تحطيم المكان استراتيجية سياسية.. سورية نموذجاً/ سمير الزبن
لماذا يقوم النظام السوري بتدمير أماكن لا يحتاج إلى تدميرها ويجرفها من سكانها؟ لماذا يمارس فائضا من العنف، لا يحتاجه من أجل إعلان انتصاره بمقياس الهزيمة والنصر؟ أي هدفٍ يسعى إلى تحقيقه في الأماكن المحطّمة المجرّفة من السكان؟ لماذا يرغب النظام دائما في إعلان نصره على أماكن يعتبرها معاديةً بعد تحطيمها تماما؟ هل هذا مجرّد رد فعل سياسي عنيف وغبي واعتباطي وفائض عن الحاجة فقط، أم أنه تعبير عن إستراتيجية إلغائية من النظام؟
النظر إلى مسار الصراع الطويل وسلوك النظام الوحشي في مواجهة المناطق التي تمرّدت عليه، يعطي فكرة أخرى عن هذا السلوك، بوصفه سلوكا مقصودا بذاته، وليس عنفا اعتباطيا أو فائضا عن الحاجة، فهو شكّل ويشكّل إستراتيجية سياسية معتمدة، اعتبرها النظام فعالة في مواجهة أعدائه الداخليين. استخدم هذه الإستراتيجية في مدينة حماة في العام 1982، وعمّمها على كل البلد في الصراع الجاري منذ العام 2011. النظر إلى هذا السلوك الوحشي، بوصفه إستراتيجية سياسية معتمدة، يجعل كثيرا من سلوك النظام الوحشي مفهوما في سياق الصراع، وهو يفسّر الاستخدام المبكر للبراميل المتفجرة عشوائية الأهداف، في وقتٍ مبكر من قمعه الاحتجاجات في المدن السورية.
إنها سياسة الأرض المحروقة التي تعمل على تبديل معالم المكان. وبالتالي، تبديل بنيته
الاجتماعية. وطالما أن المكان هو الذي يحمل البنية السكانية المعادية للنظام ويحتويها، فلا يمكن تحطيم هذا المجتمع المعادي، إلا بتحطيم المكان، بالتالي اقتلاعه وتذريره في أماكن أخرى، يكون فيها غريبا حتى في وطنه، وتفكيك وحدته المجتمعية، من خلال تحطيم المكان الذي يسكن فيه هذا المجتمع.
اعتماد النظام في سورية هذه السياسة للمرة الأولى في صدامات مدينة حماة في العام 1982. لم يكن المقاتلون الذين تحصّنوا في مدينة حماة، والذين يقدّروا في أحسن الأحوال بحوالي 200 ـ 300 مقاتل. لم يكن القضاء عليهم يحتاج إلى تدمير المدينة. لكن النظام اختار أن يدمر المدينة، من أجل تحطيم مجتمعها، وبالتالي إعادة بناء المكان بمقاييس السيطرة السياسية والأمنية على المدينة التي اعتبرها النظام عدوة، وبقي يعاملها كذلك في السنوات اللاحقة. إضافة إلى جعل المدينة نموذجا تأديبيا للمدن السورية الأخرى، في ما إذا أبدت تمرّدا على النظام، أو فكرت في ذلك.
إذا، لم تكن سياسة تحطيم المكان، بوصفها إستراتيجية لتحطيم السكان، واضحةً تماما في تجربة مدينة حماة، فإن هذه الإستراتيجية تبدو جليةً جدا في سياسات النظام، لتحطيم المكان، بوصفه عنوانا للتمرّد الذي انطلق في العام 2011، والسكان بوصفهم هدفا عشوائيا، طالما اعتبر النظام أن المكان بسكانه هو حاضنة لهؤلاء الأعداء. وبالتالي، يجب تحطيم المكان لتحطيم الحاضنة الاجتماعية وتجريفها، وهي الوسيلة المثلى لانتصار النظام على أعدائه (الشعب)، وعلى الحاضنة التي أعطت الجرأة لهؤلاء للتمرّد عليه.
