تداعيات النهج الإيراني في الخلط بين المذهبي والسياسي/ عبدالباسط سيدا
يعتمد النظام الإيراني منذ إطاحة حكم الشاه عام 1979 وحتى يومنا هذا، نهج التوظيف السياسي للمذهب، وذلك لتجاوز التحدّيات الداخلية عبر تحقيق نجاحات خارجية توفّر له إمكانية الاستمرار في الدور الإقليمي الذي كانت إيران الشاه تؤديه. وفي هذا الإطار ركّز النظام على عقدة الشعور بالمظلومية لدى الطوائف الشيعية في المجتمعات العربية، وتمكّن من إقناع أوساط واسعة منها، بما ادعاه من أن راهنها غير المقبول بفعل سياسات التمييز والإبعاد إنما هو حصيلة لمآلات ما جرى في التاريخ الإسلامي. وهذا ما مكّنه من تحويل قضايا مطلبية عادلة – كان في الإمكان حلّها ضمن إطار مشروع سياسي وطني، يطمئن الجميع من خلال ضمان حقوقهم، واحترام خصوصياتهم – إلى قضية عقائدية مذهبية، تتمحور حول ضرورة الثأر والانتقام عبر امتلاك أسباب القوة العسكرية التي سترغم الآخرين على التراجع والتنازل، ومن ثم الاستسلام.
وقد تبنّى النظام المعني أسلوب إبعاد الزعامات والمرجعيات الشيعية الفعلية، التي كانت قد تمكّنت من فرض احترامها على وسطها بفعل كفاءاتها وإنجازاتها وتاريخها، مقابل إظهار وتسويق زعامات صنعها الدعم الإيراني الشمولي. كما ركّز النظام المذكور على الأوساط غير المسيّسة الهامشية التي لم تكن تدخل عادة في مجال اهتمامات السياسيين التقليديين وحساباتهم. وتمكّن النظام المذكور عبر شبكة من المنظمات المجتمعية الخيرية والخدماتية، إلى جانب المراكز الثقافية وجهودها الدعوية التبشيرية، من بناء تنظيمات سياسية – عسكرية في كل من لبنان والعراق. أما في سورية، فاتّبع النظام الإيراني نهج استيعاب النظام السوري بأكمله، والتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع السوريين، بخاصة في مرحلة بشار الأسد الذي لم يتمكّن لأسباب تتصل بضعفه الذاتي، وموقعه من الزمرة المهيمنة على القرار السوري، من المحافظة على نهج والده في ميدان مراعاة التوازن الإقليمي.
وجاءت التطورات السياسية في كل من أفغانستان والعراق التي أعقبت هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وانعكاساتها على مجتمعات المنطقة بأسرها، لتخدم الاستراتيجية الإيرانية المتمحورة حول تعبئة المكوّنات الشيعية في دول المنطقة، من خلال شيطنة التشدد السنّّي وتمظهراته الإرهابية. هكذا، أصبحنا أمام ظاهرة يمكننا تسميتها الأممية الشيعية، التي حرص النظام الإيراني على انتزاع مرجعيتها. وما ترتّب على ذلك تمثّل في ظاهرة اغتراب الأوساط الشيعية التي باتت جزءاً من المشروع الإيراني عن مجتمعاتها الوطنية، وأصبحت – بفعل الدعم الذي تلقته، ونتيجة التجييش المستمر الذي خضعت له – قوة معرقلة للمشاريع الوطنية في دول المنطقة، بخاصة في لبنان وسورية والعراق واليمن، وربما مستقبلاً في دول الخليج، وهي المشاريع التي كان من شأنها، في ما لو اعتُمدت وتضافرت سائر الجهود من أجل تحويلها إلى واقع معيش، أن تطمئن الجميع.
أما الأوساط والمرجعيات الشيعية التي لم ترضخ للضغوط الإيرانية، فقد باتت تعيش حالة اغتراب ضمن مجتمعاتها الفرعية، ووضعية غير مريحة في مجتمعاتها الوطنية، وذلك نتيجة المناخ العام غير السوي، والأحكام المسبقة، والمزاج المتوجس، والجهود التشكيكية من جانب القوى المتشددة على الضفة الطائفية الأخرى.
غير أن الجهود الإيرانية في ميدان الاستيعاب والاستثمار لم تقتصر على الشيعة وحدهم، بل شملت حركات الإسلام السياسي السنّية أيضاً على اختلاف توجهاتها، وذلك من طريق استخدام الورقة الفلسطينية بمهارة شعبوية لافتة، مهارة استمدت قوتها من واقع عدالة القضية الفلسطينية، ومعاناة الفلسطينيين من جهة، وهشاشة الوضع العربي الرسمي، وانشغال معظم الدول العربية بقضاياها الداخلية، وحرصها على تثبيت أنظمتها في مواجهة شعوبها المتذمرة لألف سبب وسبب، من جهة أخرى.
