تطــور المجتمــع الســوري: 1831 – 2011”/نشوان الأتاسي
توطئة لكتاب “تطوّر المجتمع السوري: 1831 – 2011” لِنشوان الأتاسي/ زياد ماجد
يقدّم نشوان الأتاسي في هذا العمل البحثي الرصين قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً. ويرصد التطوّرات بين أربعينات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً الى المرحلة البعثية فالأسدية، وانتهاءً باندلاع الثورة في آذار 2011.
أجزاء الكتاب كحقبات زمنية وسياسية أربع
ينتظم عمل الأتاسي في أجزاء أربعة. الجزء الأول تأسيسي، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل الى الثورة العربية الكبرى العام 1916. ويعرض الجزء للمتغيّرات العميقة التي طرأت على الاقتصاد السوري وعلى ملكية الأراضي عقب الصراع بين محمد علي والعثمانيين ثم نتيجة “القتال الأهلي” (أو المذابح الطائفية) العام 1860، وأثَر ذلك في علاقات “الأعيان” السوريّين وتنافسهم. ويتطرّق للإصلاحات التي أدخلها العثمانيّون، وصعود القومية التركية والردّ العربي عليها، متوقّفاً عند الجذور الاجتماعية للقومية العربية الناشئة. ويُقفل الجزء على الحرب العالمية الأولى ثم الثورة العربية اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
الجزء الثاني يخوض في تطوّر المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946. وفي هذا الجزء، يعرض الأتاسي لنزعات بعض الجماعات الأهلية والشرائح الاجتماعية خلال العشرينات والثلاثينات ولمواقف النخب السياسية المدينية وعلاقات الأرياف بالمدن. ويُقيم مقارنات مفيدة (ومختصرة) مع الحالة العراقية، ويتوقّف عند تكريس الحدود الجديدة للدولة الوليدة بعد استقلال أجزاء سابقة من “سوريا الطبيعية” عنها أو ضمّها الى دول الجوار بموجب الاتفاقات البريطانية – الفرنسية. ويُختتم الجزء مع الاستحقاق الاستقلالي والجلاء الفرنسي.
في الجزء الثالث يعالج الكاتب أبرز المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره “انتدابين”، الانتداب الفرنسي الآفل و”الانتداب البعثي” المقبل العام 1963. وفي صفحات هذا الجزء تحليل للاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وفيها أيضاً عرض للتعدّد السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشت في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية وتجربة الوحدة مع مصر ويقضي عليها استيلاء حزب البعث على السلطة.
الجزء الرابع والأخير هو دراسة في “العصبية والدعوة والمُلك” بوصفها دعامات حزب البعث وقوام نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و”قيادةً للدولة والمجتمع فيها” لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه. ويقسّم الأتاسي الحقبة البعثية الى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، مرحلة صلاح جديد (1966 – 1970) ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى اليوم). وقد تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع إسرائيل وجرى خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
التاريخ السوري الحديث في تحوّلاته وانقلاباته
نجح نشوان الأتاسي في صفحات عمله هذا في تكثيف الكتابة لتلخيص أحداث كبرى وقعت في سوريا ومن حولها (خاصة في فلسطين) وتحليلها، ثم النظر بموازاتها الى المجتمع السوري في تحوّلاته السياسية وأحوال مكوّناته وأوضاعه الاقتصادية، ممّا جعل العمل في تقاطع دائم بين التاريخ وعلم الاجتماع السياسي.
وقد حشد الأتاسي مراجع مهمّة وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، وأفرد ملاحق تضيء على مسائل ديموغرافية وجغرافية واقتصادية. وما أغنى سرده وتحليله هو اطّلاعه أيضاً على مذكّرات سياسيّين سوريّين كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني وبشير العظمة.
كما أن اعتماده “الخلدونية” منهجاً في مقاربة الحقبة البعثية، وفيها الأسدية، من خلال اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث وقيادته وداخل الطائفة العلوية التي نسّب أعداداً مهمّة من شبّانها الى القوى العسكرية والأمنية الرسمية، وتتبّعه للتطوّرات بعد تولّي بشار الرئاسة ولغاية انطلاق الثورة، منحا الجزء الأخير من الكتاب قيمة مضافة. ذلك أن الكتابات التاريخية السابقة بمجملها لم تتطرّق الى الشؤون السورية بمدّتها الزمنية المُعالجة هنا. ولا هي اعتمدت كلّ المراجع الواردة لتخوض عبرها في بحث مركّب في الحقبة البعثية الذاهبة الى آل الأسد، إضافة الى أن لا عمل ربط حتّى الآن بين السياق الثوري الراهن وما سبقه من تطوّرات على مدى عقود طويلة.
