تشتت المعارضة السورية
سمير سعيفان
بعد عام ونصف مازالت المعــــارضة السورية تعــــاني من التشتت والتشرذم. في البداية كنا نقبل التفسيرات. ورغم استطالة الزمن بقينا نقبل التبريرات، ولكن وبعد عام ونصف أصبح من الصعب القبول بأية تفسيرات أو تبريرات. ليس المطلوب توحيد قوى المعارضة في تنظيم واحد، فهذا غير واقعي، ولكن المطلوب والممكن هو تشكيل ائتلاف يجمع قواها ويوحدها حول هدف رئيسي واحد هو الانتقال بسورية إلى نظام حكم ديمقراطي تعددي مدني بعد إزالة هذا النظام القائم منذ نصف قرن.
يلحق تشتت المعارضة الكثير من الأذى بالثورة السورية:
مقابل النظام الذي له مركز قرار واحد وبنية هرمية واحدة ويتحرك بسرعة كجسم واحد ووفق قرار واحد، فإن المعارضة مشتتة في عشرات التنظيمات السياسية والتنسيقيات واتحاداتها، وفي العشرات من كتائب الجيش الحر والجيش الوطني وغيرها مما يفقدها مزية القيادة الموحدة و التنسيق والتعاضد والعمل الموحد. وإذا كانت شجاعة الثوار وتصميمهم وإقدامهم يعوض جزئياً هذه العيوب، فإن هذا يكون بثمن إضافي باهظ من التضحيات البشرية والمادية.
يؤدي التشتت إلى فقدان الرؤية السياسية الواحدة لسورية المستقبل، والممارسة السياسية الواحدة التي تجيب على القضايا الرئيسية على نحو موحد، وتوجه الرسائل الموحدة مما يكسبها الاحترام. فلم تقدم المعارضة رؤية سياسية متكاملة واضحة حول قضايا مثل تكتيك الجمع بين السياسة والسلاح والعسكرة، ومسائل التدخل الخارجي والمسألة الكردية والتفاوض مع النظام والموقف من مختلف مكونات المجتمع السوري والشعب السوري وقضايا الديمقراطية والتعديية وقيم المواطنة وحقوق الإنسان وغيرها. وإذا كانت وثائق كثيرة تضمنت مواقف متقاربة فإن الكثير من الفصائل على الأرض لم تصدر بيانات ولم تتبنى وثائق، ولكنها تصدر تصريحات وتقوم بأفعال تتنافى مع قيم الثورة التي أعلنتها وثائق فصائلها في مؤتمر القاهرة مثلاً.
التشتت أدى لعدم وضع استراتيجية إعلامية موحدة، وبقي الإعلام الخاص بالثورة ضعيف وتحت رحمة فضائيات عديدة لكل منها سياساتها ومصالحها.
لم تستطع المعارضة المشتتة تطوير نظام شامل لإدارة المناطق التي لا تخضع لسلطة الدولة والتي يقطنها قرابة نصف الشعب السوري الآن، ولم تفرض سلطات تمنع استغلال البعض لغياب الدولة والقيام بأعمال سرقة ونهب واختطاف مما يسيء للثورة.
ينتج عن تشتت المعارضة تشتت الإغاثة وتشتت الإمداد وعدم توزيعها على نحو عادل من جهة، ومن جهة أخرى سمحت للجهات التي تقدم الإغاثة أن تدفع بعض الأطراف السورية لتنفذ أجندات تخدم رؤى الجهات المانحة، بينما وحدة المعارضة تجعلها أقدر على فرض مصالح الثورة على الجهات المانحة.
نجم عم تشتت المعارضة تشتت الجيش الحر وعدم وحدة فصائله، وترك كل فصيل يتصرف وفق تقديراته، وهي تقديرات تختلف في كفاءتها ودوافعها، مما يوقع خسائر أكبر ويلحق الأذى بالثورة. وهذا التشتت أتاح لبعض فصائل الثورة، وإن كانت قلة، توغل في تصرفات خاطئة سواء عسكريا أو ارتكاب ممارسات لا تليق بالثوار أو حتى الانجراف وراء المكاسب المادية.
فتح تشتت المعارضة الباب أمام بعض المجموعات المتطرفة لأن تسيطر على بعض البلدات وأن تفرض إرادتها وقواعدها الغريبة عن حياة تلك البلدات. وقد نصب بعضهم نفسه بمثابة الحاكم تحت مسميات أمير أو شيخ أو حجي واقاموا محاكم شرعية تتناقض مع كل مبادئ الثورة التي قامت لتحقق الدولة المدنية الديمقراطية التعددية التي ترفض اي استبداد عسكرياً كان أم دينياً،
فتح غياب وحدة المعارضة الباب لبعض القوى الخارجية لأن تجد لها أتباع أو تأثير في صفوف بعض فصائل الثوار من مدنيين وجيش حر. كما فتح الباب لنمو توجهات متعصبة ضارة بالمجتمع ولدخول مقاتلين أجانب من الجهاديين.
غياب معارضة سياسية قوية تقود بقية قطاعات الثورة، بما فيها الفصائل المسلحة، وقد جعل هذا الغياب القرار بيد من يحمل السلاح، والسلاح بدون السياسة قوة لا تبصر للبعيد.
هذا الوضع الناجم عن تشتت المعارضة لم يستطع إقناع المجتمع الدولي بقدرة الثورة على الإمساك بالأرض وتأمين الاستقرار ومنع أية ميول أو أعمال انتقامية ودفع المجتمع الدولي للتردد في دعم الثورة السورية خوفاً من الفوضى القادمة في حال سقوط النظام.
