تحليل أنماط التفكير في الانتفاضة السورية
محمد ديبو
ثمة نمطان فكريان يهيمنان على قراءة الانتفاضة السورية. الأول يقرأها بدلالة النظام المستبد وحسب، معتبراً أنّ مجرد فضح بنية النظام وديكتاتوريته وفاشيته، أمر كاف لإسقاط النظام. والثاني يقول إنّ الوضع السوري معقد جداً، ولابد من قراءته ضمن تموضع النظام الفاشي في نقطة التقاء محورين إقليميين ودوليين متصارعين، ما ينعكس بدوره على الانتفاضة السورية التي تحصد ثمن هذا الاستقطاب. وإذا كانت فاشية النظام الديكتاتوري وعدم أهليته لحكم سوريا يوماً واحداً أمراً مفروغاً منه على مستوى العدالة المطلقة، فإنّ أصحاب النمط الأول يتوهمون أن هذا الأمر كاف لإسقاط النظام والولوج إلى بوابة الدولة المدنية الديموقراطية العلمانية، متجاهلين تجارب التاريخ التي لا يزال بعضها قائماً (حكم البشير المطلوب رسمياً للمحكمة الجنائية الدولية). والأسوأ حين يندرج هؤلاء في استراتيجية تطيل عمر النظام في الوقت الذي يظنون فيه أنّهم قاب قوسين أو أدنى من إسقاطه، أي إنّ حصرهم الرؤية بهذا الأمر فقط، يجعلهم غير قادرين على رؤية أوراق القوة التي يتمتع بها النظام فعلياً، وبالتالي العجز عن تفكيكها، مما يقودهم لرسم سياسات خاطئة تؤدي للاندراج في أجندة قوى دولية تتلاعب بهم ليكونوا وقوداً لها حتى لو نجحت تلك القوى الدولية بإسقاط النظام لهم، لصالح نظام آخر لن يكون ديموقراطياً بل شبيهاً به. لأنّ أكثر ما تخشاه هذه الدول هو الديموقراطية، وهو أمر شرحه المفكر الأميركي الشهير نوام تشومسكي حين قال: «الولايات المتحدة لا تريد حقاً أن تعبر السياسات في الدول العربية كمصر وغيرها عن الرأي العام لشعوب المنطقة… إذا حدث هذا فقد يختلف موقف الحكومات من إسرائيل والولايات المتحدة، ولن تعتبر إيران خطراً كبيراً… وعندها سترى الولايات المتحدة أنه يجب وقف الديموقراطية، لأنّها تعني ببساطة انعكاس الرأي العام على السياسات». هنا إذا عرفنا أن أصحاب هذا النمط من التفكير وضعوا كامل بيضهم في السلة الأميركية/ الخليجية فسيغدو واضحاً لنا الوجهة التي يسيرون نحوها، عدا تأثير هذا الأمر على قوى الانتفاضة وقطاعات شعبية كثيرة ارتدّت عن المشاركة بعد أن خشيت من أجندة هذه الدول.
النمط الثاني من التفكير يقول بأنّ رؤية إسقاط النظام الفاشي لا بد من قراءتها من خلال موقع الانتفاضة السورية والنظام الفاشي (كطرفي صراع) ضمن وضع سوريا الجيوسياسي في المنطقة، وارتباطها بقضايا المنطقة (النووي الإيراني، المقاومة اللبنانية والفلسطينية، المد التركي المتصاعد، حقول الغاز المكتشفة في المتوسط ودور موقع سوريا في خطوط النقل إلى أوروبا، محاولات إبقاء منطقة الخليج بعيدة عن الربيع العربي، حزب العمال الكردستاني وموقعه في الطموحات الكردية نحو الاستقلال من جهة، وفي المعادلة التركية من جهة أخرى، العراق الخارج من الرعاية الأميركية إلى الاحتضان الإيراني/ الروسي/ الصيني..)، وكذلك الأمر الدور الإقليمي الذي بناه الأسد الأب لسوريا خلال العقود السابقة، والذي يراد الآن تفكيكه عبر اعتلاء الانتفاضة السورية، بمساعدة قوى محسوبة عليها، لصالح قوى إقليمية مستقرة وأخرى تصعد الآن.
موقع سوريا ليس وليد نظام الأسد بل هو أمر قائم منذ تشكلت سوريا بشكلها الحالي على خلفية اتفاق سايكس بيكو، إذ يقول المؤرخ كمال ديب في كتابه الموسوعي «تاريخ سوريا المعاصر»: «لقد وجدت أن أحداث سورية من 1920 إلى اليوم شديدة التعقيد، مرتبطة بأحداث المنطقة العربية والشرق أوسطية تشوبها انقلابات وثورات وحروب وأزمات… إن فهم خلفيات تاريخ سوريا وأوضاع سوريا الداخلية… ضروري لفهم تطورات المنطقة… وإن جهل تاريخ سوريا أو تجاهله يوصل صاحبه ليس فقط إلى فهم خاطئ وجزئي لأوضاع المنطقة وأحوال تلك الدول، بل أحياناً إلى حقد وعنصرية وإلى إطلاق أحكام مطلقة غير مبنية على معطيات صحيحة، وبالتالي إلى تبني مواقف متطرفة قد لا تكون لها علاقة بأرض الواقع». وسبق أن قال ألبرت حوراني إنّ الصراع على سوريا قائم حتى ولو كانت خالية من السكان، مما يضعنا أمام شبه بديهية من بديهيات مقاربة المسألة السورية التي قفز عنها أصحاب الرؤية الأولى فوصلوا الحائط المسدود الذي اصطدمت به المسألة السورية الآن.