والأهمّ ربما أن نشوان الأتاسي يتعامل مع التاريخ السوري بوصفه ملكاً للسوريين. فهو يخرق الحظر المُسدل على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سيَر النظام الرسمية، أي تلك النافية وقائع والمستبدلة إياها بأُخرى مُخترَعة أو محوَّرة لتناسب المشروعية المُراد كسبها. وهو يُعيد الاعتبار الى مراحل من التاريخ (لا سيّما مرحلة الخمسينات) سعى النظام بعد تسيّد البعث لطمسها والتقليل من شأن أحداثها ومدلولاتها. وهو في كل ذلك يضيف الى المراجع العربية أو المكتوبة من مؤرّخين عرب واحداً تغطّي صفحاته المدى التاريخي الأرحب، بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنّا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
نصّ الأتاسي يأتي بالتالي كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة “شرق أوسطية” حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
علم الاجتماع السياسي
بعد التاريخ، يصحّ تنسيب هذا الكتاب في جوانب عديدة منه الى علم الاجتماع السياسي. ذلك أن تأريخه إذ يبحث في الوقائع والتغيّرات الكبرى في سوريا وفي الصراعات من حولها، يشتغل في الوقت نفسه على ثنائياتٍ إشكاليةٍ داخلية بين مدينة وريف وعصبية مذهبية وأُخرى مناطقية، مبقياً العنصر الاقتصادي ومؤدّياته الطبقية حاضرة على الدوام في التحليل. فلا تبدو الانتماءات الأولية كيانات سياسية صمّاء أو دائمة التراص، ولا يهيمن التقسيم الطبقي لوحده على قراءة الأحلاف والعداوات. وهذا بالطبع يُبعد التصنيفات السهلة ويُظهر التعميمات المتّبعة في الكثير من الكتابات متهافتة علمياً.
هكذا، تبرز النخب المدنية والعسكرية السورية بخلفياتها السياسية والاقتصادية والمناطقية والطائفية والأيديولوجية المختلفة قبل العام 1958 مرآة لمجتمع حيوي ومتحرّك يتفاعل مع المؤثّرات الخارجية فينصاع لها أو يتمرّد عليها أو يستفيد منها. ثم تظهر لاحقاً بعد انحسارها وانحصارها بحزب البعث ثم بقسم منه كطبقة متماسكة، معادية للمجتمع وساعية لبناء عصبية مهيمنة عليه.
وكما في كل تأريخ سياسي اجتماعي، يحمل السرد من الانتقائية بعض السمات. لكن تصميم العمل وضبطه وفق خطّ بياني زمنياً، مركَّبٍ أحداثاً وحاملٍ لإشكاليات وجدلّيات، يحمي الانتقائية ويقدّم لها الذريعة العلمية اللازمة في كتب كهذه، فتبدو أقرب الى الأمثلة أو الحالات الدراسية.
كتابٌ للتدريس
إضافة الى ما ذُكر، يمكن القول إن نشوان الأتاسي يُوفّر للقرّاء في صفحات هذا الكتاب مادةّ توجز دون تبسيط تاريخاً خطيراً، ويوفّر لطلّاب العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط المعاصر نصاً يُضاف الى النصوص المختصّة بالمنطقة، مع فارقين: واحد مرتبط بكمّ المعلومات المعروضة بسلاسة وبغِنى الإحالات الى مراجع وأعمال تؤمّن زاداً بحثياً ومعرفياً متنوّعاً؛ وآخر يستند الى تجربة الكاتب المقيم في سوريا نفسها. فالإقامة في هذه الحال شهادة مباشرة على لحظات وأحداث جسام. وهي تُتيح كتابةً تتعامل مع ما
يتخطّى الظاهر لِتغوص في ما يُمكن أن يقدّم تفسيرات له أو مقدّمات لمعالمه ومؤشّراته. وهي إذ تتّخذ المسافة العلمية اللازمة من “موضوعها” وتعتمد اللغة المناسبة لعمل بحثي على هذا المستوى، تُبرّر اعتماد الكتاب واحداً من المراجع الجامعية الممكن تتبّع أجزائها لتدريس مواضيع شائكة ومعقّدة.