في النتيجة يتسبب تشتت المعارضة بإطالة أمد الصراع وأطالة عمر النظام وتكبد الشعب السوري خسائر أكبر بكثير.
إنه لأمر مدهش، إذ بالرغم من كل الأذى الذي يلحق بالثورة بسبب التشتت، فإن كل هذا لم ينفع في دفع أطراف المعارضة السياسية والجيش الحر وائتلافات التنسيقيات دفعها إلى التوحد في ائتلاف كبير قادر على نقل الثورة إلى حالة نوعية أعلى ووضع جديد يجعلها أقدر على مواجهة تعنت النظام ورفضه للحل السياسي الذي ينقل السلطة إلى أيدي الشعب.
يشكل استمرار تشتت المعــــارضة خطر يهدد الـــثورة السورية. ورغم هذا الخطر وهذه الآثار الضارة، مازالت قوى الثورة بكافة مجالاتها المدنية والعسكرية تعاني التشتت ولم تفلح الجهود الحثيثة بعد لتوحيدها في ائتلاف موحد يقود كافة قطاعاتها السياسية والعسكرية والمدنية.
المجلس الوطني (وهو يشكل جزءا صغيرا من المعارضة) يعتبر أنه يشكل النواة الصلبة للمعارضة وأنه جدير بتمثيل الشعب السوري وثورته، بينما توجه معظم فصائل المعارضة خارج المجلس، وحتى بعض تلك التي في المجلس، توجه اللوم للمجلس بأن أداءه بقي ضعيفاً، ولم يستطع تحقيق تمثيل وقيادة فعلية للثورة، ورغم ذلك فقد عطل ويعطل أي جهد لتوسيع تمثيل المجلس والامتناع عن ضم مختلف فصائل المعارضة ضمن خيمة واحدة ويرفض إعادة هيكلة قياداته لتعبر عن هذا التشكيل الواسع، وأن أعضاء المكتب التنفيذي يريدون إلحاق الفصائل الأخرى بالمجلس لتجلس في الصفوف الخلفية كي لا تمس تركيب قياداته التي تشكلت ضمن ظروف خاصة. مثلاً عطل المجلس عمل اللجنة العشرية التي شكلت في لقاء المعارضة الواسع أواخر آذار 2012 والتي كلفت بترتيب توحيد المعارضة وإعادة هيكلة المجلس. ورفض المجلس حتى مجرد تشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر المعارضة في القاهرة مطلع تموز 2012، رغم أنها كانت بدون تمثيل وبدون صلاحيات، وشارك المجلس كمراقب في اجتماعات القاهرة نهاية تموز التي شكلت اللجنة الفنية، وسعى عبر الضغوط لإفراغ اللجنة التي تشكلت بدون أية صلاحيات وبدون أية مهام فعليه، ورغم ذلك رفض المشاركة فيها ويسعى لتعطيلها. أي يسعى المجلس لسد جميع الأبواب كي يبقى بابه هو الباب الوحيد المفتوح لتمثيل الثورة السورية.
وللإنصاف نقول أن المجلس ومكتبه التنفيذي يقبلون نوعاً خاصاً من التوسيع وإعادة الهيكلة بحيث لا تمس بعضوية أعضاء المكتب التنفيذي الحالي ولا تمس بسيطرة الأخوان المسلمين عليه.
ولكن إن كانت معظم فصائل المعارضة تتهم المجلس بالمسؤولية عن تشتت المعارضة، فإنها هي الأخرى لم تبادر لتوحيد صفوفها في ائتلاف واسع. وتبرر موقفها هذا بحرصها على عدم الإساءة للمجلس من أجل الحفاظ على بعض العناصر الإيجابية التي يمثلها تشكيله ولا تريد تكوين قطب آخر للمعارضة عسى أن يقتنع أعضاء المكتب التنفيذي يوماً ما بتوحيد صفوف المعارضة وإعادة هيكلة المجلس وقياداته.
لا شك أن إعادة هيكلة المجلس ليضم كافة أو معظم مكونات الثورة السورية هو الخيار الصحيح، ولكن طالما أن هذا الباب مغلق، فإن تشكيل ائتلاف واسع يضم غالبية مكونات الثورة السورية، هو بحد ذاته أمر إيجابي ينتج آثار إيجابية كثيرة، كما أنه سيخلق ضغط واقعي على المجلس يدفعه لأن يفكر بتوحيد المعارضة بشكل يختلف عن العقلية السائدة فيه والمسيطرة عليه حتى الآن.
غير أن هذه المراعاة على هذا النحو الممتد بدون سقف زمني قد منح أعضاء المكتب التنفيذي للمجلس ومنح الأخوان المسلمين ‘الفيتو’ ضد أي مسعى لتجميع المعارضة في ائتلاف واسع، وجعلهم أكثر تشدداً في أية مفاوضات لتوسيع المجلس.
إن موقف فصائل المعارضة خارج المجلس، رغم كل هذه المجازر اليومية التي يرتكبها النظام وأمام كل هذه الاثار السلبية بل والكارثية التي يسببها تشتت المعارضة إنما يتسم بالتردد والضعف وفقدان القدرة على المبادرة. وبالتالي فهم ليسوا أفضل من أعضاء المجلس الوطني ومكوناته، ما لم يثبتوا عكس ذلك.
‘ كاتب سوري
القدس العربي