تركيـا وإسرائيـل و«الربيـع العربـي» بينهمـا
مصطفى اللباد
إن التنسيق بين أنقره وتل أبيب سيضع دمشق تحت كماشة جغرافية، تقلل كثيراً من تأثير شظايا الانفجارات السورية الداخلية على حدود إسرائيل، لأن تل أبيب تتخوف من انفتاح الحدود السورية – الإسرائيلية أمام المسلحين من خلفيات إسلامية راديكالية في حال انهيار سوريا.
تغيّرت خريطة التوازنات الإقليمية في الـشرق الأوسط بعد الاتصال الهاتفي الذي جرى قبل أيام بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، وفيه قدم الأول اعتذاره من الثاني على قتل تسعة مواطنين أتراك في حادثة «أسطول الحرية» 2010 وقبوله دفع التعويضات لذويهم. وكانت العلاقات بين أنقرة وتل أبيب قد تدهورت بعد هذه الحادثة إلى درجة أضرت بالمصالح الأميركية في المنطقة، والتي تعتمد على الطرفين تاريخياً في هندسة توازنات تضمن مصالحها. لذلك فقد عمد الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى ترطيب العلاقات التركية – الإسرائيلية وحرص على أن يجري نتنياهو المكالمة الهاتفية في حضوره، لينفتح الباب أمام تحسن في العلاقات مرة أخرى. بالأحرى ظهٌرت مكالمة نتنياهو وأردوغان التـغيرات الإقليـمية في المنـطقة بعد «الربيع العربي»، ورغبة الطرفين في التعاون معاً على خلفيتها. تحاول السطور الآتية تعيين الإطار الحاكم للعلاقات التركية – الإسرائيلية الذي يصعد أو يهبط بها، بعـيداً عن التحـليلات الأيديولوجـية الـقائمة على ثنائيات الخير والشر ولغة الملائكة والشـياطين في تحليل العلاقات الدولية. كما تحاول المـقالة تسـليط الضوء على حسابات كل من أنقرة وتل أبيب بهذا الخصوص، وصولاً إلى الاستنتاجات في الخلاصة.
السياق الإقليمي كمحدد للعلاقات
بين أنقره وتل أبيب
تحكمت توازنات القوى في الإقليم تاريخياً بالعلاقات التركية – الإسرائيلية، بحيث دُشّنت العلاقات عام 1949 تعبيراً عن انخراط الطرفين في اصـطفاف إقليمي – دولي في مواجهة اصطفاف دولي أوسع. اعترفت تركيا كأول دولة إسلامية بإسرائيل باعـتبار ذلك من موجبات التحالف التركي – الأميركي، الذي استهدف أساساً مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق والذي شكلت جغرافيته تهديداً تاريخياً للأناضول على مدار عقود مضت. وفي الوقت نفسه كانت العلاقات مع تركيا ضماناً هاماً من ضمانات عدم العزلة الإقليمية لإسرائيل، ولذلك فقد نمت العلاقات بين طرفي العلاقة مع تطابق تصوراتهما لما يمكن تسميته «التهديد المشترك» من طرف الدول العربية الراديـكالية وقـتذاك: مصر والعراق وسوريا. شكل هذا «التهديد المشترك» لعقود لاحقة، مكوناً مشتركاً من مكـونات الأمن القومي لأنـقرة وتل أبيـب معـاً. وقـتذاك ظـهرت ثلاثة أعمـدة للعـلاقات بين أنقرة وتل أبيب: الأول «الخطر المشـترك» القادم من الدول العربية المجاورة، الثاني توافق رؤيـة الطرفين لمستقبل المنطقة، وثالثاً السقف الدولي المشترك.
تغيرت الديناميات التي ربطت تركيا بإسرائيل مع سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ ان تراجع القوى العربية وفقدان الغطاء الدولي لهما فتح الأبواب أمام تنسيق أكبر بين أنقرة وتل أبيب لاحتواء الأخطار، خصوصاً أن التراجع في القدرات العربية عنى أن حسابات التكلفة لكلا الطرفين كانت محدودة نسبياً. وتعزز ذلك الافتراض بملاحظة آثار حرب الخليج الأولى 1990-1991، وما نتج منها من تزعزع واضح للنظام العربي في الإقليم. ثم عادت العلاقات التركية – الإسرائيلية للتأثر مع زلزال احتلال العراق عام 2003، حيث خرجت تركيا خاسرة منه لمصلحة إيران، في حين حيدت تل أبيب الرقم العراقي في ميزان القوة العربية الشـاملة، بعد أن جعل ذلك الاحتلال الجبهة السورية محرومة من عمقها البشري والجغرافي والعسكري. ومع تبدل الموازين أكثر في المنطقة وصعود النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة بعد حـرب لبـنان عام 2006 وانفـتاح سـوريا على تركيا، وتحسن العلاقات التركية – الإيرانية، لم تعد تركيا محاطة بدول معادية مثلـما كانت في السابق، فانفتحت شهيتها للعب أدوار إقليمية أكبر. ساعتها انهار عمودان من أعمدة العلاقات التركية – الإسرائيلية، أي «الخطر المشترك» وتوافق رؤية البلدين لمستقبل الشرق الأوسط، فانفتح المجال موضوعياً أمام تصادم في الرؤى وبالتالي تدهور في العلاقات.
