإسلامية”، حاول تهميش الفعل الواقعي، لصالح انطباعات ذهنية، تتابع في بيانه؛ فجماعات المعارضة، تتخذ من المدنيين دروعاً بشرية، وتقوم بتجويعهم: “إذ لا يتحمل مسؤولية ما يجري في البلدة سوى الجماعات المسلحة التي تتخذ من مضايا رهينة لها”، و”تتحكم قادة الجماعات المسلحة بالمساعدات الغذائية التي توزع وتوضع في مستودعات تابعة لهم في وسط البلدة ويتم ابتزاز السكان فيها وبيعها للمدنيين لمن يستطيع شراءها”، و”تستخدم الجماعات المسلحة الإرهابية السكان الذين لا يتجاوز عددهم 23 ألف نسمة كدروع بشرية وورقة سياسية يستغلونها الآن في حملة إعلامية كاذبة”.
فبحسب الحزب، المسلحون من أهل المدينة، يتخذون من مدينتهم “رهينة”، ضد من يحاصرهم. أي أن المُحاصَرين يحاصرون أنفسهم، ويجوّعون أهلهم حتى الموت، كي تتشوه “صورة المقاومة”.
في بيان الحزب، التبريري، لصور الجوع، نزعة إنكارية للوقائع؛ فـ”لا توجد حتى الآن حالات وفاة، كما تدعي وسائل الإعلام، وبعض الجهات التابعة للمسلحين الذين يتحملون ما يجري في مضايا”. إلا أن الوقائع تفيد بوفاة 11 شخصاً جوعاً، ومقتل 10 أشخاص حاولوا خرق الحصار وإدخال الغذاء أو الهرب من الجوع، قنصاً بأيدي مسلحي الحزب.
تحميل المسؤولية للمسلحين والحملة الإعلامية الممنهجة، رغم إدعاء عدم حدوث أي حالة وفاة، تحيل إلى الفصام الذي يعيشه الحزب، بين ما هو عليه، وبين الصورة التي سعى إلى إظهارها عن ذاته منذ تأسيسه.
“حزب الله” المقاوم لإسرائيل، هو التصور الذاتي المرغوب لدى قيادة الحزب، ومصدر شرعيته. إلا أن الحزب فارق تلك الصورة، منذ أن وجه بندقيته إلى الداخل اللبناني في 7 أيار/مايو 2008، مستكملاً طور تحوله إلى ميليشيا عسكرية تنفذ مهاماً إقليمية. والحزب في تخارجه الكلي مع صورته المقاومة، منذ تدخله في الصراع السوري، بات أكثر شبهاً بمنظمته الأم “فيلق القدس”، التابعة لـ”الحرس الثوري” الإيراني. وصار الحزب ميليشيا عسكرية، لا تحكمها ضرورات المعركة مع إسرائيل، بقدر توطين الهيمنة الإيرانية في المشرق العربي.
التخارج مع الصورة الأصلية، هو مصدر الألم والقلق الذي يعيشه الحزب اليوم. لكن التحول في الدور والوظيفة، والذي صار كاملاً، ما زال بحاجة إلى قطيعة مع ظروف التأسيس الأولى، وعقيدتها. قطيعة قد تتعدى إعادة تركيب النسق الصوّري، إلى ضرورة الإعتراف الداخلية بعملية التحول. ومن دونها سيبقى الحزب سجين صورته المشتهاة عن ذاته، محاصراً بصور الجوعى يموتون في مضايا وغيرها.
إلا أن ذهنية التقيّة، تعيق المصارحة الداخلية، مفضلة التغيير من دون الإشهار عنه. في الأمر خلط للجانب العقائدي مع السياسي، ما ينتج براغماتية سياسية تعيد تأويل العقيدة كما تفرض المصلحة. البراغماتية تتعدى السياسة إلى العقيدة، وحين تعجز عن إيجاد “مقامات مقدسة” بحاجة إلى من يحميها، فـ”طريق القدس يمر عبر الزبداني”.
كما أن تحولاً آخر، في وعي الحزب لذاته، يتجلى في تماهي سلوك عناصره من تجويع لناس مضايا، مع ما فعله جيش يزيد بن معاوية حين ضرب حصاره على جماعة الحسين. تلك الحادثة المركزية في وعي الشيعة، ومظلوميتهم. تجويع جيش يزيد للمحاصرين من آل البيت، على ما تقول الحكاية التاريخية، هو ما يستعاد كمظلومية في منهج وعقيدة من كانوا يوماً “محرومين”.
