تعالوا نذبح صغيراً في كرنفال الجنون/ عمر قدور
ليس حدثاً عادياً قيام عناصر من حركة نورالدين الزنكي بذبح أسير صغير، وتصوير عملية الذبح، مترافقة بتشفي القتلة، ثم نشر التسجيل. بعد النشر سيأتي الحديث عن المؤثرات الخارجية، ففي الوقت نفسه كانت قوات التحالف تقصف المدنيين في مدينة منبج، موقعة في ليلة واحدة حوالى مئتي قتيل بينهم أسر كاملة بأطفالها. في تتمة لذلك اليوم، يكرّس مؤتمر الجمهوريين في أميركا ترشيح دونالد ترامب للرئاسة بكل ما يعنيه ذلك، وقبله بيومين تبدي رئيسة وزراء بريطانيا استعدادها للضغط على الزر النووي. هكذا في وسعنا جعل حدث ذبح الأسير الصغير تفصيلاً يكاد ألاّ يُرى ضمن كرنفال الجنون العام، من دون أن ننسى بالطبع التذكير بجرائم بشار وحلفائه التي تبقى لها الصدارة القصوى في بدء المهرجان وأساليبه وعدد ضحاياه.
بيان حركة الزنكي اعتبر الحادث خطأ فردياً، وتعهد محاسبة أصحابه، لكننا في مناسبات سابقة عديدة لفصائل أخرى لم نسمع بعقوبات رادعة طاولت مرتكبي تلك الأخطاء الفردية، ولم تنعقد المحاكم العاجلة وتصدر أحكاماً عاجلة قاسية إلا عندما تعلق الأمر بتصفية خصوم من فصائل أخرى. ولعل أخطر ما أورده البيان تحميل المجتمع الدولي مسؤولية الصمت على مجازر بشار، وكذلك الحصار الخانق لمدينة حلب المحررة والذي «ينعكس في شكل سلبي على الحالة النفسية للناس المحاصرين». وإذا كان الحديث عن التخاذل الدولي كلاماً معتاداً ومحقاً، فإن الحديث عن الأثر النفسي قبل الأثر المعيشي المادي هو ما يلفت الانتباه، وتفسيره أن المقصود بالناس ليس أولئك البشر العاديين الذين بدأت قبل أكثر من أسبوعين معاناتهم مع فقدان المواد والخدمات الأساسية. المقصود بهذا الأثر النفسي مقاتلو الفصائل الذين قد تدفعهم ظروف الحصار إلى ارتكاب مزيد من التجاوزات، مع تحميل الصمت الدولي وزر حدوثها.
يصادف في الوقت ذاته أن تنشر جريدة «الحياة»، في21 تموز (يوليو) الجاري، تقريراً عن انتشار الأمراض النفسية والإدمان على المهدئات بين السوريين، وفي التقرير يفيد أحد موزعي الأدوية بأن الإقبال والطلب على المهدئات يدلان على ارتفاع نسبة محتاجيها من 2 في المئة قبل «الحرب» إلى 70 في المئة الآن، بينما يصرّح مدير مستشفى الأمراض النفسية في حلب بأن نحو 50 في المئة من سكان مدينته معاقون نفسياً. ومع أن قياس الآثار النفسية أمر معقد، بخاصة المديدة منها، إلا أن تحريها العشوائي أصبح متاحاً على الأقل من ملاحظة العديد من أنماط العنف، أو من انفلات العنف في أقصى طاقته مع جاهزية عالية لتبريره، من دون وصم جميع المتأذين نفسياً بالاستعداد لتقبّل العنف أو ممارسته.
من المفيد التذكير بأن قوات الأسد، قبل «داعش» أو سواه، هي التي بدأت الذبح على نطاق واسع، وهذا التذكير لا يهدف إلى تبرير المذابح اللاحقة وإنما لتوضيح أن الوحشية المطلقة، بما تترتب عليها من آثار، بدأت قبل خمس سنوات. وسيكون مفيداً التذكير بأن استخدام السكين، في غير الحالات القصوى من الدفاع عن النفس، درجة مترفة من ممارسة الوحشية ترفع القتل من مصاف الضرورة إلى مرتبة المتعة الخاصة ومن ثم العامة التي تحتفي به.
