تظاهرة القائد… تظاهرة الحرية
زين الشامي
«إلى روح الشهيد وجدي عبد الحليم الصادق… حملته طفلاً رضيعاً وأذكر أن وجهه كان مثل القمر، كبر وجدي وصار شاباً، يوم سقط في تلك التظاهرة… رأيت صورة موته، بقي وجهه مثل قمر».
بالتأكيد هناك فرق كبير بين أن يطلب من الموظفين وطلبة الجامعات وطلاب المدارس، وأعضاء «حزب البعث» الحاكم وعناصر الأمن، الخروج الى التظاهرات «المليونية» للتعبير عن «الحب والولاء للقائد»، وبين تظاهرة عفوية غير منظمة يخرج فيها الناس بدعوات جوانية من دواخلهم، تحثهم على التظاهر والهتاف للحرية والعدالة والكرامة والمساواة.
هناك فرق كبير بين أن يحمل الموالون بالباصات المكيفة المريحة إلى الشوارع العريضة، معززين بموافقة ورضا مدير عملهم، تاركين مكاتبهم وعملهم في الدوائر الحكومية وراءهم، موعودين بمكافأة مالية، محروسين بالقوات الأمنية، تغطيهم قنوات التلفزة المحلية، فيما اولئك المتظاهرون الذين خرجوا لمظاهرة الحرية، يخروجون خائفين من القوات الأمنية والشبيحة والجيش والدبابات والقناصة المنتشرين على الأسطح، يحملون دمهم على أكفهم، يصورون بأيديهم الخائفة المرتجفة، من خلال أجهزة موبايل صغيرة مزودة بكاميرا، تظاهراتهم، ويبثونها على «يوتيوب»، فتأتي الصور بائسة تقنياً وفنياً، تغيب عنها ملامح الوجوه والأمكنة، لكنها مفعمة بالصدق والواقعية. مفعمة بالصدق والواقعية لأن هوية المصور ودوافعه مختلفة، لأنها صور مليئة بالدم، وغالباً ما كان الدم الأحمر صادماً حقيقياً، لا يمكن تأويل نزفه، أو الاجتهاد في مادته وطبيعته، خاصة حين يخرج من القلب، أو الرأس أو الوجه، وأحياناً الرقبة والعين أو الصدر، أو أي مكان في جسد المتظاهر الجريح أو القتيل، كتلك الصور التي شاهدتها للشهيد «وجدي عبد الحليم الصادق» الذي أصابته رصاصة قناص غادرة في صدره حين كان يتظاهر في حي القابون بدمشق في جمعة «أسرى الحرية». وكتلك المئات من الصور التي شاهدتها للشهداء في غالبية شوارع سورية منذ أربعة أشهر تقريباً.
صور المتظاهرين، صادقة، لأنها تصور الموت، الاصابة، التعذيب، الجنازات والدفن، والرصاص الذي يستهدف المشيعين في الجنازات، النحيب و البكاء على الراحلين، والهتاف المتوعد بالاستمرار وعدم التراجع… هذا كله لا يمكن تأويله او الشك به. هذا كله، يبعث المتلقي أو المشاهد للصور للتضامن مع هؤلاء الأشخاص، أكثر بكثير من تلك الصور المعلبة الجاهزة التي ينقلها التلفزيون الرسمي للتظاهرة المليونية، تلك التظاهرة التي تكلف الحكومة الملايين، لكنها تصل إلى الجمهور، باردة، غبية، مملة، مصطنعة، بلاستيكية، فيها المتظاهرون لا يتظاهرون، لا يهتفون، لا يقولون شيئا مثيراً، لأن الكلمات لا تخرج من قلوبهم أو حناجرهم، بل هي كلمات نعرف أنها معدة مسبقاً تخرج من الشفاه فقط، لا موضوع لها إلا «تحية القائد»…
ورغم أن الصور التي يبثها التلفزيون الرسمي للتظاهرة المليونية، هي صور أفضل من الناحية الفنية من حيث الدقة والصلاحية للعرض في كل زمان ومكان، ورغم أن تلك اللقطات مأخوذة من كاميرات كبيرة ثابتة غالية الثمن، إلا أننا دائماً ما نتركها ونشيح بوجوهنا عنها ونذهب إلى تلك اللقطات المقتطعة، الغائمة، الفوضوية،
المرتعشة، المعتمة، المرتجة، المأخوذة من الهواتف المحمولة للشبان المتظاهرين، ذلك أننا بتنا نعلم أن هؤلاء الشبان، كانوا يهتفون ويتظاهرون ويصورون بالوقت نفسه، ربما يصورون تظاهرتهم، أو لحظة هي الأثمن في حياتهم، حيث ذاقوا طعم الحرية.
في «التظاهرة المليونية» أو تظاهرة التعبير عن الولاء للقائد، يقف خلف الكاميرات الكبيرة الغالية الثمن مصورون محترفون، يتناولون «ساندويشاتهم» بيد وفي اليد الأخرى يحتسون «الكوكا كولا» أو زجاجة مياه معدنية. أما في التظاهرة التي يخرج فيها الشبان هاتفين للحرية، فهم غالبا ما يصورون موتهم، ولقد رأينا
أكثر من فيديو على «اليوتيوب» لشبان سوريين، سقطوا فيما كانوا يصورون تظاهرتهم وموت أصدقائهم وأقاربهم. إن ذلك يحصل للمرة الأولى في العالم والتاريخ، أن يصور المتظاهر موته.
في التظاهرة المليونية يخرج الآلاف، مجبرين، كالقطيع، كالصيصان في المداجن، يرددون هتافات واحدة، مملة، عن القائد و«البعث»… ثم يعودون إلى البيت موعودين برضا المدير او القائد او مكافأة مالية. فيما في تظاهرة الشبان، نسمع هتافات وأغاني تمجد الحرية، الحرية فقط، في تلك التظاهرات أخبرني أحد المشاركين أن هناك احساساً عذباً، يشبه نسمة الهواء العليلة الذي تدخل الصدر في يوم قائظ من أيام شهر أغسطس، في تظاهرة الشبان من أجل الحرية قد يعود المتظاهرون إلى بيوتهم، أو قد لا يعودون.
«التظاهرة المليونية» يطلبها رجل الأمن أو «رفيق مسؤول» في «حزب البعث»، ويشارك فيها منافقون وانتهازيون يبحثون عن مكسب منها، أو لتأكيد عبوديتهم وذلهم، فيما تظاهرة الشبان، لا يطلب أحد من أحد المشاركة فيها… شيء ما داخل الإنسان الحر يلح عليه للخروج، إنه التوق الأبدي الإنساني للانعتاق والحرية وتكسير أصفاد الذل والسجون والقهر. توق وعيون ترنو إلى البعيد، إلى الشمس وضوء النهار.
كاتب سوري