تذكُّر هاني الراهب: عروبة تنويرية/ د. مازن أكثم سليمان
يعود لقائي الأوَّل مع الرّوائي السّوريّ الكبير هاني الرّاهب (مواليد مشقيتا 1939 _ 2000) إلى أواخر عام 1995 في منزل الشّاعر والنّاقد السّوريّ وفيق خنسة في اللاذقيّة، بحضور أدونيس والقاصّ حسن صقر وكوكبة من مُثقفي السّاحل وأساتذة جامعة تشرين، وكنتُ حينَها قد التحقتُ بسنتي الدِّراسيّة الأولى في قسم اللُّغة العربيّة.
أذكر تلك السَّهرة بتفاصيلها المُختلفة، وكان من أهمّ محاور النّقاش فيها مسألة فصل أدونيس من اتّحاد الكُتّاب العرب، ودفاع أدونيس عن موقفه بخصوص حضورهِ “لقاء غرناطة” الذي اتُّخِذَ ذريعةً لفصله بسبب وجود بعض المُثقفين الإسرائيليِّين فيه، بدعوى أنَّهُ ردَّ عليهم وأحرَجهُم عندما اتَّهَمَ إسرائيل بأنَّها دولة عنصريّة مُؤسَّساتيّاً، وترفضُ الانخراط في مُحيطها وتحقيق المُساواة والمُواطَنة مع العرب المُسلمين والمسيحيِّين فيها، وهو الأمر الذي دفعهُم لمُغادرة القاعة احتجاجاً على كلامه كما قال.
في تلكَ الأمسية سحرَني حُضور هاني الرّاهب البسيط والمُتواضِع، ولا أنسى جلوسه على بلاط الصّالون وبيده كأس الويسكي، ثُمَّ دفاعه العنيف عن شخصيّة عمر بن الخطّاب والعُهدة العُمريّة من منطلق عروبيّ عندما هاجمَ أحد الأساتذة الحاضرين عُمراً.
كما لا أنسى كيف ترَكَ الموجودين جميعاً، وجلَسَ معي ومع صديقيْن لي (أحدُهُما ابن وفيق خنسة) في الصّالون الجانبيّ، وبدأ يقول لنا – ونحن الشُّبّان الصِّغار المأخوذين بالأسماء الكبيرة الموجودة -: “لا تُخدَعوا بنا، فنحنُ لم نقدِّم لكُم ولجيلكُم شيئاً”، مُتبادِلاً معنا أطرافَ الحديث بشغفٍ، ومُدوِّراً كأسَ الويسكي الذي بيدِهِ يسقينا منها بمحبّة ودفء وعذوبة.
وفي اليوم الثّاني التقيتُهُ في عرسِ قريبةٍ لزوجتِهِ، وترسَّختْ صورتُهُ المُتواضِعة الشَّفّافة أكثر في نفسي، وأنا أراقبُهُ كيفَ كانَ ينخرِطُ بالنّاس و(يتباسَطُ) معهُم، ويدبك ويُغنّي ويفرح كالطِّفل، لتتعدَّدَ بعدَ ذلكَ لقاءاتنا الجميلة.
من المَعالِم الرَّئيسة في شخصيّة هاني الرّاهب الإنسانيّة والإبداعيّة الالتزام العُروبيّ بمَعناه التَّنويريّ العريض لا الإيديولوجيّ؛ وهذا كان واضحاً منذ روايته الأُولى (المهزومون) التي فازتْ بجائزة دار الآداب عام 1960، وكانَ حينَها طالباً جامعيّاً في قسم اللُّغة الانكليزيّة في جامعة دمشق، مُروراً بشهادة الدُّكتوراه في بريطانيا التي كان عنوانها: (الشَّخصيّة الصُّهيونيّة في الأدب الغربيّ)، وانتهاءً بروايته (الزِّلزال): (رسمْتُ خطّاً في الرِّمال) الصّادرة عام 1999.