لنشوان الأتاسي الفضل إذن في تقريب تاريخ سوريا الحديث الى متناولنا، ودفعه مرّة واحدة في الصفحات التالية ليكون سياقاً غنيّاً من الأحداث والعِبر والأحوال المتبدّلة على مدى قرنٍ ونيّف من الزمن. وقراءة هذا الجهد متعة وإفادة خالصة تضيء على الماضي القريب والحاضر المديد بما يُعين على فهمهما، في لحظة سوريّة تراجيدية ستفصل حُكماً بين ما كان وما سيكون.
تطور المجتمع السوري’ إيجاز مبسط لتاريخ خطير/ باسل العودات
دمشق تاريخ حافل وحضارة عريقة
يبـدأ كتـاب “تطــور المجتمــع الســوري: 1831 – 2011”، الصادر، عن أطلس للنشر والترجمة في بيروت، لنشوان الأتاسي، بمقدمات تأسيسية موسّعة عن انهيار السلطنة العثمانية والثورة العربية الكبرى والانتداب الفرنسي على سوريا والنضال الوطني ضدّه، وصولا إلى الجلاء والاستقلال، ويتعمّق في تلك المرحلة التي نشأت خلالها كتل وطنية بأبعاد قومية، وأفرزت نضالات عسكرية وأخرى سلمية، وترافقت مع كثافة الاتفاقيات الدولية والتغيرات الداخلية العميقة.
الكتاب يعرض أهم الاستراتيجيات التي أسست تناقضات وبؤر انفجار في المجتمع السوري بما فيها تشويه العلاقة بين المدينة والريف والخلافات المذهبية والطائفية والإشكاليات المناطقية دون إهمال هيمنة العنصر الاقتصادي والصراعات الطبقية.
وفق زياد ماجد، الذي قدّم للكتاب فإن هذا العمل “يوجز دون تبسيــط تاريخا خطيرا، ويوفر لطــلاب العلـوم السياسية ودراسات الشــرق الأوســط المعاصر نصا يضاف إلى النصوص المختصة بالمنطقة، مع فارقين: واحد مرتبط بكم المعلومات المعروضة بسلاسة وغنى الإحالات إلى مراجع وأعمال تؤمّن زادا بحثيا ومعرفيا غنيا ومتنوعا، وآخر يستند إلى تجربة الكاتب”.
تلك المقدمات التي تشغل نحو نصف حيز الكتاب تُمهّد للنصف الثاني الأكثر أهمية برأي الكثيرين، حيث فترة ما بعد الانتداب الفرنسي وقيام الدولة السورية، وتبلور ملامح الحياة السياسية والاجتماعية السورية، وبدء الصراعات السياسية والانقلابات العسكرية المتتالية، والوحدة مع مصر، والاصطفافات والخلافات والتحالفات بين العسكر والأحزاب والزعامات المحلية التي أدّت إلى هيمنة حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثان”.
خلال حكم أسرة الأسد تضاعف عدد أصحاب الملايين وظهرت طبقة برجوازية جديدة اغتنت عبر الفساد ونهب المال العام
خلخلة النظام
يقسم الكاتب مرحلة البعث إلى ثلاث مراحل، تخللتها تبدلات في القيادات وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، ومن ثمة تبدلات وتغيّرات قسرية في كل القيادات السياسية، وخلخلة للنظام الاجتماعي لصالح هيمنة طائفة ومن ثمّ أسرة واحدة على الحكم تحت غطاء البعث.
يستعرض الكتاب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنــانية، وعــلاقته بإيران، والاتحــاد السوفييتي ومن بعده روسيا، ومن ثمّ تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتاب السوريين تجنبها، غير أن الكاتب خاض فيها وفي وقائعها بتوسع معرّجا على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد، ومن ثمّ إلى السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية وعسكرتها.