لم يقف تحطيم المكان عند تدمير البنية المعمارية لتدمير النسيج الاجتماعي للمناطق التي تمرّدت على النظام السياسي فحسب، بل حتى عندما يعلن النظام الانتصار في هذه المناطق، فإنه يبقيها فارغةً من سكانها. على سبيل المثال، أعلن النظام نصره في مدينة داريا في محيط دمشق القريب منذ أكثر من عامين، لكنه لم يسمح لأيٍّ من سكانها بالعودة إلى منازلهم، بمن فيهم مؤيدوه، بمعنى أن تحطيم المكان، ومعاقبة سكانه، لا يشمل الأعداء فحسب، بل ولا يشمل إعطاء امتياز العودة حتى إلى المؤيدين. وإذا كان هناك وضع خاص لداريا بوصفها مشرفة على مطار المزّة العسكري، مقر المخابرات الجوية، الأكثر إجراما في الصراع الحالي، فإن هذه السياسة تشمل مناطق أخرى، وهي سياسة متبعة اليوم في التعامل مع الغوطة الشرقية، التي دمّر النظام مدنها بالقصف على مدى سنوات، وهو اليوم يجرّف السكان إعلانا لانتصاره. حتى في الأماكن التي لم يمنع السكان من العودة إليها، فهو لم يقم بإصلاح البنية التحتية من ماء وكهرباء، ما يجعل الحياة في هذه المناطق مستحيلة.
تشبه الاستراتيجية التي اعتمدها النظام بالتعامل مع المكان الاستراتيجية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين التي اعتمدت استبدال السكان من خلال تحطيم المكان، وتحطيم البنية الاجتماعية،
وترحيلها إلى خارج فلسطين، لإقامة دولة إسرائيل على أنقاض المجتمع الفلسطيني. ولا يختلف سلوك النظام بتحطيم المجتمع السوري الذي خرج محتجّا عليه وعلى سياساته وطريقه حكمه. ولأن النظام تعامل مع المدن السورية، كتجمعات سكانية معادية، كان لا بد من تدميرها، بوصفها عنوانا للاعتراض السياسي على السلطة الحاكمة، وأيضا لأن نظاما كهذا لا يحتمل أي معارضة، بعد أن جرف الحياة السياسية في سورية، ولكن هذا التجريف لم يمنع المجتمع السوري من الثورة على هذا النظام الوحشي، على الرغم من كل سياسات النظام الإلغائية على مدار أربعة عقود سابقة على الثورة. وهذا المجتمع الذي احتج على النظام بحاجة لإعادة بناء، وحتى تتم إعادة بنائه، يجب تحطيمه بوصفه بنية معادية، وبناء “المجتمع الوطني المفيد”. لذلك لم يكن غريبا أن يرى رأس النظام أن سورية، بعد كل هذا الدمار، والمجتمع السوري “أكثر انسجاما” من السابق.
ما جرى ويجري في سورية نوع من “أسرلة” النظام و”فَلَسْطنة” السوريين بأكثر الأشكال عنفا ووحشية، تدمير المكان وتجريف البشر، لإلغائهم من الوجود. وبالتالي، التعامل مع المجتمع المحلي، بوصفه عدوا يجب القضاء عليه، بصرف النظر عن الكلفة التي يمكن دفعها في هذا السياق، حتى ولو كانت إعادة بناء البلد كله بوصفه “مزرعة” للعصابة الحاكمة بالحديد والنار.
تحطيم المكان يعني تحطيم المعمار البشري الذي كان قائما، وبالتالي تدمير الذاكرة التي هي البشر وتاريخهم في المكان. لتدمير المكان هدف واضح، هو تدمير البشر، تدمير السوريين غير المفيدين، وإعادة رسم خريطة سورية المعمارية والاجتماعية، الخريطة التي يراها النظام ملائمة له، “سورية المفيدة” للعصابة الدموية الحاكمة، التي تهندس البلاد بشريا ومعمارياً على مزاجها، ووفق مصالحها الضيقة.
العربي الجديد