تداعيات الثورة السورية
د. رياض نعسان أغا
يزداد المشهد السوري الدموي تعقيداً مع حالة انسداد أفق أمام النظام والمعارضة معاً، فلم يعد بوسع النظام أن يقمع الثورة التي كلما اشتد في مواجهتها اتسعت دائرتها وقويت إرادتها، وكلما ضيق على المعارضة كبرت مساحتها وازدادت مساندتها، وكذلك تعاني المعارضة تفكك تنظيماتها وارتباك قراراتها. وأما الثورة التي أفقدها النظام سلمية مظاهراتها، وقادها مرغمة إلى ساحات القتال فلم تعد تواجه نظاماً تثور عليه، وإنما باتت تواجه قوى إقليمية ودولية كبرى تخشى انتصارها، وتسعى بكل إمكاناتها لوأدها حتى ولو استخدمت كل مخزونها الاستراتيجي كما تفعل إيران، أو تورطت في قضية لا تعنيها كما تفعل روسيا، أو فقدت مكانتها الأخلاقية، كما تفعل منظمة “حزب الله”.
وتبدو تداعيات الثورة السورية أكثر تعقيداً من الثورات العربية الأخرى، وربما كان من سوء حظ السوريين أن ثورتهم جاءت الخامسة بعد أن تمرس العالم في التعامل مع الثورات العربية، فلم تصعقه المفاجأة كما حدث في تونس، ولم يجد نفسه مضطراً أن يعالج ارتباكه السابق عبر تجاوب سريع كما فعل في ليبيا، أو أن يذعن للأمر الواقع كما فعل في مصر، أو أن يترك القضية للعرب وحدهم كما فعل في اليمن. ثم إن الثورة السورية لم تبدُ في مطلعها واضحة الأبعاد، فقد بقي المتظاهرون فترة طويلة نسبياً يطالبون بإصلاح النظام، وبإسقاط محافظ وعزل ضابط أمن، ولو جاءت الاستجابة من النظام عقلانية لما تطورت التظاهرات إلى ثورة شاملة، وهذا ما يفسر بقاء عدد من المحافظات، وأهمها حلب والرقة ودير الزور في حالة ترقب وانتظار قبل أن تنضم إلى الثورة، على أمل أن يتمكن النظام من تحقيق إصلاح جذري قبل أن تتسع دائرة النار ودائرة الدم معاً. ويتضح من التصريحات الرسمية الأولى أن النظام قرأ الحدث قراءة رعب من تصاعد المطالب، ويبدو أن حكماءه فهموا أن كتابات أطفال درعا على جدار مدرسة كانت جرس إنذار بنهاية حقبة وبداية حقبة، ربما لكون الحدث على بساطته وسهولة معالجته جاء وسط لهيب يشمل الأمة في أخطر ساحاتها، ولاسيما بعد سقوط أنظمة وصعود ثورات، ولم تكن هذه القراءة صائبة، وأحسب أن كل السوريين بمن فيهم الذين يريدون تغييراً جذرياً شاملاً كانوا سيتفاعلون مع حوار وطني لو أن نصف مطالبهم تحققت، وكان من سوء الحظ أن استجابة النظام لبعض المطالب جاءت بعد انتهاء الصلاحية بسبب التردد والتلكؤ، ولو أن بعضها جاء في موعده الطبيعي لأعطى نتائج تخفف من حدة الانفجار، كما أن القراءة المضطربة التي زجت بأفكار لم تكن متداولة في الشارع الثائر، مثل الصراع الطائفي، والتطرف الذي يقود إلى الإرهاب، والتخطيط للتقسيم أذهل الثوار البسطاء، فبدا وكأن قارئها على الضفة الأخرى هو الذي بات يخطط للثورة ويوجه مسارها، ويريدها أن تقع في فخاخ الطائفية والتطرف.
