تركيا والأزمة السورية
خورشيد دلي
أين تقف تركيا من ما يجري في سوريا؟ سؤال يطرح نفسه بقوة من قبل النظام والمعارضة معا, بل والداخل التركي نفسه, ولعل مرد ذلك هو السلوك التركي من الأزمة السورية, وهو سلوك يزاوج أو يظهر خطابين معا, الأول: هو الحرص الشديد على الإصلاح من خلال النظام والحفاظ على استقرار سوريا. والثاني: يأخذ منحى التصعيد بعد النصح, فضلا عن احتضان المعارضة السورية وتحديدا حركة الإخوان المسلمين.
خطاب يظهر أن ثمة ثابتا وأخر متحولا في الموقف التركي من الأزمة السورية, ويبدو أن الثابت والمتحول هنا مرتبطان بطريقة تعاطي النظام السوري مع الأزمة وسرعة إنجاز الإصلاحات المنشودة ونوعيتها.
انقلاب الصورة
في أصل الصورة أن العلاقات السورية التركية وصلت قبل بدء الاحتجاجات في سوريا إلى مستوى القمة, إذ وقع الجانبان خلال الفترة الماضية على عشرات الاتفاقيات وتم فتح الحدود وإلغاء تأشيرات المرور, وباتت البضائع التركية تزاحم السورية في أسواق حلب ودمشق والقامشلي, ومارس الجانبان سياسة مشتركة هدفت إلى منع إقامة كيان كردي في المنطقة, وارتبط الرئيس بشار الأسد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بعلاقة خاصة قوية ترجمت بعشرات الزيارات العائلية بينها.
إلا أنه منذ بدء الاحتجاجات بدأت هذه الصورة تنزاح من مشهد العلاقة تدريجيا ليحل محلها الشك والحذر. فبالنسبة للسوريين ثمة حالة من الحيرة والارتياب إلى درجة القلق من السلوك التركي خاصة بعد ظهور المراقب العام لحركة الإخوان المسلمين في سوريا محمد رياض الشقفة في إسطنبول ويدعو من هناك المحتجين في سوريا إلى التظاهر ضد النظام.
إذ يقول مسؤول سوري (لم يكن متوقعا أن يتحول الصديق التركي المدلل إلى هذه الدرجة من الوقاحة, هذا الصديق الذي كان حتى وقت قريب أحد مناصري قضايانا الوطنية والقومية، موقع كلنا شركاء).
في المقابل فإن تركيا حزب العدالة والتنمية والتي لها تجربة إصلاحية مميزة ترى أن أداء النظام السوري في التعامل مع الاحتجاجات لا يمكن أن يكون هكذا, كما لا يمكن إدارة الأمور بهذا الشكل, كما أن مجمل الخطاب التركي يبدي عدم الرضا عن وتيرة الإصلاحات التي شرعت بها القيادة السورية, إلى جانب هذا النصح (الأبوي والأخوي والمدرسي) المتواصل ثمة تهديدات مبطنة أطلقها أردوغان مرارا, ولسان حاله هنا يقول: لن نسمح بتكرار (حماة ثانية) في إشارة إلى أحداث حماة عام 1982 بين النظام السوري والإخوان المسلمين.
وكلما توغل النظام في الحل الأمني رفع أردوغان من درجة التهديد إلى حد أنه لوح علنا بالمشاركة في أية إجراءات قد يتخذها المجتمع الدولي لاحقا إذا تطورت الأمور.
بموازاة انقلاب الصورة, ثمة أزمة صامتة بين دمشق وأنقرة, فسوريا تبدي انزعاجا شديدا من الإلحاح التركي والمطالبة الدائمة بضرورة فعل كذا وكذا على شكل توصيات ملحة تقترب إلى حد تلقين التعليمات والأوامر, فيما أساس المشكلة بالنسبة للجانب السوري يعود إلى رفض النظام التفاوض مع حركة الإخوان المسلمين كما تطلب أنقرة, وترى دمشق أن ذلك خط أحمر كما هو حال حزب العمال الكردستاني بالنسبة لتركيا, معادلة تزيد من الشكوك المتبادلة وربما العودة إلى مرحلة ما قبل التحسن الكبير في العلاقات بين البلدين.
الدور التركي ومحدداته
ترى تركيا أن تجربتها الإصلاحية تجربة رائدة تصلح لتحقيق التغييرات الديمقراطية في عموم المنطقة ولا سيما في سوريا حيث دور وتأثير العوامل والعلاقات التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين البلدين, وعليه تبدي تركيا اهتماما خاصا بالأزمة السورية خلافا للوضع في تونس ومصر وليبيا واليمن, وهي تنطلق في ذلك من مسألتين أساسيتين:
الأولى: أن التغيير ينبغي ألا يؤدي إلى انهيار الاستقرار في سوريا, فقضية استقرار سوريا قضية حساسة بالنسبة لتركيا وأمنها القومي, حيث إن أكثر من ثمانمائة كليومتر من الحدود المشتركة، ووجود قرابة مليوني كردي سوري في المناطق الحدودية المجاورة لتركيا يشكلان أمرا قلقا لتركيا خاصة في ظل علاقة هؤلاء مع أبناء جلدتهم من أكراد تركيا والعراق والخوف التركي الدفين من قيام دولة كردية في المنطقة.
