تسليح المعارضة السورية
أحمد يوسف أحمد
باتت فكرة تسليح المعارضة السورية تتردد كثيراً في الآونة الأخيرة كرد فعل على استمرار وحشية النظام السوري في التعامل مع معارضيه وتصاعدها، وبلغت الفكرة ذروتها بتصريحات وزير الخارجية السعودي إبان انعقاد “مؤتمر أصدقاء سوريا” في 24 فبراير الماضي. وقد تحدث الأمير عن ضرورة نقل السلطة “طوعاً” أو “كرهاً”، و”أن التركيز على المساعدات الإنسانية وحدها لا يكفي، كأننا نسمن الفريسة من أجل أن يستكمل الوحش افتراسها”، وكيف أن فكرة تسليح المعارضة فكرة ممتازة، لأنه يتعين على المعارضة الدفاع عن نفسها. وقيل إنه كان مندهشاً من تواضع مطالب المجلس الوطني السوري التي عرضها د. برهان غليون في المؤتمر، وقيل كذلك إنه انسحب من المؤتمر احتجاجاً على تخاذله في دعم ثورة الشعب السوري.
ولم يعقب هذا الموقف تأييد رسمي حاسم من الدول المعنية مباشرة بالشأن السوري، وإن كانت هناك مواقف غير رسمية مؤيدة لهذا، ولعل أهم هذه المواقف هو موقف “الشيوخ الثلاثة” في الكونجرس الأميركي جون ماكين (المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية) وجو ليبرمان وليندسي جراهام، الذين أشاروا إلى أن مساعدة المعارضة يجب أن تتضمن “الحصول على الأسلحة والمعلومات ووسائل الاتصال والتمويل والمعدات الطبية، بالإضافة إلى استخدام طائرات بدون طيارين لمراقبة تحركات قوات النظام السوري وإبلاغ المعارضة بها”.
ولكن التأييد الواضح والصريح جاء من المتظاهرين السوريين أنفسهم، فقد ثمنوا فكرة الوزير السعودي، وقد ظهر هذا في لافتات حملها المتظاهرون ونقلتها الفضائيات التلفزيونية وقد كتب عليها: “سعود الفيصل لم تقل إلا الحق”، أو نقلتها الصحف العربية كما ظهر في صورة لإحدى مظاهرات أدلب تقول في عبارات صريحة “لا للمساعدات… لا للممرات الآمنة… لا للعقوبات. نعم لطائرات الناتو. نعم للتدخل العسكري”. ولاشك أن ثوار سوريا معذورون في موقفهم هذا لأنهم هم الذين يتحملون مغبة العنف المفرط من قبل النظام السوري ضدهم، وعقم الحلول العربية والدولية حتى الآن عن إيجاد مخرج لهم، ومن المعلوم أنهم بدأوا يبنون مواقفهم إزاء الكيانات التي يفترض أنها تمثلهم على أساس موقفها من فكرة التدخل العسكري أو تسليح المعارضة.
وتبدو الدعوة إلى تسليح المعارضة للوهلة الأولى دعوة منطقية، ولها نصيب واضح من “الشرعية السياسية” نتيجة لرضا المتظاهرين عنها، ولكن الأمر يبدو أكثر تعقيداً بكثير في الواقع العملي، وهو ما يدفع إلى محاولة تقييم الدعوة بمنتهى الموضوعية والتجرد قدر طاقة البشر على ذلك، وثمة ملاحظات أربع أساسية في هذا الصدد.
أما الملاحظة الأولى فتشير إلى أن تسليح المعارضة السورية قد يكون قادراً على إرهاب آلة قمع النظام السوري، ولكن ذلك لن يفضي إلى حماية الشعب السوري كما يتصور البعض، بل إن ازدياد الخسائر في صفوف قوات النظام سيدفعها إلى “وحشية” أكبر في مواجهة المعارضة، وسيهدد تسليح المعارضة بحرب أهلية حقيقية لا تبقي ولا تذر في سوريا، وهي مسألة ستؤدي دون شك إلى معاناة هائلة ومتصاعدة في أوساط الثوار السوريين تزيد بكثير من معاناتهم الحالية.
أما الملاحظة الثانية فيبرز معها خطر الانقسام الداخلي في سوريا، فقد تعددت تشكيلات القوى المعارضة على نحو يذكرنا بما حدث في مصر في أعقاب ثورة يناير 2011، وبالتالي فسيسلح كل من هذه القوى نفسه -وبعضها للأسف مبني على أساس عرقي- وبعد انتصار الثورة ستصعب كثيراً السيطرة على هذه الفصائل المسلحة، وقد تتحول إلى ميليشيات لها مطالبها المبالغ فيها كما تشير إلى ذلك الحالة الليبية، وقد يستخدم واحد من هذه الفصائل أو أكثر سلاحه وخبرته في الثورة في محاولة فرض انفصال جزء من الأراضي السورية على أساس عرقي، وخاصة أن الظروف العربية والإقليمية تبدو مواتية لذلك (حالة أكراد سوريا على خلفية الوضع الخاص لأكراد العراق، وانفصال جنوب السودان عن شماله، والتهديد بانفصال جنوب اليمن عن اليمن الموحد).
