تصنيع الإرهاب/ بدرالدين عرودكي
قبل نيِّف وأربعة عشر عاماً افتتحت الألفية الثالثة في عامها الأول بحدث إرهابي فاصل تمثل في تدمير برجي التجارة العالميين بنيويورك. جرى الحدث في نقل مباشر على مرأى ومسمع من العالم كله عبر شاشات التلفزيون. ولأنه عملٌ غير مسبوق لا في حجمه ولا في تقنياته ولا في مكان حدوثه، رأى فيه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار يومها الحدث ـ الرمز أو «الحدث المطلق، أمّ الأحداث والحدث المحض الذي يركز في ذاته كلَّ الأحداث التي لم تحدث من قبلُ على الإطلاق». في حين ناقش فيلسوفان آخران من أهم فلاسفة عصرنا، الفرنسي جاك دريدا والألماني يورغن هابرماس، مسألة ما إذا كان من الممكن اعتبار تاريخ يوم 11 أيلول/سبتمبر 2001، كتاريخ، «مفهوماً» فلسفياً بالمعنى الدقيق للكلمة. وصرح كوفي عنان، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة يومئذ، مستعيداً على صعيد آخر الآية القرآنية: (… من قتل نفساً بغير نفس (…) فكأنما قتل الناس جميعاً ـ سورة المائدة): «إن الهجوم الإرهابي ضد بلد ما هو هجوم ضدَّ الإنسانية جمعاء».
وكما لو كان الحدث منتظراً من قبل ـ استنفر جورج بوش ـ الدول جميعاً من أجل خوض «الحرب ضد الإرهاب» بادئاً بغزو أفغانستان وطرد طالبان من السلطة المركزية في كابول، ومستمراً في العراق غزواً وتحطيماً لبناه جميعاً عسكرياً وسياسياً واجتماعياً. ثم سرعان ما تبين له ولجميع من حالفه في حربه أن «القاعدة» صارت قواعد في بلدان لم يكن لها فيها وجود، ولا سيما في العراق، الذي سيصير بعد أفغانستان وفي وجود الجيش الأمريكي بمثابة المركز الثاني لها والذي سرعان ما سيحتضن كل مجندي «القاعدة» الذين بدا في الوقت نفسه أن دوائر استخبارات القوى الإقليمية والدولية قد بدأت في زج عملائها بينهم بصورة أو بأخرى لا بحثاً عن المعلومات فحسب بل للتأثير ـ ربما ـ بصورة أو بأخرى كلما سنحت الفرصة على صانعي القرار في فروعها المختلفة.
لكنَّ الحملة لم تؤدِّ إلى القضاء على الفاعل الحقيقي ـ القاعدة ـ رغم قتل زعيمها بعد سنوات. فقد صارت للتنظيم فروع وامتدادات في شتى البلدان، بما في ذلك الولايات المتحدة ومختلف الدول الأوروبية، كما رأينا ذلك خلال السنوات التالية على هذا الحدث وحتى اليوم. ومن ثمَّ، فـ»الحرب ضد الإرهاب» لم تضع أوزارها بعدُ، ولا يبدو أنها ستضعها في المستقبل المنظور. فالإرهاب الذي انطلقت لتحاربه الولايات المتحدة وحلفاؤها، بعد أن أمكن تشتيت قوات طالبان، يبدو كالغمام. لا يستقرُّ في أرض محددة ولا يتجسد واقعاً في دولة أو في بنية جماعية يمكن تحديدها والقضاء عليها بطريقة ما. فلأول مرة استطاع الإرهابيون أن يحققوا توازن الرعب مع القوة الأعظم لا من خلال مواجهتها بقوة السلاح أو بقوة النار المتكافئة، بل من خلال هذه المعادلة البسيطة والمرعبة: قبول الموت في مواجهة رفض الموت.
سيبقى هذا السلاح الرمزي هو الأقوى في كل مواجهة. ولن يكون هناك سلاح يتفوق في مواجهته ما دام الخيار خيار الحرب الكلاسيكية. كان جميع من شارك في هذه الحرب يعرف أنها لن تضعَ حدّاً لما صار يُعرف باسم مشكلة الإرهاب، مثلما أنها لن تتمكن من القضاء عليه ما دامت الوسائل التي استنفرت من أجل ذلك لا يمكن أن تصلح في هذه الحرب بالذات.
ومن ثمَّ، فقد تمَّ اللجوء إلى ـ مؤقتاً على الأقل ـ الالتفات نحو الاستثمار في هذا الإرهاب بطريقة أو بأخرى، في خدمة إعادة النظر التي تقوم بها القوى الكبرى حول توازن القوى والمصالح على الصعيد العالمي والإقليمي. فالكبار والصغار في هذه اللعبة يدركون أن من بعض أسباب الإرهاب الاختلال الخطير على الأصعدة كلها بين الشمال والجنوب، والهيمنة المطلقة للدولة الأقوى في العالم، واحتضانها ورعايتها الديكتاتوريات على اختلافها ولاسيما في العالمين العربي والإسلامي. كما يعرفون أن ذلك لابد أن يتيح لروح الإرهاب أن تنتشر حيث يعاني الناس آثار هذا الاختلال وهذه الهيمنة. لكن الصغار يدركون أيضاً مدى الحساسية المرضية بل الهشاشة اللامتناهية لدى الدول الغربية على اختلافها إزاء العمليات الإرهابية أياً كان حجمها ولاسيما منذ حدث بداية هذا القرن.
