تفرد الثورة السورية
عمر كوش
لم تواجه أية ثورة شعبية -في العصر الحديث- ما واجهته الثورة السورية من أعمال قتل ومجازر وتصفيات، ارتكبها النظام الدكتاتوري الحاكم بحق الثائرين وحاضنتهم الاجتماعية. ولعل أهم ما يميز الثورة السورية، هو الإصرار المنقطع النظير لدى شبابها وناسها على مواصلة حراكهم الذي بدأ منذ أكثر من تسعة عشر شهراً، والاستعداد الهائل عندهم لتقديم التضحيات الجسام في الأرواح والممتلكات، وعزمهم على عدم التراجع أو التوقف عن الطريق الذي ساروا فيه، قبل أن تتحقق مطالبهم وآمالهم.
ويمكن القول إن خصوصية الثورة السورية لا تكمن في موقع سوريا الجيوسياسي أو في تركيبتها الاجتماعية والإثنية والدينية، بل في أنها تواجه أعتى نظام قمعي في منطقة الشرق الأوسط. نظام يعتبر بعض قادته العسكريين أنهم قوة احتلال، ويتصرفون على هذا الأساس، وبالتالي فمن المشروع أن يقاوم الشعب السوري الاحتلال حتى يتحرر وينال حريته، الأمر الذي ينسج تفرد الثورة السورية في الاقتران المشروع بين الحرية والتحرر.
الخصوصية السورية
منذ اليوم الأول للثورة واجه النظام جموع المحتجين السلميين بالعنف، وبإطلاق الرصاص والاعتقال والتصفية والتعذيب، واتبع سياسة أمنية منهجية، استمر فيها بشكل متصاعد، بعد أن صادر المجال العام، وأغلق أبواب السياسة، مطلقاً العنان لأجهزته الأمنية ومجموعات الشبيحة لسلوك أبشع الطرق وأقساها في القمع الشامل بغية إسكات أصوات المحتجين، وتصفية الناشطين الميدانيين، ثم تطور الأمر إلى إقحام الجيش، وزجه في معركة الدفاع عن النظام، فراحت آلياته العسكرية وطائراته الحربية تقصف الأحياء والبلدات المأهولة، الأمر الذي أفضى إلى ارتكاب المجازر المتنقلة، وتدمير وتهجير وترويع الناس الآمنين.
وباردت قوى النظام -خلال الأشهر الأولى من الثورة- إلى اعتقال وقتل الكوادر الشبابية المثقفة، بهدف إبعادها عن الحركة الاحتجاجية السلمية، وحرمان الثورة من قادتها السياسيين، كي يسهل قمعها وإخمادها. ومع تواصل القمع الأمني وتزايد أعمال القتل ضد المتظاهرين السلميين وقادة الاحتجاج السياسي، بدأت الحواضن الاجتماعية للثورة بالتفاعل، الأمر الذي أنتج مظاهر دفاعية مسلحة بغية الدفاع عن النفس وحماية المظاهرات السلمية، والوقوف ضد التوغلات العسكرية. يضاف إلى ذلك الانشقاقات العسكرية التي راحت تتسارع مع توغل قوى النظام في ارتكاب المجازر وقصف الأحياء والبلدات ومختلف المناطق المدنية.
ونشأ في إثر تركيز النظام على الحل العسكري غياب لسلطة الدولة عن مناطق وبلدات وأحياء مدن عديدة، وراح ساسة النظام وقادة عسكره يرددون كلاماً عن دخولهم مرحلة الحسم الهادف إلى قمع الثورة، وتحويل الأزمة الوطنية العامة الناتجة عن تعامل النظام مع الثورة إلى صراع مسلح.
واتبع النظام السوري للدفع في هذا الاتجاه أسلوب تدمير المناطق الثائرة، وقصفها بالطائرات والدبابات والراجمات والرشاشات وسواها، الأمر الذي يفسر سقوط عشرات الآلاف من الشهداء ومئات الآلاف من الجرحى، وعشرات الآلاف من المفقودين والمعطوبين، فضلاً عن أكثر من مائة ألف معتقل، وتهجير وتشريد أكثر من ثلاثة ملايين سوري، داخل سوريا وخارجها.