هكذا تمكّن النظام الإيراني من بناء أوثق العلاقات مع «حماس»، ومع «الإخوان المسلمين» في مصر. وكانت هناك محاولات مع «الإخوان» في سورية عبر وسطاء نقلوا إليهم رسائل مفادها أنه ليس لدى النظام الإيراني أي مانع من دعمهم ودعم النظام في الوقت ذاته. ويبدو أن المنظومة المفهومية والأدوات الأيديولوجية المشتركة بين الداعين إلى مشروع الإسلام السياسي بوجوهه المتعددة، وبغض النظر عن خلفيته المذهبية، هي التي ساعدت على التفاهم والعمل المشترك في الكثير من الأحيان بين حاملي المشروع الإيراني و «الإخوان» في أكثر من مكان.
وبالتناغم مع نزوعه البراغماتي، أقام النظام الإيراني عبر النظام السوري أوثق العلاقات مع حزب العمال الكردستاني منذ بداية الثمانينات، ولم تنقطع تلك العلاقة في مختلف المراحل، وقد تمكّن بفضل هذه العلاقة من ضبط الوضع الكردي داخل إيران إلى حدٍّ كبير، كما استطاع التأثير في الوضع الكردي ضمن إقليم كردستان. أما سورياً، فقد ساد السعي – بالتعاون مع النظام السوري بطبيعة الحال – للهيمنة الشاملة على الورقة الكردية، الأمر الذي منح النظام الإيراني نقاط قوة عدة في إطار التعامل مع تركيا بصفتها القوة الإقليمية المنافسة الأكثر تأثيراً في المحيط الحيوي الإيراني، بخاصة أن تركيا هي الأخرى تعمل في ظل حكومة العدالة والتنمية الإسلامية على مد الجسور مع القوى الإسلامية في المنطقة، لكنها في الوقت ذاته تمتلك بفضل النظام العلماني للدولة مؤهلات في التعامل مع الغرب لا تمتلكها إيران حالياً.
إن التعامل الفاعل مع نتائج المشروع الإيراني السياسي – المذهبي، الضار بالمنطقة وبإيران نفسها، لا يمكن أن يكون عبر الجهد العسكري وحده (عاصفة الحزم نموذجاً) على رغم أهميته في أجواء سعي النظام الإيراني لعسكرة أوساط واسعة ضمن الطوائف الشيعية في مختلف دول المنطقة، إنما لا بد من اعتماد مشروع سياسي متكامل، ركيزته الحوار والتفاهم بين مكوّنات مجتمعات المنطقة على أساس احترام خصوصيات هذه المكوّنات وحقوقها. وذلك لن يكون من دون الوصول إلى صيغة من صيغ حيادية الدولة بالمعنيين الديني والقومي، وهو الأمر الذي يستوجب القطع مع استراتيجية الخلط بين السياسي والمذهبي، والنزعة القوموية في أشكالها المختلفة. وبالتناغم مع ذلك، لا بد من التعامل بعقل وقلب مفتوحين مع مطالب سائر المكوّنات القومية والدينية والمذهبية لمعالجتها ضمن أطر مشاريع وطنية، تعكس آمال الجميع وتطلعاتهم. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى ضرورة الوصول إلى حلول عاجلة للقضية الكردية في كل من تركيا وإيران وسورية، وكذلك أهمية طمأنة المسيحيين في الشرق، واحترام الخصوصيات المذهبية في دول المنطقة بأسرها. ويُشار هنا، بصورة خاصة، إلى الوضعية غير الطبيعية التي يعاني منها السنّة من مختلف الانتماءات القومية في إيران. فالتعامل غير السوي مع التباينات المذهبية هو أساس التشدد والإرهاب الديني الطابع. كما أن التمييز القومي أو الديني هو أساس نزعات التعصب والانعزال، ومن ثم الانقسام، وهي المقدمات الفعلية للشروخ الكبرى.
المنطقة بأسرها تعيش تحوّلاً بنيوياً مصيرياً. والحكمة تُلزم الجميع بتفهّم بواعث هذه التحوّل وآفاقه، وهو الأمر الذي لن يكون ناجعاً من دون احترام إرادة الشعوب وكرامتها.
* كاتب وسياسي سوري
الحياة