تموضعت تركيا بين معسكري «الاعتدال» و«الممانعة» في العقد الأخير، فاتسع هامش حركتها بالإقليم إلى الحد الذي جعلها الطرف الوحيد القادر على التحدث إلى كل الأطراف في وقت واحد. من ناحيتها لم تعد الدول العربية المجاورة لتركيا تملك حتى مجرد الطموح للعب أدوار إقليمية، وبالتالي فقد تغيّر نسق العلاقات التركية – الإسرائيلية تغيّراً راديكالياً. دفعت هذه العوامل مجتمعة إلى تعاظم للطموح التركي في تولي مكانة المرجعية الإقليمية، فكانت حروب الرأي العام التركية لجذب ود الجماهير العربية سواء في «موقعة دافوس» أو حادثة «أسطول الحرية»، التي ذهبت لثلاث سنوات بمستوى العلاقات بين البلدين. ولكنّ تغيراً جذرياً طرأ على موازين القوى في المنطقة بعد «الربيع العربي»، الذي أطاح أنظمة مصر وتونس ويهدد بإطاحة النظام السوري أيضاً. ولأن سوريا كانت قاسماً مشتركاً في صعود وهبوط العلاقات التركية – الإسرائيلية منذ قيام هذه العلاقات عام 1949 كما رأينا في التحليل السابق، فإن اشتداد الأزمة السورية يدفع الطرفين مجدداً للتفاهم حول مستقبل التوازنات في سوريا والمنطقة. وتتعزز هذه الفرضية بملاحظة التداعيات الإقليمية العميقة لـ«الربيع العربي»، التي تدفع كلاً من أنقرة وتل أبيب إلى التعاون في الفترة المقبلة.
حسابات تل أبيب
تعد العلاقات مع تركيا أكثر من هامة لإسرائيل للخروج من عزلتها الجغرافية، لذلك فقد كانت تركيا ركناً أساسياً من نظـرية «دول المحـيط» التي أسـس لها بن غوريـون ورسـم سياسة إسرائـيل الإقلــيمية في الخمسينيات من القرن الماضي على أساسها، بحيث توجهت تل أبيب إلى تمتين التعاون مع الدول الإقليمية الثلاث المجاورة للدول العربيـة: تركـيا وإيـران وإثيوبيا. وكان الغـرض الأساس وقـتها تشـتيت انتباه الدول العربية وتطويقها بدول جوارها الجغرافي، ورفع مستوى التوتر على المناطق الحدودية بين العرب والدول الثلاث، وبالتالي موازنة الحصار الجغرافي الذي فرضه العرب على الدولة العبرية وقتذاك. ومع اندلاع «الربيع العربي» والمصاعب الاقتصادية والداخلية التي تضرب دوله، ينفتح الباب على فرص وأخطار في آن معا لإسرائيل. فهناك فرص إبرام تسوية شاملة للقضية الفلسطينية تتـضمن الرؤى الإسرائيلية لحلها وبتغطية سياسية من تيارات منظمة ووازنة في الشارع العربي، وليس من حكام فاقدي الشعبية مثل مبارك. وهناك مخاطر تردي الوضع الاقتصادي والأمني إلى حد الانفجار، وما يجلبه من مخاطر على إسرائيل ذاتها. ولما كانت تركيا أهم رافعة إسناد إقليمي لجماعة «الإخوان المسلمين»، يصبح التقارب الإسرائيلي مع تركيا استثماراً في المستقبل من المنظور الإسرائيلي لتعظيم الفرص ومجابهة الأخطار. كما أن التنسيق بين أنـقرة وتـل أبيب سيضع دمشق تحت كماشة جغرافية، تقـلل كثيراً من تأثير شظايا الانفجارات السورية الداخلية على حدود إسرائيل، لأن تل أبيب تتخوف من انفتاح الحدود السورية – الإسرائيلية أمام المسلحين من خلفيات إسلامية راديكالية في حال انهيار الدولة السورية، وما سيجره ذلك عليها من مشاكل أمنية. كما أن علاقات متميزة تركية – إسرائيلية ستؤثر في حسابات أنقرة للجدوى السياسية من علاقاتها الاقتصادية المتميزة مع إيران، خصم إسرائيل الإقليمي اللدود.