استعرض الكاتب هذه المرحلة وشرح أسباب نموّ الفساد واستشرائه في الدولة ومرافقها بعد حرب 73، والقبضة الأمنية الحديدية التي أصبحت من أهم ركائز النظام جزءا عضويا منه، مؤكدا على أن الفساد ليس ظاهرة متفشية على هامش تركيبة النظام فحسب بل في صلب تكوينه وهو سبب جوهري لبقائه، ويشير في هذا الخصوص إلى ظهور طبقة برجوازية جديدة اغتنت عبر الفساد ونهب المال العام، وكيف تضاعف عدد أصحاب الملايين خلال حكم أسرة الأسد وما تبعه من اتساع للهوة بين هؤلاء وبين الغالبية العظمى من الشعب، وتأثير ذلك على انهيار قطاع التعليم العالي خاصة بعد أن أشرف عليه شقيقه رفعت الأسد، رئيس مكتب التعليم العالي، وقائد ميليشيا “سرايا الدفاع” الذي خرّب التعليم وأقحم الآلاف من الطلبة غير الجديرين في أهم الكليات العلمية.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة النظام السوري السلطوية الإملائية ما بعد البعث بالمنظمات الفلسطينية، ورفعه شعار الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني كعنصر من عناصر شرعيته، ويتطرق في هذا الصدد إلى مفاوضات السلام مع إسرائيل، وموقف النظام السوري من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية التركية زمن الأسد الابن ومن ثمّ انهيارها بنفس السرعة.
كتاب يستعرض أسباب تشويه العلاقة بين المدينة والريف
يُعرّج الكاتب على استراتيجية الأسد الأب المستندة إلى جعل عدد كبير من مضموني الولاء ينتسبون إلى حزب البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ”بالجبهة الوطنية التقدمية”، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة، جعلت منه شخصيا حاكما بأمره، ومن حزب البعث قائدا للمجتمع والدولة، وأيضا كيف حوّل تدريجيا سوريا إلى دولة أمنية تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي، كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
خرق الحظر
في الحقبة الراهنة يُوثق الكتاب أيضا لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم البعض من المثقفين بترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد الرئيس الجديد هذه المحاولات، كما يتعرض الكتاب لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فسادا وطائفية، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل.
لقد استند الكاتب على كمّ كبير من المراجع والأبحاث وضمّن الكتاب ملاحق ديموغرافية وجغرافية واقتصادية واستند إلى مذكرات الكثير من السياسيين السوريين الراحلين، وحاول أن يُقرّب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداث متسلسلة كثيفة ومترابطة على مدة قرن ونصف دون تعقيدات أو محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها.
والأتاسي في كتابه هذا تعامل مع التاريخ السوري بوصفه “ملكا للسوريين”، فهو حسب رأيه “يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ 1970 من خارج سيرة النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع ومستبدلة إياها بأخرى مخترعة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مراحل من التاريخ (ولا سيما مرحلة الخمسينات)، والتي سعى النظام بعد تسيّد البعث إلى طمسها والتقليل من شأن مدلولاتها”.
قراءة في كتاب “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011” لنشوان الأتاسي/ أوس داوود يعقوب*
في كتابه “تطور المجتمع السوري 1831 – 2011″، الصادر موخراً عن “دار أطلس للنشر والترجمة” في بيروت، يقدّم الكاتب السوري نشوان الأتاسي قراءةً في التاريخ السياسي والاجتماعي لسوريا عند نشأة كيانها ثم دولتها بعد انهيار السلطنة العثمانية وقيام الانتداب الفرنسي وما رافق ذلك من مفاوضات وانتفاضات أفضت حدوداً واستقلالاً وطنياً، محاولاً تقريب تاريخ سوريا الحديث إلى القراء دفعة واحدة بأحداثٍ متسلسلة كثيفة مترابطة على مدى قرن ونصف دون محاولات لإخفاء حقائق أو أدلجتها، عبر تشخيصٍ دقيقٍ للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها سوريا وقاطعها مع التاريخ وعلم الاجتماع السياسي.
يرصد نشوان الأتاسي (مواليد حمص عام 1948، والمقيم حالياً في باريس)، في كتابه الأول، الذي وضعه في العام 2013 واستغرق تحريره حوالي العام والنصف ليرى النور في أيلول 2015، يرصد التطوّرات التي طرأت على المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً بين أربعينات القرن الماضي وبدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مقدّماً محاولة هي الأولى ربّما لكاتب سوري للخوض في تاريخ سوريا الحديث بمراحله المختلفة وصولاً إلى مرحلة حكم حزب البعث والرئيسين الأسد الأب والأبن، وانتهاءً باندلاع ثورة السوريين في منتصف آذار 2011.