وكان النظام السوري، ومعه إيران وذراعها في لبنان، «حزب الله»، أولُ من أدرك خطورة سلاح الإرهاب بالنسبة إلى الغرب ومن ثمَّ أول من استثمره لصالحه في المنطقة. فقد كان سلاحاً يضاف إلى ترسانته من أجل البقاء. ولقد استخدمه بمهارة حين شعر بنفسه مهددا من قبل الولايات المتحدة إثر غزو العراق، حين أطلقً يد الإسلاميين الذين كانوا حبيسي سجونه من أجل العمل داخل العراق. ثم عاد إلى استخدامه على نحو أكثر نجوعاً منذ أن شعر بالتهديد الحقيقي لوجوده إثر الثورات العربية التي انطلقت من تونس وعبرت ليبيا ومصر ثم وصلت إلى سوريا.
منذ شهور الثورة الأولى، وبدعم مباشر وعلني من إيران وذراعها اللبنانية، اعتمد النظام السوري الحلّ الأمني لمواجهة الثوار، واتجه نحو إعلان الثوار مندسين، وإرهابيين، يعملون على تكوين إمارات إسلامية يشرف عليها إرهابيو «القاعدة». ووصل الأمر إلى أن الإعلام الممالئ للنظام ساوى بين حمص وقندهار. وتم تسليط الأضواء على كل ما يمكن أن يدعم هذا الزعم في الوقت الذي كانت سلطات النظام السوري تقوم بالقضاء على نحو منهجي على الشباب السوري الذي كان في أساس هذه الثورة والمحرك الأكبر لها، بالقتل، أو بالتعذيب حتى الموت أو بالتهجير.
كان الإرهاب إذن منذ البداية رهانَ النظام السوري ووسيلته لإثبات جدارته بالبقاء. ولقد استطاع خلال ما يقارب خمس سنوات متابعة هذا الطريق بلا كلل وبثبات، بوصفه الطريق الوحيد للخروج من النفق الذي وجد نفسه فيه. وها هو يحصد ما زرع: حلَّ «تنظيم الدولة» محلَّ القاعدة، وأسهم النظام السوري، مثلما فعلت من قبله حكومة نوري المالكي، بتسهيل تواجد قوات هذا التنظيم على مساحات شاسعة من البلدين تتيح له عن طريق البترول ونهب الآثار تمويلاً كافياً يجعله قادراً على تهديد الدول الغربية سواء من خلال تصوير وبث قطع الرؤوس والحرق بإخراج سينمائي شديد الحرفية أو من خلال عمليات إرهابية مذهلة في دراميتها كعملية 13 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في باريس.
هكذا أمكن لإيران ولذراعها اللبنانية وللنظام السوري معاً أن يقدموا للغرب البديل الذي يخشاه في سوريا: إما الأسد أو داعش! قتل النظام السوري بمعدل مائتي شخص يومياً منذ بداية الثورة السورية، وقتل تنظيم «الدولة الإسلامية» في عملية واحدة مائة وثلاثين شخصاً بباريس فضلاً عن عدد من الصحافيين الغربيين… وكانت النتيجة أن الغرب ردد بصوت واحد تقريباً: «الأسد عدو شعبه، لكن داعش عدونا»!
هكذا، وبعد أن كان العالم جميعاً ينادي بالخلاص من هذا النظام شرطاً لحل ما أطلق عليه «الأزمة السورية»، ها هو، شيئاً فشيئاً، يدعو إلى الاعتراف بضرورة العمل مع هذا النظام بالذات من أجل القضاء على الإرهاب مُجَسّداً في «الدولة الإسلامية».
سوى أن استثمار الإرهاب ممثلاً في «تنظيم الدولة» أو في سواه من الجماعات الإرهابية المنتشرة على رقعة العالم العربي لم يكن وقفاً على الديكتاتوريات العربية والإسلامية، بل شمل أيضاً الدول الغربية ذاتها التي عثرت في ما أطلقت عليه «الحرب على الإرهاب» أنجع وسيلة لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية على صعيد إعادة النظر في ضروب التوازن السياسية والجغرافية والعسكرية بين القوى الإقليمية (إسرائيل وإيران وتركيا) من جهة والقوى الدولية (روسيا وأوروبا والولايات المتحدة). وهو ما نشهده الآن عياناً.
٭ كاتب سوري
القدس العربي