حسابات أنقرة
أظهر الموضوع السوري حدود القدرات التركية في الإقلــيم، إذ ان التـحول السريـع للمواقف الـتركية مــن النظام السوري منذ ما يقارب السنتين واندفاع أنقرة لتصبح في مقـدم خـصومه، لم يترافـق مع تـحول مماثل في موازين القوى على الأرض السورية، ما أفقد تركيا قدرتها على التأثير في النظام السوري. صحيح أن لتركيا نفوذاً وقدرة عـسكرية وقوة اقتـصادية في المنطقة، ولكنها لا تزال مفتقرة إلى التحالفات السياسية في المنطقة، على غرار إيران، وبشكل يمنعها من ترجمة نفوذها المـعنوي إلى قوة على الأرض. ومع استمرار النظام السوري في البقاء، فقد شكل ذلك حرجاً بالغاً لأنقرة، التي اختبرت عملياً حدود قدرة «القوة الناعمة التركية» على التأثير المباشر في الأحداث. بمعنى آخر، يعدّ التنسيق والترتيب الإقليمي مع إسرائيل، بالتوازي مع التحالف القطري – الإخواني مع أنقرة، ركني الهندسة الإقليمية التركية القادمة في المنطقة في مواجهة إيران وتحالفاتها الإقليمية، وهو دور أميركي مطلوب ورغبة إسرائيلية معلنة. ويعني تحسن العلاقات مع إسرائيل قدرة تركية أكبر على إبرام مصالحة مع مواطنيها الأكراد، وفصماً لعرى التحالف الإسرائيلي – اليوناني في بحر إيجه وشرق المتوسط (عبر قبرص)، وإطلالة أفضل لتركيا عند التفاوض حول حصص الغاز بين شطري جزيرة قبرص.
الخلاصة
يرتبط صعود وهبوط العلاقات التركية – الإسرائيلية أساساً بالتفاعلات داخل الإطارين الدولي والإقليمي، مع أرجحية واضحة للبعد الأخير. تاريخياً تصـعد العلاقات التركية – الإسرائيلية في الأوقات التي تتقاطع فيها المصالح الوطنية لكل من تركيا وإسرائيل، وتتشابك عندها حسابات التكاليف والأرباح، وتقترب خلالها مخاوف الأمن القومي لكليهما عبر خصوم مشتركين. وبالمثل تنحدر العلاقات التركية – الإسرائيلية عندما تفترق حسابات المصالح الوطنية وتتباين حسابات الأمن القومي في كل من أنقرة وتل أبيب، ويختفي «الخصوم المشتركون». باختصار، يتقارب تصور الطرفين التركي والإسرائيلي لصورة المنطقة، وإن لم يتطابق، لذلك يمكن تفسير خطوة نتنياهو بالاعتذار إلى أردوغان باعتبارها مصلحة إسرائيلية وليس إقراراً بالذنب أو استجابة لضغوط أوباما حتى. وبالمثل يمكن تفسير قبول أردوغان للاعتذار وسحب الشكاوى القضائية ضد قادة إسرائيليين على أنه مصلحة تركية أيضاً. ربما كان أوباما داعماً للتقارب ولكنه ليس باعثاً له، إذ تعلم إدارة أوباما أن قدرات بلادها في الشرق الأوسط إلى تراجع نسبي، وبالتالي تريد هندسة تحالفات المنطقة مجدداً وبما يضمن مصالحها.
يبدو أن «الربيع العربي» والأزمة السورية هما المادة اللاصقة التي تجمع بين أنقرة وتل أبيب الآن، فضلاً عن تقاطع رؤية البلدين للمنطقة في السنوات القليلة المقبلة. ومع ذلك يتوقع أن يعيد الطرفان حساباتهما من هذه العلاقات، كما يشير تحليل الإطار لهذه العلاقات، مع تظهير نتائج التوازن الإقليمي الجديد المنبثق عن «الربيع العربي» في الفترة المقبلة… لذلك سيصعد مؤشر العلاقات التركية – الإسرائيلية من الآن وحتى إشعار آخر.
السفير