وقد يكون مفيداً التذكير بأن بشار الأسد هو أيضاً أول مَنْ وصف وحشية قواته ومخابراته بأنها أخطاء فردية، مع تركها بلا محاسبة، الأمر الذي ينفي عنها تهمة الخطأ الفردي. والأهم أن الخطاب الذي روّجه النظام ومؤيدوه منذ بدء الثورة كان يدعو إلى إبادة المناطق الثائرة بمن فيها، بما لا يدع مجالاً لأي خطأ فردي. فالمعلوم أنه حتى في حالات الإجرام الفردي العادي قد يحدث أن يتحرى من يتوخى العدالة القصوى الظروف العامة التي ربما تحمل بذور «الانحراف» أو تشجع عليه، أما في حالتنا فقد كانت البيئة العامة واضحة ومكشوفة في إجرامها، ما يجعل خطاب العنف محايثاً لسلوكه أو سابقاً عليه.
لكن التذكير بأولوية النظام وشبيحته لا ينبغي مطلقاً أن يمنح السلوى لأولئك الذين اقتفوا أثرهم في تبرير جريمة مقاتلي حركة الزنكي، بل خاضوا جدالات منسوخة عن جدال مؤيدي النظام عندما ارتكب جريمة قتل الطفل حمزة الخطيب. جدالات من نوع القول إن القتيل ليس طفلاً كما يُشاع، أو أنه مقاتل أصلاً، بما يقفز عن واقعة العنف الوحشي المتعمد كما حدثت. أصبح حمزة الخطيب رمزاً لوحشية النظام، بسبب صغر سنه وأيضاً بسبب تعرضه للتعذيب وصولاً إلى قطع عضوه التناسلي، هذا ما كان صادماً في حينه، ولا يبدو الآن صادماً كفاية من وجهة نظر من رأوا في جريمة الزنكي مجرد رد فعل على جرائم مشابهة.
على الصعيد السياسي، قد يسهل القول بطغيان الحرب تماماً على الثورة، بما للأولى من ظروف وشروط أقل أخلاقية من الثانية. ولكن، حتى في هذا التهاون الذي ينحدر من اشتراطات الثورة إلى ظروف الحرب، ثمة ما لا يجوز التهاون فيه وهو قوانين الحرب التي تستوجب عدم ارتكاب جرائم حرب على غرار ما يفعله النظام أو «داعش». وهذا الاعتبار يزداد أهمية لفصائل تنسب نفسها إلى الثورة، مثلما يكون محكاً لأفراد أو مجموعات غير مسلحة تحسب نفسها على الثورة، ولا ترى الجريمة الأخيرة سوى من منظار مقارنتها بجرائم تفوقها كمّاً.
قد تصحّ أكثر العبارة الواردة في بيان الزنكي عن الآثار النفسية لو وردت من مراقب محايد متعاطف مع معاناة السوريين، أما صدورها عن قوة منخرطة في الصراع فيعطي إشارة خطيرة جداً. والخطورة تتفاقم جداً مع وجود خطاب عنف مبني على المظلومية، إذ من خلال خطاب العنف المعمم تصبح الوحشية قدراً، أو دفاعاً شرعياً عن الوجود، بينما يتحلل ذلك الوجود من الأسئلة حول طبيعته الإنسانية والأخلاقية.
إن واحداً من أنماط العنف يتجلى في القول: هل يستحق هذا الصغير التوقف عنده، وسط كل الجنون المحلي والعالمي؟ إذ وراء هذا السؤال نشترط الاهتمام بجرائم الآخرين فقط، ونشترط لإنسانيتنا حلاً هو في أيدي الآخرين فحسب.
الحياة