وفي (375 صفحة) يستعرض المؤلف أهم الاستراتيجيات التي أسست تناقضات وبؤر الانفجار في المجتمع السوري بما فيها تشويه العلاقة بين المدينة والريف والخلافات المذهبية والطائفية والإشكاليات المناطقية دون إهمال هيمنة العنصر الاقتصادي والصراعات الطبقية.
أربع حقبات زمنية وسياسية..
يبين الكاتب والباحث السياسي اللبناني زياد ماجد، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية بباريس، في توطئته للكتاب أن الأتاسي قسم دراسته إلى أجزاء أربعة.
جاء الجزء الأول تأسيسياً، ينطلق بعد تمهيد تاريخي من أحداث النصف الثاني من القرن التاسع عشر اللاحقة لحملة إبراهيم باشا على سوريا، ليصل إلى الحرب العالمية الأولى ثم الثورة العربية (1916) اللتين ستُخرجان سوريا من السلطنة العثمانية المتهالكة.
أما الجزء الثاني فيخوض في تطوّر المجتمع السوري بين حدثَين: حدث وصول فيصل ومحاولته تأسيس دولته في دمشق ثم هزيمته أمام الفرنسيّين وبسط سلطة انتداب الأخيرين، وحدث نهاية الانتداب وجلاء القوات الفرنسية عن سوريا المستقلة العام 1946.
وفي الجزء الثالث يعالج الأتاسي العناوين الأعرض للتاريخ السوريّ الحديث، أي التالي على استقلال 1946، حيث تحضر في المقدّمة الانقلابات العسكريّة، من حسني الزعيم في 1949 إلى حافظ الأسد في 1970. مبرزاً أهم المواضيع المتّصلة بالحياة السياسية السورية وبأحوال المجتمع بين ما يعتبره “انتدابين”، الانتداب الفرنسي الآفل و”الانتداب البعثي” المقبل العام 1963.
ووفقاً للباحث اللبناني فإن مؤلف الكتاب تعامل في دراسته مع التاريخ السوري بوصفه “ملكاً للسوريين”، فهو (الأتاسي) يخرق الحظر المسدل على رواية الأحداث منذ العام 1970 من خارج سير النظام الرسمية، أي تلك النافية لوقائع والمستبدلة إياها بأخرى مخترعة أو محورة لتناسب المشروعية المراد كسبها، وهو يعيد الاعتبار إلى مرحلة من التاريخ (لاسيما مرحلة الخمسينات) وهو في كل ذلك يضيف إلى المراجع العربية أو المكتوبة لمؤرخين عرب واحداً تغطي صفحاته المدى التاريخي الأرحب بعد أن كانت أعمال أسلافه ألبرت حوراني وفيليب خوري وحنا بطاطو وكمال ديب وآخرين معنيّة بحقبات سابقة أو متخصّصة ومتوسّعة في مراحل محدّدة.
ويأتي نصّ الأتاسي بالتالي كنصّ جديد يبني على ما سبقه، ويكمل كرونولوجيّاً الفراغات والنواقص متعرّجاً في التحليل وفي المقارنات ليُبيّن الأبعاد الداخلية والخارجية للأحداث، وليقابل بين الدولة والمجتمع وجدليّات علاقاتهما ونزاعاتهما في منطقة “شرق أوسطية” حبلى بالأزمات، وفي سياق دولي من الحرب الباردة ثم من العالم الأحادي القطبية.
ويبين الكاتب السوري في هذا الجزء (الثالث) بتحليل عميق، الاصطفافات والتحالفات وأدوار الجيش وبعض الأحزاب أو التيارات الرئيسية والزعامات الوطنية والمحلية. وكيف هيمن حزب البعث على المجتمع والدولة والسلطة، هيمنة وصفها الكاتب بأنها “انتداب ثان”، قضى على التعدّد السياسي والتجربة الليبرالية التي عاشتها سوريا في الخمسينات قبل أن توهنها الانقلابات العسكرية، وكذلك على تجربة الوحدة مع مصر التي قضى عليها النظام البعثي.