سلوك أصحاب النمط الأول هو إقصائي إلى حد كبير تجلى بسعيهم لاحتكار المعارضة واستخدامهم «التشبيح الفعلي» كوسيلة لضرب المعارضين الآخرين كما حصل مع هيثم المناع وعبد العزيز الخيّر ورفاقهم في القاهرة، و«التشبيح الفكري» حين يسِمون خصومهم الفكريين بأنّهم «مهادنون» في نقد النظام وهم الذين يصيحون يومياً في تظاهراتهم «الشعب يريد إسقاط النظام» وأدمنتهم السجون ويرقد شهداؤهم في المقابر. إذ بمجرد انتقاد أحدهم تصبح بعرفهم أنت ونظام الأسد شيئاً واحداً، الأمر الذي يحيل إلى أزمة أخلاقية عند هؤلاء. علماً أنّهم ما انفكوا منذ بداية الانتفاضة وهم يضعون المظلات الأخلاقية لمحاكمة الآخرين في معركة مدروسة تهدف إلى تشويه سمعة معارضين وطنيين فقط لأنّهم اختلفوا معهم في الطريق إلى إسقاط النظام. هذا السلوك يطيل عمر النظام السوري لأن من يريد الديموقراطية حقاً عليه أن يقدم سلوكاً ديموقراطياً، وعليه ألا يقاتل النظام بأدواته.
ولعل اعتماد هؤلاء على أساليب النظام نفسه ساهم في تعريتهم وكشفهم للشعب السوري الذي دفع ثمن أخطائهم، دون أن يعني الأمر تبرئة النظام الذي يتحمل مسؤولية كل شيء، في حين تنحصر مسؤوليتهم بمساعدة النظام على تحقيق مهمته في البقاء عائماً على جسد العنف الدائر داخلاً والاستقطاب العالمي والإقليمي خارجاً، إذ أدت أساليبهم إلى جعل قسم كبير من الشارع يرى فيهم نسخة سيئة من السلطة الحاكمة وهم لا يزالون على مقاعد المعارضة وفي أحضان الخارج، الأمر الذي لجم حماسة الشارع تجاههم وتجاه الانتفاضة.
إنّ النظر لمسألة إسقاط النظام من خلال الاستناد إلى فاشية النظام وحده، تتحول هنا إلى إيديولوجية للتحشيد تخاطب غرائز الجماهير ودمائها النازفة أكثر مما هي رؤية عقلانية قادرة على تبصر الواقع واحتمالات النجاح. ولعل بدء هذه الرؤية بطلب العون من أميركا وحلفائها عبر جمعتي «الحماية الدولية و«الحظر الجوي» وانتهائها بجمعة «أميركا ألم يشبع حقدك من دمنا» يدل على عقم هذا المنطق الذي لم يفعل بعض المثقفين سوى تبريره وإيجاد المبررات له عند كل منعطف، لعجزهم عن الاعتراف بخطئهم، لينطبق عليهم قول لينين الشهير: «ﺇﻥ ﺍﻟﻤﺜﻘﻔﻴﻦ ﻫﻢ ﺃﻗﺪﺭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺎﻧﺔ، ﻷﻧّﻬﻢ ﺃﻗﺪﺭ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﻠﻰ ﺗﺒﺮﻳﺮﻫﺎ».
الرؤية الثانية، تقوم على الاستناد إلى الانتفاضة السورية كجذر أساس لما يحصل في سوريا، ومن ثم قراءة هذه الانتفاضة من الداخل عبر معرفة قوتها ومدى تجذرها وشعبيتها ومدى استقلاليتها عن الأجندة الخارجية، ومقارنة ما سبق بقوة النظام عسكرياً وشعبياً وبأوراق التفاوض التي يملكها في الباحات الخلفية (حزب الله ــ حزب العمال الكردستاني ــ منظمات فلسطينية وعراقية…)، لتحديد مكامن القوة والضعف، ومن ثم قراءة الأمر ضمن المعادلة الدولية الموجودة، بالتواصل مع القوى الدولية القادرة على التأثير على النظام السوري عبر ضمان مصالح الحد الأدنى لها، استناداً لقراءة تجارب الدول الأخرى (تونس ومصر واليمن) لأنّ المعارضة بنت جسورها مع الدول ذات التأثير على النظام فساهمت في رفع الغطاء عنه. في حين أنّ المعارضة السورية طرقت الأبواب الخطأ، مما دفع تلك الدول للتصلب في مواقفها أكثر، ولعل قول لافروف أخيراً أنّ «الأسد لن يرحل أبداً» بعدما قال الرئيس الروسي السابق ميدفيدف أنّ «مصيراً حزيناً ينتظر الأسد» يشي بذلك.
والأهم أن يكون ما سبق مجنداً في خدمة الهدف المتمثل بالوصول إلى دولة مدنية علمانية ديموقراطية تسقط النظام المستبد الفاشي، وليس إسقاط النظام وليكن بعده الجحيم، لأنّ الدول الداعمة لهم ستقف ضدهم، فهي لا تريد جحيماً على حدود إسرائيل الشمالية!
* شاعر وكاتب سوري
الأخبار