لقد كان الرد العفوي من الثوار هو شعار “الشعب السوري واحد” وقد قابله شعار مرعب “الأسد أو ندمر البلد” وقد تطور إلى شعار لا أخلاقي يعترف بالجريمة ويتبناها، وهو الذي انطلق في لقاء رئاسي رسمي ودهشنا حين صفق له الحضور من المسؤولين جميعاً وهو “شبيحة للأبد” بما بدا اعترافاً رسمياً بتحول النظام عن موقعه الشرعي الضامن للقانون وللقيم، إلى موقع الضارب بعرض القانون والمتجاوز لكل القيم، واللاجئ إلى شريعة الغاب (ومعنى التشبيح هو ذات معنى البلطجة).
ويبدو أن “الحكماء” الذين أغرقوا النظام بفلسفة “التشبيح” كانوا مقتنعين في دواخلهم بأن حقبة من التاريخ انتهت فعلاً، وهذا ما يفسر السلوك العقابي الجماعي الثأري في القمع، فلو أن هؤلاء الناصحين للنظام أرادوا له إصلاحاً واستمراراً لما استخدموا أسلحة تدمير شامل، تقتل حتى أنصارهم، فبراميل الموت التي تتساقط على الأحياء السكنية لا تفرق بين معارض ومؤيد، وكذلك صواريخ “سكود” البعيدة المدى، وقد تم تدمير أحياء كاملة، وإبادة قرى، وهذا يفسر أن القمع تحول إلى ثأر وعقاب وترويع لما سموه البيئة الحاضنة.
لقد كان بالإمكان احتواء التظاهرات وإنهاؤها بالحكمة لولا سيطرة الناصحين بالعنف وحده، وهو ما ورط النظام بمزيد من الغرق في دماء الأبرياء الذين شملهم هذا العقاب الجماعي، مع أن خطابه كان يبرر ما يفعل بأنه يواجه عصابات مسلحة، وكان العالم كله يرى أن الذين يقتلون كانوا مواطنين عاديين ونساء وأطفالاً، قبل أن تظهر أية عصابة تملك السلاح، لكن الناصحين كانوا بحاجة ماسة لوجود عصابات مسلحة لتحويل قمعهم للثورة إلى مكافحة للإرهاب، ولم يكسب النظام عبر هذه الذرائع سوى أن التطرف حصل فعلاً في بعض المواقع، وأن عصابات مسلحة نشأت في سورية حقاً، وانقلب السحر على الساحر كما حدث مع الأميركان يوم دعموا الأفغان العرب.
ولعل من أهم ما ظهر من تداعيات للثورة هو هذا الانقسام العالمي الحاد في الموقف منها، فالخائفون على مستقبل إسرائيل يترددون في دعمها لخوفهم من أن تتابع الثورة زحفها بعد انتصارها، فتطالب بتحرير الأرض السورية المحتلة، وتشكل خطراً أمنياً على إسرائيل وهذا سر الصمت على تدمير سوريا كي يستلم الثائرون أرضاً محروقة سيحتاجون إلى عقود طويلة كي تستعيد عافيتها! والمفارقة أن يكون السؤال الكبير الذي يطرحه الداعمون لفظياً المترددون عملياً هو “ماذا عن اليوم التالي؟”. ويبدو مريعاً تدويل القضية السورية وخروجها من البعد العربي، وأشعر شخصياً بالفاجعة الكبرى، وأنا أجد القرار السوري قد صار في موسكو وطهران، وأرى التدخل الأجنبي الذي يستقدمه النظام قد أوصل البلاد إلى ما يشبه الاحتلال الإيراني الروسي لسوريا، والمدهش أن يقاتل “حزب الله” داخل الأراضي السورية، إلى درجة أن يتردد الأميركان في بلورة موقف واضح من اتساع النفوذ الإيراني لخوفهم من تداعيات الموقف الروسي والإيراني معاً، فضلاً عن القلق المعلن من أسلمة الثورة، وهذه ذريعة مفتعلة لأن الإسلام ليس جديداً على سوريا، ولأن العالم كله يعلم أن السوريين أبعد شعوب الأرض عن التطرف.
الاتحاد