ويضاف إلى عملية تحول الحزب، تماهٍ مع المعتدي الإسرائيلي، وتبنٍّ لبعض سلوكيات الإحتلال: التغيير الديموغرافي. الأنباء الواردة من مضايا والقلمون السوري، تقول إن من جملة المقايضات التي يفرضها الحزب على المُجوّعين، بيع أراضيهم في سهول البلدة، مقابل الطعام. البيع يتضمن تغيير هوية المالك العقائدية-الإثنية. وبالتالي استخدام الأرض مقابل الطعام، كبديل عن مقولة “الأرض مقابل السلام” التي أوجدها حلف “الممانعة”.
و”الممانعة” كمحور إقليمي، صارت في حالة افتراق مع “المقاومة” كفعل تحرري. بل باتت “الممانعة” رافعة للحزب، يخوض من خلالها حرباً ضد صورته الأصلية “المقاومة” للهيمنة الخارجية، في صراعه ضد “المقاومات” الإسلامية في سوريا. تلك الفصائل الإسلامية، هي من التشابه مع صورة الحزب الأولى، إلى حدّ يثير الذعر. وإذا كان الخلاف الوحيد بينهم في تبني الأولى للسلفية الجهادية السنية، والثانية لولاية الفقيه الشيعية، فبماذا يختلف “جيش الإسلام” أو “حركة أحرار الشام” عن “حركة حماس” أو “الجهاد الإسلامي”؟ في العقيدة أم في البنية التنظيمية؟
“حزب الله” الممانع أتم انقلابه اليوم، على “حزب الله” المقاوم، وبات يُحاصر ويُجوّع الناس في سوريا، ويمنع عنهم حقّ “المقاومة”. المشكلة الوحيدة المتبقية، هي اعتراف الحزب بعملية تحوله.
المدن
مضايا تخطّت كربلاء/ منير الربيع
ليست بعيدة عنك كربلاء. أنت حاضرها المجسّد، تحاصرك الأرض والسماء. أبناؤك بلا أسماء. أرقاماً غدوا. أجساد نحيلة نخرها العظم لا قوت فيها، تتناثر هباء. تتكسّر الإنسانية على أعتابك، ويُدفن الضمير تحت ركامك، لم يعد فيك غير الخواء. ومن يريدك لن يمانع حتى حجب الهواء.
مضايا، غدوت بقايا ركام. تكاثر من حولك اللئام. يريدونك شريدة، طريدة، لا أهل لك، يريدون فيك جثثاً بلا أحلام. توقها فقط، كسرة خبز، عجنتها الدماء. روح الحسين تطوف من فوقك، تستعيد ما أحلّ بها غلاة الزمان.
حجبوا الحياة عنك. خيروك ما بين استسلام وانهزام. لم يتركوا لك غير جوع وعراء، لا ضمير لدى العالم، ولم يعد في الوجوه أدنى حياء.
ثوابت كثيرة زعزعتها الثورة السورية. هدم السوريون أبراجاً عاجية، وحطّموا صوراً اسطورية، حتى في مفهومية الثورة فرضوا قواعد جديدة، لم تقتصر مقاومتهم على السلاح والقتال، نمطهم الجديد، مقاومة الجوع والتجويع، مجابهة الموت بالحياة.
يجسّد السوريون العين التي تقاوم المخرز، من تحت ركامهم يهتفون للحياة، يمكثون تحت بطن الدب، ويخزونه أملاً بالقيامة.
ما جرى في الزبداني وبعده في مضايا، عنوان سقوط العالم. سقوط كل المفاهيم القيمية. هي عودة تاريخية الى ما قبل الجاهلية، برعاية أممية، حيث لا وجود لحقوق الانسان، ولا لما تدعيه الأديان. كل الأعراف تتهاوى، والديانات تتعرى، لأنها بلا جدوى.
باسم الدين، الله، المقاومة، والوطنية والعروبة، تحصل أكبر مجزرة في تاريخ البشرية. كهول وأطفال، رجال ونساء يحاربهم الجوع في السياسة. ولم يجب المستدعى، ذلك الذي هتف له السوريون بـ”يا الله ما لنا غيرك يا الله”.
على مرأى العالم، تتعرض مضايا لإبادة جماعية، ليس لشيء إلا لفرض عملية تبادل سكانية هي فضيحة. في مضايا أكبر من قانا، وأعظم من هولوكست، هي عمليات تطهير عرقي، لتحصيل تغيير ديمغرافي.
لا بعد بين الواقعتين، لكن مضايا أبعد. تخطّت كربلاء، وفاقتها مظلومية وظلامية. لم يدم الحصار في أرض الطّف أكثر من يوم، أو بضع ساعات. في الشام الحياة ممنوعة لمئات الأيام. حتى أطفال كربلاء حيّدهم الحصار، توفّر لديهم أكل وشراب. في مضايا، لم يعد للأطفال غذاء غير التراب.