التميز والتفرد
لقد جرى التأسيس للثورة السورية حول مطالب وشعارات وطنية جامعة لكل السوريين، تمحورت حول الكرامة والحرية، حيث انطلق أول شعار “الشعب السوري ما بينذل”، هتفت به جموع من السوريين في منطقة “الحريقة” بدمشق، وتأقلم نفس الشعار في درعا في صيغة “الموت ولا المذلة”، بعد سقوط عدد من الشهداء، ثم تحولت لغة الشعارات من رفض المذلة وإعلاء قيمة الكرامة، وتفضيل الموت على الخضوع، إلى المطالبة بالحرية، وجعلها مقام تشييد للغة الثوار، وذلك بالتلازم مع رفض الاستمرار في العيش في ظل الوضع القائم. وبات شعار “الله.. سوريا.. حرية.. وبس”، يكمل ثنائية الكرامة والحرية، بوصفهما مركبيْ التأسيس للثورة السورية.
ومع الامتداد الأفقي للحراك الثوري، كرّس الالتفاف حوله تعاضد فئات وشرائح اجتماعية وسطى وفقيرة واسعة، أجمعت بواسطة الدم والتضحيات على لحمة خيوط النسيج الوطني الحديث، وعلى وحدة السوريين بمختلف مدنهم وبلداتهم وقراهم، وبمختلف مكوناتهم وأطيافهم الدينية والمذهبية والإثنية، جسدتها شعارات عديدة، يختصرها شعار: “واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد”، بل إن الشعار ذاته “بالروح بالدم نفديك يا درعا” أعلن امتداد التعاضد والتكاتف إلى مختلف المناطق، حيث تناوبت وتتالت أسماء المدن والبلدات فيه، من جنوب سوريا إلى شمالها، ومن غربها إلى شرقها.
ومع تزايد سقوط الشهداء وسيلان الدم في الشوارع والساحات تغايرت لغة الشعارات ومضامينها، وراحت تطالب بإسقاط النظام ورحيل رموزه، وإظهار التضامن والتعاضد مع مختلف المدن والبلدات التي تعرضت للقمع الشديد. وعند بروز المكون العسكري -من منشقين عن الجيش النظامي ومتطوعين- راحت الشعارات تطالب بحماية المدنيين، وتحيّي الجيش الحرّ، وتطالب بالتسليح، وسوى ذلك.
وتشير الشعارات السياسية التي رفعت في مظاهرات الثورة السورية إلى رمزية خاصة، وإلى تحولها وتجسدها في ثنايا خطاب وطني يتوجه إلى عموم السوريين، حتى باتت مكوناً أساسياً للتواصل بين المحتجين والجمهور العام، وإطاراً للمفاهيم الثقافية والسياسية والاجتماعية، الأمر الذي شكّل ظاهرة لمأسسة مفاهيم الثورة، ومخاطبة جموع الداخل والخارج، والأهم هو أنها راحت تنهل من معين حياة الناس وذاكرتهم، وتعكس طموحاتهم ومطالبهم وآمالهم وتطلعاتهم، ولها تفاعلاتها الداخلية والخارجية.
ارتباط الحرية بالتحرر
أعطت الثورة السورية معنى جديداً لعلاقة الحرية بالتحرر، حيث إن ثورات العصر الحديث ربطت بين مفهوم الثورة والحرية، وليس العدالة أو الكرامة، وهو أمر يسم مختلف الثورات بشكل عام، والثورات العربية التي أطاحت بأنظمة الاستبداد في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن.
غير أن ارتباط الثورة السورية بالكرامة أرجح من ارتباطها بالعدالة، لكنه قد لا يفوق ارتباطها بالحرية، ذلك أن الحرية باتت الفكرة الحاضر في عالم اليوم، كما هي الحال عليه في عالم ما بعد الثورة الفرنسية، بوصفها -أي الحرية- تمثل المعيار الأعلى للحكم على الأنظمة السياسية، وبالتالي ليس فهم الثورة وحده، بل مفهوم الحرية -وهو ثوري بالأصل- هما اللذان عليهما يتوقف الترابط بين الثورة والحرية.
ويبدو أن النظام السوري حين عمد إلى منع المتظاهرين السلميين من الوصول إلى الساحات والأماكن العامة والتجمع فيها، وواجههم بالقتل والاعتقال والتنكيل، فإنه أراد أن يستكمل السيطرة والاستحواذ، أو بالأحرى احتلال البلاد الذي قام به العسكر الانقلابيون، الذين وطدوا بدورهم دعائم النظام الحالي، منذ أكثر من أربعة عقود.