الثانية: أن تركيا أردوغان التي ترفع راية الإصلاح والديمقراطية وأيدت بقوة ثورات تونس ومصر ولاحقا ليبيا لا تستطيع أن تتخذ موقفا مغايرا في الحالة السورية, خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التركية المقررة في الثاني عشر من شهر يونيو/حزيران المقبل حيث الرأي العام التركي الداعم للتغيير في العالم العربي. وانطلاقا من ما سبق, مارست تركيا دبلوماسية مكثفة تجاه دمشق تجلت في:
1- مبادرة أردوغان إلى إجراء سلسلة اتصالات مع القيادة السورية بشأن الإصلاح والتغيير وكيفية التصرف مع الاحتجاجات الجارية والتحذير المتواصل من تكرار ما جرى في حماة وحمص.
2- إرسال مبعوثين سياسيين وأمنيين وإداريين إلى دمشق, بينهم وزير الخارجية أحمد داود أوغلو ورئيس الاستخبارات العامة حقان فيدان, وتقديم هؤلاء لما يشبه خريطة طريق للإصلاح في سوريا.
3- سلسلة تصريحات سياسية وإعلامية تأخذ طابع التحذير من التوغل في الحل الأمني والتهديد بعواقب وإجراءات وسط حملة مكثفة بهذا الخصوص في الصحافة التركية والتي كثيرا ما تقارن بين ما يجري في ليبيا وما يجري في سوريا.
4- استضافة اجتماع لبعض قوى المعارضة السورية وظهور أحمد الشقفة المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين السوريين في أكثر من إطلالة في إسطنبول يدعو إلى التظاهر في إشارة إلى أن تركيا معنية بالتغيير ومحتضنة للقوى الداعية له.
مسار العلاقة
من الواضح, أن أولويات الجانبين باتت مختلفة, فبعد أن وصلت الأمور في سوريا إلى نقطة حرجة تقف فيها البلاد عند مفترق الطرق باتت أولوية النظام هي الأمن وبأي ثمن كان, فيما يرى الجانب التركي أن الأولوية باتت للتغيير السياسي والانتقال إلى مرحلة جديدة, وأن تحقيق الأمن والاستقرار لم يعد ممكنا بالأدوات الأمنية.
وأصل المشكلة هنا, هو أن ثمة اختلافا بين رؤية الجانبين لما يحدث, فالنظام السوري يضع الأمر في خانة المؤامرة فيما تركيا ترى أن لا مؤامرة.
النظام السوري يرى أن ثمة فتنة طائفية ومذهبية تستهدفه فيما تنفي تركيا هذا الأمر وتضع القضية برمتها في خانة الإصلاح والتغيير الديمقراطي.
النظام يقول إنه شرع في إصلاحات مدروسة وشكل لجانا لهذه الغاية فيما ترى تركيا أن الإصلاحات التي أعلنت عنها حتى الآن غير ملبية للتطلعات والانتقال إلى الديمقراطية, وتقول المصادر التركية إن المبعوثين الأتراك حملوا معهم جملة من المطالب تتخلص فيما يلي :
1- الامتناع عن الاستخدام المفرط للقوة تجاه التحركات الشعبية.
2- الاستمرار بخطوات الإصلاح بوتيرة أكبر وإتمامها في أسرع وقت.
3- إعادة تأسيس الحياة السياسية والسلم الاجتماعي.
النظام السوري الذي يعتز بمواقفه الوطنية والقومية وقدراته الدبلوماسية في إدارة الملفات الإقليمية يرى صعوبة كبيرة في هضم (الدروس التركية) التي تحدد مجالات الإصلاح وما الذي ينبغي فعله والأهم ما تريده أنقرة وما يمكن ان تفعله في المرحلة المقبلة إذا تطورت الأمور بعد سنوات من الوئام.
في الواقع, يمكن القول إن النظام السوري لم يكن يتوقع أن الصديق والحليف التركي سيكون بهذا الموقف وأن الرياح ستهب عليه من الباب التركي بعد أن وصلت العلاقات بين الجانبين إلى مستوى القمة ولا سيما فيما يتعلق بملف حزب العمال الكردستاني والتعاون المشترك ضده.
في المقابل, فإن تركيا في تعاملها مع الأزمة السورية تتبع إستراتيجية مزدوجة, فهي من جهة تقوم باحتواء المعارضة السورية (جماعة الإخوان المسلمين) التي تشكل خطا أحمر للنظام دون أن تعلن أنقرة صراحة تبنيها للجماعة سياسيا, ومن جهة ثانية لا تتوانى عن الإلحاح في المطالبة بالإصلاح والتغيير.
وفي الاختيار بين المسألتين من الواضح أن أنقرة تفضل حتى الآن الإصلاح نظرا لما في ذلك من مصلحة تركية مباشرة, من الأمن والاستقرار مرورا بالمصالح الاقتصادية وصولا إلى بناء نموذج سياسي في المنطقة العربية.
ولكن مشكلة تركيا هنا, هي أنها تصطدم بالتعامل السوري مع الأزمة, سواء لبطء وتيرة الإصلاحات ونوعيتها أو للتوغل في الأسلوب الأمني, وهو ما يرشح العلاقة بين الجانبين إلى المزيد من التوتر في المرحلة المقبلة قياسا للتحول التدريجي في الموقف التركي منذ الأزمة السورية التي تتفاقم بدورها يوما بعد أخر.
الجزيرة نت