تخطّت مضايا كربلاء، لكن شعيرة الأخيرة تجد من يحييها كل عام. مع التمثّل بقيمها ومفاهيمها. تذبح مضايا بصمت، لا مفهوم للمظلومية فيها، تنحجب عنها ثمرة كربلاء، والجميع يرعى ما فيها من بلاء.
المدن
التجويع الجماعي بعد البراميل والكيماوي!/ عبد الرحمن الراشد
لا يُستغرب أن يجوّع النظام السوري عمدًا آلافًا من الناس، لأنه على مدى أربعين عامًا من الحكم كان يمارس ذلك كسياسة في أقبية السجون وضد خصومه. وليست الوحشية غريبة على إيران، التي يدير جنرالاتها الحرب في سوريا على الأرض، وهي وراء عملية المحاصرة. وليس مستغربًا من حزب الله، كتنظيم ديني متطرف، أن يتولى رجاله وظيفة الحصار حتى الجوع والموت ضد المدنيين في سوريا. فقد كان الحزب في لبنان ينصب صواريخه داخل القرى الجنوبية، شيعية ومسيحية، ليستخدم أهلها دروعًا ودعاية في مواجهته مع إسرائيل عام 2006.
أربعون ألف إنسان يعيشون اليوم، أو على الأصح يموتون، في بلدة مضايا السورية، نصفهم لجأوا إليها من البلدات المجاورة هربًا من القتل. ومنذ ستة أشهر يحظر عليهم مغادرتها من قبل قوات الأسد وميليشيات الحزب، التي تحظر أيضًا دخول فرق الإغاثة، حتى نفد الطعام منهم. العشرات من السكان ماتوا جوعًا، والبقية صارت شبه هياكل عظمية، على حافة قبورها.
المستغرب هو أن العالم بحكوماته، وجيوشه، ومنظماته الحقوقية، وإعلامه، لم يفعل شيئًا ملموسًا لوقف جريمة الموت بـ«التجويع الجماعي» الذي يمارس علانية أمامه.
في الوقت نفسه، تجري هناك عملية تحالف دولي ضخم من أسراب الطائرات التي تقصف تنظيمات مثل «داعش» و«النصرة» لأنها قامت بجرائم ضد الإنسانية، وهي تستحق الحرب عليها. لكن السؤال: لماذا التمييز في الجرائم وبين المجرمين؟ كيف يمكن السكوت عن مثل هذه الجريمة الأكبر، تجويع أربعين ألف إنسان حتى الموت؟
لقد كانت قمة المأساة في سوريا قصف المدنيين حتى يتم تشريدهم. واليوم صارت المأساة منع الناس من الخروج من أجل تجويعهم حتى الموت. يقوم النظام السوري والإيرانيون بمحاصرة البلدة بالأسلاك الشائكة، وتلغيم محيطها حتى لا يهرب الأهالي! كان بوسع الميليشيات على الأقل تركهم ليهربوا منها، ثم اقتحامها للاستيلاء على البلدة من المقاتلين المتحصنين داخلها، وعددهم أقل من مائة وخمسين من مسلحي المعارضة. لكن إيران وميليشياتها الحليفة، بدلاً من اجتياح البلدة، تتعمد فرض الحصار، وتجويع السكان، وذلك من قبيل الضغط على المعارضة لاستعادة بلدتين محاصرتين، الفوعة وكفريا، اللتين لم تتعرضا للتجويع.
صار ارتكاب جرائم جماعية ضد المدنيين العزل في سوريا يمارس على نطاق واسع، بما يجعلنا نتساءل: ما هي الحدود، إن كانت هناك حدود؟ فقد جرى خنق آلاف المدنيين وقتلهم بالغازات الكيماوية المحرمة دوليًا، وتم قتل عشرات الآلاف من سكان المدن عمدًا برمي البراميل المتفجرة من الطائرات، وجرى توثيق عمليات قتل في السجون نفذت بشكل جماعي، وظهرت آلاف الصور وأكدت صحتها المنظمات الدولية، والآن يتم قتل السكان بمنعهم من الهروب، وقطع مدد الأغذية عنهم، وتركهم يموتون جوعًا.
لا يعقل أن تُمارس عمليات القتل الجماعي منذ خمس سنوات دون أن يتحرك المجتمع الدولي لحماية السكان، وكل ما يفعله هو البحث في كيفية التوصل إلى حل لمد حكم النظام. القتل الجماعي الذي مورس ضد الشعب السوري باستخدام كل الوسائل، من الغاز الكيماوي، والبراميل المتفجرة، ودفن السجناء أحياء مقيدين، والآن التجويع الجماعي في مضايا، سيولد كمًا أكبر من الحقد والكراهية داخل سوريا، وفي المنطقة، ونحو العالم.
الشرق الأوسط