لم تكُن العروبة عند هاني الرّاهب ضجيجاً شعاراتيّاً فارغاً، بقدر ما كانت موقفاً نقديّاً حادّاً يُؤكِّدُ اعتزازَهُ بها وبالتُّراث والحضارة العربيّة، ومن المُفيد فَهْم موقفه المُتراكِب هذا _وهوَ البعثيّ تنظيميّاً منذ مرحلة الشباب الأوَّل مثل كثيرين من فقراء الرّيف السوري_ بوصفِهِ موقفاً نقديّاً تنويريّاً جاءَ من داخل التَّيّار القوميّ العربيّ نفسِهِ، مُتجاوِزاً عبرهُ الحزبيّة الضَّيِّقة بحثاً عن تحقيق ائتلاف عميق بين الهوى العروبيّ والموقف النَّقديّ التَّقدُّميّ غير المُهادِن، ومُنفتِحاً على قضايا الحُرِّيّة والدّيمقراطيّة والمُجتمع المدنيّ ووظيفة الثَّقافة والمُثقَّف والوعي النَّقديّ وتحرير المرأة العربيّة المُستعبَدة اجتماعيّاً وإيديولوجيّاً إلى حدّ كبير.
عكسَتْ مواقف الرّاهب وأعمالهُ بعُمق تقدُّميّة موقفه العروبيّ النَّقديّ، وتراكُبيَّتِهِ المُؤسَّسة من داخل البِنية الاجتماعيّة والسِّياسيّة السّائِدة، وربَّما كان واحداً من مُثقَّفي الأقلِّيّات القلائِل (وأعتذر عن هذِهِ الإشارة التي أراها حتميّة وحاسِمة وضروريّة في فهم هذا المُبدع) الذينَ ربطوا بين نقد العروبة الإيديولوجيّة وعلاقتِها الجدَليّة مع الإسلام الأكثريّ السّائِد، ونقد البِنى المُتحكِّمة في الاجتماع الأقلَّويّ، فكانَ تفكيكُهُ العروبيّ، ولا سيما للحالة السّوريّة مُتكامِلاً، ولا سيما في روايته الأشهر والأهمّ (الوباء)، والمُصنَّفة بين أفضل الرّوايات العربيّة في القرن العشرين، والتي صدرت عام 1981.
تُغطّي رواية الوباء مائة عام من التَّحوُّلات في ريف اللّاذقيّة، وترصدُ ثيماتٍ جمعيّة راسِخة كالخوف والتَّخلُّف واستبداد التَّقاليد والدّين، وتُتابع بعُمق التَّحوُّلات الاجتماعيّة في ذلكَ الرّيف بعد ما دعي بـِ (ثورة 1963)، وصُعود حزب البعث إلى السُّلطة، ثُمَّ سيطرة العسكر عليها، مُقدِّماً نظرة شموليّة للاستلابات المُختلفة التي رسَّخها الاستبداد العسكريّ والفئويّ منذ تلك المرحلة في مساحة من المجتمع السّوريّ، وهو البُعد الذي ظهَرَ عندَهُ قبل رواية الوباء؛ أي في روايته (ألف ليلة وليلتان) التي انتقَدَ فيها البرجوازيّة الصَّغيرة التي استولتْ على السُّلطة في سورية، ورُبَّما كانت أيضاً رواية (المهزومون) خير دليل على وعيِهِ المُبكِّر (حتّى لا أقول على نبوءاتِهِ المُبكِّرة) بمأزق النُّخب الثَّقافيّة والسِّياسيّة سوريّاً وعربيّاً.