أما الجزء الرابع والأخير فخصصه الأتاسي لدراسة “العصبية والدعوة والمُلك” بوصفها دعامات حزب البعث وقوام نشاطه وتنظيمه المُفضي بعد انقلابه العسكري سيطرةً على سوريا و”قيادةً للدولة والمجتمع فيها” لغاية العام 2011 تاريخ بدء الثورة الشعبية ضدّه.
كما يستعرض الكاتب مرحلة حكم الرئيس حافظ الأسد وتأثيره على الحرب الأهلية اللبنــانية، وعــلاقته بإيران، والاتحــاد السوفييتي ومن بعده روسيا، ومن ثمّ تطييفه الجيش والأمن، وصراعه مع أشقائه على السلطة وتأهيله لأولاده لوراثة الحكم، وهذه المرحلة بالذات هي من المراحل التي حاول الكثير من الكتّاب السوريين تجنبها، غير أن الأتاسي خاض فيها وفي وقائعها بتوسع معرّجاً على الخمس عشرة سنة من حكم ابنه بشار الأسد، ومن ثمّ إلى السنتين الأخيرتين من الثورة السورية وتشكيل تنسيقياتها وتياراتها السياسية وعسكرتها. دون أن يفوته تناول استراتيجية حافظ الأسد المستندة إلى جعل عدد كبير من مضموني الولاء ينتسبون إلى البعث، وتزيينه الحكم بما عرف بـ(الجبهة الوطنية التقدمية)، وإقراره لدستور منحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية كافة، جعلت منه شخصياً حاكماً بأمره. وكيف حوّل تدريجياً البلاد في عهده إلى “دولة أمنية” تسيطر عليها فروع الاستخبارات وقوات الوحدات العسكرية الرديفة للجيش النظامي، كالحرس الجمهوري والوحدات الخاصة.
وفي هذا المبحث اعتمد المؤلف المنهج “الخلدوني” في مقاربة الحقبة البعثية، من خلال اعتبار العصبية مدخلاً لفهم الولاءات والخصومات والتضامن داخل دوائر حزب البعث وقيادته وداخل الطائفة العلوية.
كما وثقت صفحات الكتاب لمحاولات تأسيس منتديات للمجتمع المدني وحلم البعض من المثقفين بترسيخ حرية الرأي والتعبير، وكيف وأد بشار الأسد هذه المحاولات.
كذلك يستعرض الكتاب علاقة نظام الأسد الأب السلطوية الإملائية ما بعد حكم البعث بالمنظمات الفدائية الفلسطينية، ورفعه شعار “الصمود والتصدي والتوازن مع العدو الصهيوني” كعنصر من عناصر شرعيته، متطرقاً في هذا الصدد إلى مفاوضات السلام مع “إسرائيل”، وموقف الرئيس حافظ الأسد من اجتياح العراق للكويت وحرب الخليج، والتحسن السريع في العلاقة السورية التركية زمن الأسد الابن ومن ثمّ انهيارها بنفس السرعة.
كما يتعرض الأتاسي لـ”ورطة” اغتيال الحريري في لبنان التي أجبرت القوات السورية على الخروج منه والقيام بتغييرات عسكرية داخلية أطاحت بالرعيل الأول لتستقدم شريحة جديدة أكثر فساداً وطائفيةً، وكيف أن كل المحاولات للانفتاح على المجتمع الدولي باءت بالفشل.
إماطة اللثام عن قصة اغتيال المالكي..
من أهم القصص التي أماط الأتاسي عنها اللثام في كتابه هذا، قصة اغتيال الضابط السوري عدنان المالكي في منتصف خمسينات القرن الماضي. كاشفاً في الصفحتين (214 – 215) من الكتاب تفاصيل القصة الحقيقة –كما يدعي- والتي يرويها لنا على النحو التالي: “كانت إحدى نتائج الإطاحة بالشيشكلي إعادة بعض الضباط الذين سرّحوا من الخدمة في عهده، وكان أبرزهم عدنان المالكي، حيث تم تكليفه بمنصب معاون رئيس هيئة الأركان. وفي شهر نيسان 1955، وأثناء حضوره لمباراة في كرة القدم، قام رقيب في الشرطة العسكرية يدعى يونس عبد الرحيم (علوي) باغتياله، وعلى الفور قام شرطي آخر (علوي) بإطلاق النار على عبد الرحيم فأرداه قتيلاً، وبذلك طُمست معالم الجريمة ولم تُعرف دوافعها. لكن حزب البعث اعتبر اغتيال المالكي ضربة موجهة له على اعتبار أنه كان صديقاً لهم، كما كان شقيقه رياض عضواً في الحزب، لكن عدنان نفسه لم يكن بعثياً.