وراحت قوى النظام وأجهزته ومافياته تحتل مؤسسات الدولة، لتجعل منها مجرد ملحق وتابع لسلطتها، فقامت بمصادرة مختلف الحريات الفردية والجماعية، واحتلت السلطة الفضاء العمومي بعد أن صادرت السياسة بمعناها المدني الواسع.
وجاءت الثورة السورية كي تكشف طبيعة الاحتلال السلطوي للدولة والمجتمع، إذ لم تتردد السلطة في إقحام قطعات الجيش للهجوم على مناطق المدنيين في مختلف مناطق وبلدات ومدن سوريا، وأطلقت العنان لأجهزة الأمن وفرق الشبيحة لقتل الناشطين والتنكيل بأي شخص غير موال، فتزايدت المجازر والجرائم، وتزايدت أعداد القتلى والجرحى والمعطوبين والمعتقلين والمهجرين، وتزايد الدمار والخراب، وظهرت الانشقاقات في الجيش، ولجأ كثير من السوريين إلى التسلح دفاعاً عن أنفسهم وأحيائهم وأماكن سكناهم، وبالتالي اكتسبت الثورة مركباً مسلحاً لمواجهة جيش النظام وأجهزة أمنه وشبيحته، وراحت تتعامل مع النظام بوصفه قوة احتلال من حقها المشروع مقاومتها.
ولعل من بين خصوصيات الثورة السورية أن التطور الذي طرأ على مسارها -خصوصاً في عامها الثاني- تجسد في تحولها من ثورة تنشد الحرية إلى ثورة تنشد التحرر والحرية معاً، الأمر الذي يستلزم النظر في علاقة الثورة بالتحرر، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معنى الثورة الشعبية يكمن في كونها فعلا مقاوما للظلم والقهر والقمع، أي أنها فعل مناهض للاستبداد في مختلف صوره، ومناهض للاحتلال بمختلف أشكاله وتجسيداته.
ولا شك في اختلاف التحرر عن الحرية، ومع أن التحرر هو شرط بلوغ الحرية لكنه لا يقود إليها بشكل آلي، كما أن الرغبة في الحرية مختلفة عن الرغبة في التحرر، مع أن التداخل في الحالة السورية بات واضحاً بين التحرر والحرية، بل ويمتلك مؤشرات واقعية، خصوصاً بعد استباحة قوى النظام الأحياء والبلدات التي تقتحمها قوات الجيش، حيث الدمار والهدم ونهب البيوت السكنية والمحال التجارية وسوى ذلك يجري علناً في وضح النهار، وبفعل مقصود وممنهج، ويشرعن لهذه العمليات بوصفها غنائم حرب، يجري نقلها في مواكب علنية واحتفالية من طرف قوى النظام.
وكم هو مفجع أن تجري احتفالات كرنفالية في الأحياء التي تضم غالبية من الفئات الموالية حين يقتحم الجيش حياً أو قرية أو مدينة ثائرة، بل حين يصور رموز النظام وساسته وأبواقه الإعلامية تلك العمليات وكأنها أعمال بطولية وإنجازات.
واللافت هو أن ساسة النظام السوري لا يخجلون من أنفسهم حين يصورون قصف مناطق المدنيين بالصواريخ والقنابل العنقودية والبراميل المتفجرة بأنها عمليات جراحية أو عمليات تعقيم وإبادة لجراثيم فتاكة.
وبات من الطبيعي اليوم أن الناظر في اللغة التي يستخدمها الثوار السوريون، ومعظم الناس العاديين، يجد أنهم باتوا يتحدثون لغة تحررية، حيث يتم الحديث عن المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر بوصفها “مناطق محررة”، فيما المناطق التي يعيد النظام السيطرة عليها توصف بالمناطق المغتصبة، بل إن ضباطاً من الجيش السوري العقائدي راحوا يصرحون علناً لوسائل الإعلام بأنهم يعملون كقوة احتلال وليس كقوة أمنية، وأنهم يعرفون تماماً أنهم باتوا قوة احتلال في نظر سكان المناطق السورية التي يجتاحونها.
الجزيرة نت