في الملاحظة الثالثة أشير بحذر شديد إلى أن النظام السوري ليس وحده هو المستهدف. هو اتبع أقصى درجات القمع وصوره في التعامل مع مواطنيه عبر أكثر من أربعة عقود، وقد نال جزاءه على هذا من الثورة الشعبية التي أخفق لعام كامل في قمعها دون أن يفهم منطقها حتى الآن. ولكن النظام السوري شيء والدولة السورية شيء آخر، وأعلم أن البعض وربما كثيرون يعترضون على هذا المنطق ابتداءً، ولكن سوريا تبقى رقماً مهماً في القوة العربية عامة وفي المواجهة مع إسرائيل خاصة. سيقولون إن الجيش السوري لم يطلق رصاصة واحدة على إٍسرائيل منذ 1973، وهذا صحيح، ولكن هذا الجيش بعد نجاح الثورة سيكون جيش الشعب الذي يصد عنه أي عدوان خارجي عامة ومن إسرائيل خاصة، ولعل هذا تحديداً هو ما يزعجها كثيراً، وهو التغير المحتمل في التوجه الاستراتيجي السوري تجاه إسرائيل، ولذلك فإن من شأن إصابة الجيش السوري بأضرار جسيمة ستكون متوقعة في حالة تسليح المعارضة أو حدوث تدخل خارجي أن ينعكس على مستقبل المنطقة برمتها عامة والصراع العربي- الإسرائيلي خاصة. ومما يلفت النظر أن مطالبة جون ماكين وجو ليبرمان وليندسي جراهام أعضاء مجلس الشيوخ في الكونجرس الأميركي بأمور عديدة لدعم المعارضة السورية، بما في ذلك تزويدها بالسلاح، قد أشارت في الوقت نفسه إلى استخدام الطائرات بدون طيارين التي تحدثوا عنها “لمراقبة المواقع التي تحتوي على أسلحة دمار شامل في سوريا”، وبعيداً عن قصة امتلاك سوريا هذه الأسلحة -وقد استخدمت من قبل كذباً في حالة غزو العراق- فإن هذه الإشارة تعني أن الدولة السورية قد تكون هي المستهدفة لدى هؤلاء الذين ينتمون إلى بلد لا يخجل من أن يصادق أعتى النظم الاستبدادية بل ويتحالف معها.
أما الملاحظة الرابعة والأخيرة فهي ذات طبيعة مقارنة، إذ قد يدهش المرء من هذه الحماسة “الثورية” التي تغلف موقف البعض مما يجري في سوريا على عكس الحالة اليمنية تماماً. لقد قتلت قوات أمن علي صالح وجيشه من شباب اليمن الثائرين من قتلت، وقصفت طائراته على مدى شهور مواقع القبائل غير الموالية له، ولكن حزبه بموجب التسوية السياسية التي تمت يشكل نصف الحكومة الانتقالية، ومجلس نوابه على ما هو عليه، وهو قد حصل على حصانة قضائية غير مسبوقة ضد احتمالات معاقبته على جرائمه، ويعود “ليسلم” الرئاسة للرئيس الجديد، وجيش اليمن وقوات أمنه ما زالت خاضعة لابنه وأشقائه وأقاربه، وهذه ملاحظة هدفها الوحيد الدعوة إلى التأمل المقارن في أحوال الثورات العربية والمواقف الخارجية منها.
هل يعني ما سبق أن يترك الشعب السوري فريسة للطاغية وأدوات قمعه؟ في الواقع أن أحداً لا يمكنه أن يسر لذلك، لكن الثورة بالأساس عمل شعبي، وعندما تعم الثورة قطاعات الشعب السوري كله وتتوحد معارضته وتشدد العقوبات الخارجية على نظامه بما يؤدي إلى خنقه لن تستطيع قوة كائنة ما كانت أن تقف في وجه الثورة السورية. أما تسليح المعارضة فليترك للتطورات الداخلية داخل سوريا وما تفرضه من تكتيكات واستراتيجيات للمعارضة، فلم ينشأ “الجيش السوري الحر” أصلاً بقرار من الخارج، وإنما جاء كتطور طبيعي لمجريات الثورة السورية.
الاتحاد