كان ممن شاركوا في عملية الاغتيال ثلاثة من عناصر الشرطة، أحدهم الرقيب محمد مخلوف (شقيق زوجة الرئيس السابق حافظ الأسد وخال الرئيس الحالي بشار، ووالد رجل الأعمال السوري الذائع الصيت رامي مخلوف). ولما كان الثلاثة أعضاء في الحزب القومي السوري الذي كان يسعى لإلحاق سورية بحلف بغداد، فقد اُعتبر الاغتيال جزءاً من محاولة عراقية لقلب نظام الحكم في سورية. كما وجهت التحقيقات أصابع الاتهام إلى زعيم الحزب الذي خلف أنطون سعادة، اللبناني جورج عبد المسيح، لأن حزبه كان قد وجه سابقاً اتهاماً للمالكي بأنه كان وراء تسريح رفيقهم المقدم غسان جديد (الشقيق الأكبر لصلاح جديد، عضو اللجنة الخماسية العسكرية البعثية، والرجل الأول في سورية بين عامي 1966 و1970)، وكان المالكي قد سرّحه فعلاً متهماً إياه بالتعامل مع الأميركيين. وعلى هذا شُنّت حملة تصفيات واسعة ضد الحزب أدت إلى انتهاء دوره ووجوده في سورية، وحُظر الحزب قانونياً، كما حُكم على مخلوف بالسجن المؤبد ولم يُفرج عنه إلا إثر انقلاب البعث عام 1963. وجرى اغتيال غسان جديد في بيروت. وبذلك تمكن البعثيون من التخلص نهائياً من أكثر منافسيهم خطورة على الساحة السياسية والعقائدية في سورية.
وقد ظهرت لاحقاً نتائج تحقيقات متعددة، نفت ضلوع الحزب في عملية اغتيال المالكي، وعزتها إلى المخابرات المصرية، في إطار الصراع بين العراق من جهة ومصر والسعودية من جهة أخرى. كما أن الحزب نفسه نفى بشدة ضلوعه في العملية واعتبرها ذريعة لتصفيته سياسياً وتنظيمياً. وفي مطلق الأحوال، فقد أدت العملية، وبغض النظر عن هوية مدبريها الفعليين، دورها كاملاً، بحيث أطلقت يد البعث في توجيه السياسة السورية، بتعاون – مرحلي – مع الحزب الشيوعي”.
وقد قسّم الأتاسي في سياق اطروحاته، الحقبة البعثية إلى مراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران (1963 – 1966)، فمرحلة صلاح جديد (1966 – 1970)، ثم مرحلة حافظ الأسد الذي خلفه ابنه بشار (2000 – حتى يومنا هذا). مستعرضاً كيف تخلّلت هذه المراحل تبدّلات في القيادة البعثية وفي الهويات المناطقية والطائفية للضباط البعثيين، كما تخلّلتها حربا العام 1967 و1973 مع “إسرائيل” وجرى خلالها اجتياح لبنان وتطوير تحالفات إقليمية مع إيران. ومع انتهاء الحرب الباردة وسقوط الحليف السوفياتي، تبدّلت بعض أدوار سوريا الخارجية وبدأت التحوّلات الاقتصادية داخلها، واستُبدلت لاحقاً القيادات السياسية بأُخرى أكثر ارتباطاً بالعائلة بعد توريث بشار الحكم العام 2000. فحكَم الأخير عقداً من الزمن قبل أن تبدأ الثورة على حكمه في أول العقد الثاني وتفتتح تاريخاً جديداً.
وتجدر الاشارة إلى أن الكاتب نشوان الأتاسي، ضمّن كتابه مجموعة من الملاحق (ديمغرافية وجغرافية واقتصادية)، حاشداً مراجع مهمّة وحواشي غنية بالتفاصيل والمعطيات، مستنداً على كم كبير من المراجع والأبحاث ومذكرات عدد من السياسيين السوريين الراحلين الذين كان لهم أثر كبير في الحياة العامة السورية، من أمثال خالد العظم وأكرم الحوراني وبشير العظمة.
* صحفي وكاتب من سوريا.