وهكذا، نهَضَ الموقف النَّقديّ الدّاعي إلى عُروبة تقدُّميّة عند الرّاهب على جُملة أُسُس دفعتْهُ إلى توحيد الموقف المُناهِض للاستبداد بما هوَ عندَهُ موقف تراكبيّ أصيل، وهذا الأمرُ يتكاملُ لديهِ في نقد الاستبداد الدّينيّ ومُقارعتِهِ أيضاً، ولذلكَ كانت روايته الأخيرة (رسمتُ خطّاً في الرِّمال) تتويجاً لهذا المَسار النَّقديّ بتفكيك (الإسلام النَّفطيّ) بعُنف، وتعرية الفكر الدّينيّ العربيّ الماضويّ، وهو الذي عُرِفَ بتكرار قولِهِ اللّافت: “إنَّ قريشاً قد انقلبَتْ على إسلام محمَّد”، حيثُ إنَّها مقولة تستحقّ الكثير من البَحث والتَّمعُّن والحوار الهادئ الذي ليسَ مكانُهُ في هذا السِّياق، على أنَّ هذا التَّوجُّه الأصيل يتوازى عندَهُ باحتفائِهِ بالجانب المُضيء من الحضارة العربيّة الإسلاميّة وأعلامِها، وفي مُقدِّمتِهِم عمر بن الخطّاب الذي كانَ ينظرُ إليه بوصفِهِ ثوريّاً وديمقراطيّاً في مَواقفِهِ وتعامُلِهِ مع النَّصّ الدّينيّ، ذلكَ أنَّهُ في اعتقاد الرّاهب كانَ يأخذ روحَ النَّصّ، ويتجاهل حَرْفيَّتَهُ إذا اقتضَتِ ذلكَ المَصلحة الوقائعيّة المَعيشة، ويُطبِّقُ بحِنكة حديثَ النَّبيّ محمّد: “أنتم أعلَم بأمور دُنياكُم”.
لم تبتعد شخصيّة هاني الرّاهب الإنسانيّة عن شخصيّتِهِ الإبداعيّة، بل كادتا تتطابقان إلى حدٍّ بعيد، فعلى المُستوى الفنِّيّ التَّخييليّ يُمكِنُ الحديث عن واحد من أهمّ المُجدِّدين الروائيّين العرب عميقي الصِّلة بمُرتكزات الحداثة وما بعدَها، ولا سيما على مُستوى تشظّي عَوالِم رواياته القائِمة على أبعاد ترميزيّة ومُناخات أسطوريّة تُكثِّف الواقع بحيث تنقلب المُعادَلة لا لكي تكون الرواية واقعاً، بل لكي يكون الواقعُ أسطورةً مُتفكِّكة يتكرَّرُ فيها الخراب، ويتحلَّلُ الزّمنُ الخطِّيّ ووَحدة الذّات الفرديّة والجمعيّة، وذلكَ في ضوء شُعور الرّاهب الحادّ بالاغتراب، وطبيعتِهِ المُتمرِّدة ذات الصَّبغة البوهيميّة، والتي نقلَتْ إيمانَها بتجريبيّة الحياة وعدميَّتِها إلى تجريبيّة الرّواية، لكنْ بالمَعنى النَّقديّ المُتشابِك والمُقاوِم والباحِث عن الحُرِّيّة والثَّورة والخلاص الإنسانيّ.
وقد انتابتني كثيراً في الآونة الأخيرة _بفعل قراءتي للرّاهب ولغيرِهِ من المُبدعين السّوريّين والعرب_ فكرةُ نقد الوصف الحاسِم الذي لطالَما وصفنا به جيل النِّصف الثّاني من القرن الماضي بأنَّهُ (جيل الهزائِم)، وإن كان هذا لا يُلغي عنفَ سطوة السِّياق التّاريخيّ على المرء بوجهٍ عام، وعلى المُبدع بوجهٍ خاصّ، لكنَّ نسبة كبيرة من مُبدعي هذا الجيل كانوا مُحاربين تنويريّين أشدّاء في ظروفٍ قاهرة واستثنائيّة.
هاني الرّاهب الذي عانى من الفقر الشّديد مُبكِّراً، وخسِرَ شقيقَهُ المُعيل الوحيد للعائِلة في إحدى أهمّ صدمات حياتِهِ الأُولى، والذي كان زاهِداً بجائزة نوبل، وشكَّكَ بأثمانِها السِّياسيّة المَطلوبة على حساب المَوقِف العروبيّ والإنسانيّ الأصيل، يرقدُ الآن فوقَ تلكَ التَّلّة ذات الإطلالة الطَّبيعيّة الأخّاذة في بلدتِهِ مشقيتا، ورُبَّما يبتهِلُ من دون توقُّف كي تنجوَ بلادُهُ العربيّة ممّا هيَ فيه الآن، وأنْ يأتيَ الحصادُ الدّيمقراطيّ التَّعدُّديّ ودولُ المُواطَنة قريباً؟.
ضفة ثالثة