تفكيك بلاد الشام لضمان إيران… قنبلتها الحقيقية!/ جورج سمعان
معطيات كثيرة طرأت على المشهد السوري في الأسابيع الأخيرة، ليس أولها فشل «جنيف – 2»، وما أفرزته أزمة أوكرانيا وتداعياتها على العلاقات الدولية. وليس آخرها القمة التي عقدها الرئيس باراك أوباما مع الملك عبدالله بن عبدالعزيز. كما أن فتح جبهة الساحل بمقدار ما شكل منعطفاً في الأزمة المستمرة منذ ثلاث سنوات، رسخ التوقعات بأن الحرب ربما لا تزال في منتصفها. والأخطر أن مآلاتها تزداد غموضاً، ولا ضمان في وقف انزلاق البلاد إلى التفكك مناطق متناحرة بهويات وعصبيات طائفية ومذهبية وعرقية متنافرة. ويخشى أن تكون صفحة التسوية السياسية قد طويت نهائياً. أو هي رهن عودة التفاهم بين الولايات المتحدة وروسيا، وبينها وبين إيران. وهذا أمر دونه حسابات ورهانات تستهلك وقتاً طويلاً يستحيل العودة للبحث في حل سياسي، ليكون المبضع ربما الخيار الوحيد، الأمر الذي يهدد كل دول الجوار.
الظروف التي سهلت انعقاد مؤتمر جنيف انقلبت رأساً على عقب. كان ثمة تفاهم بين واشنطن وموسكو. وكانت ثمة مصلحة لأكثر من لاعب في الساحة السورية في الدفع نحو التسوية. على رغم هذه الأجواء انهار المؤتمر بسبب تعنت النظام في دمشق. وأكثر بسبب الموقف المتشدد الذي اتخذته روسيا. لم تمارس أية ضغوط على حليفها السوري، بل كانت تدفعه نحو مزيد من التشدد. وجاءت الأزمة الأوكرانية لتدفعها نحو التمسك بموقفها. وجدت في ما سمته «انقلاب المعارضة» الأوكرانية في كييف على الاتفاق الذي أبرمته مع الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش في رعاية ثلاثة وزراء خارجية من دول الاتحاد الأوروبي وحضورهم، ذريعة بأن لا شيء يضمن التزام المعنيين أي اتفاق يبرم مع النظام في دمشق. لذلك، لا شيء يستدعي العجلة إلى «جنيف – 3». كما أن ضمها القرم من دون مقاومة غربية فاعلة زادها تصميماً على التمسك بالرئيس بشار الأسد.
في الجبهة الأخرى، اتجهت الولايات المتحدة إلى إعادة درس خياراتها حيال أزمة سورية. وأعلنت أنها سترفع وتيرة مساعداتها العسكرية للفصائل المعتدلة تدريباً وتسليحاً. لكن هذا التسليح لا يشمل إلى الآن تزويد هذه الفصائل صواريخ مضادة للطيران. وسياسة التدرج أو التردد هذه ستظل رهن جملة من الحسابات أو الملفات. أولها أن واشنطن التي تصر على التفاهم مع موسكو حيال أوكرانيا، لا تزال تنتظر بلا جدوى مساهمتها في العودة إلى تفعيل الحل السياسي في سورية. فلا يخفى أن هناك أهدافاً مشتركة للطرفين على رأسها مواجهة الحركات المتشددة النافذة، والحرص على حماية الأقليات وضمان مستقبلها ومصيرها. وكثيراً ما يردد مسؤولون في واشنطن أن الوضع في سورية بات يهدد الأمن القومي لبلادهم. ويشيرون هنا بالطبع إلى تنظيم «القاعدة» وشقيقاته، وما يشكله من تهديد لأمن إسرائيل في المقام الأول، ثم لمصالح «الأصدقاء» من دول الخليج إلى الأردن ولبنان والعراق. ويرددون باستمرار السؤال عن اليوم التالي لرحيل الأسد. لا يريدون تكرار تجربة العراق. يردون ضمان النتيجة النهائية للتغيير المنشود، ضماناً لا يحتمل ولو هامشاً ضئيلاً من الخطأ. يريدون معرفة مسبقة لشكل النظام وحدود مشاركة جميع المكونات. إنها بالتأكيد وصفة لعدم التدخل وحجب العتاد الفعال لتغيير موازين القوى على الأرض! أما لماذا رفعت سيف التهديد بضرب النظام لدفعه إلى التخلي عن سلاحه الكيماوي، ولم ترفعه لمنعه من التمادي في سياسة التجويع والحصار والقصف الجوي بالبراميل والصواريخ والتهجير والتطهير، فمسألة أخرى معروفة الدوافع والأهداف.
لا يمكن هنا بالطبع أن تتبرأ فصائل المعارضة السياسية والعسكرية من مسؤولياتها هي أيضاً. تأخرت كثيراً في التنصل من حركات التشدد، وإن كان النظام يتحمل العبء الأكبر في استدعائها إلى المشهد السوري بالحجم الذي هي عليه اليوم. وحتى اليوم هناك تنسيق بين معظم القوى على الأرض، معتدليها ومتشدديها، باستثناء «داعش». وقد أظهرت معارك ساحـــل اللاذقية وريفها أن ثمة حسابات مختلفة لقوى المعارضة. كان فريق منها يسعى إلى دفع الإدراة الأمـــيركية إلى مزيد من الانخراط ما دامت تعيد النظر فــي خياراتها بعد الإخفاقات السابقة. كان يسعى إلى نزع ذريعة جعلها الأميركيون والروس شماعة لتأكيد مخاوفهم على مستقبل الأقليات، خصوصاً العلويين والمسيحيين. وكان يسعى أيضاً إلى طمأنة هؤلاء إلى دورهم الوازن في النظام المقبل إذا قيض لهم ترحيل النظام، وتشجيعهم على الابتعاد عن الرئيس الأسد لتسهيل التسوية السياسية. ولم تكن واشنطن بعيدة من هذا التوجه، بل أبدت استعداداً لمزيد من التفهم لحاجات المعارضة من أجل تعديل ميزان القوى على الأرض لإرغام النظام على العودة إلى التفاوض وتقديم التنازلات المطلوبة.
لكن الاندفاعة الأخيرة لفصائل أخرى نحو جبهة الساحل ستعزز التفاف العلويين حول النظام، بعدما باتت هذه الحملة تهدد مشروع «دويلة الساحل». ولا تحتاج هذه الفصائل إلى تبرير خطوتها: كان لا بد من الرد على معركة القلمون. ولم يعد لديها أمل باحتمال حدوث أية تحولات في مزاج أهل الساحل بعدما أمعن النظام في حصارهم، وتعزيز مخاوفهم من أن أي تفاهم سيشكل نهايتهم المادية والسياسية.
هناك بالطبع حسابات إضافية في واشنطن، بينها المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني. وبينها أيضاً سير الحوار الدائر بينها وبين إيران، والذي تعتقد دوائر غربية بأنه قطع شوطاً كبيراً ولا عودة إلى الوراء. من هنا، إجازة وزارة الخزانة الأميركية لشركة «بوينغ» تزويد الجمهورية الإسلامية قطع غيار لطائراتها التجارية. فيما السباق الأوروبي على أشده للعودة إلى السوق الإيرانية. وفيما تقف واشنطن منذ اندلاع الأزمة السياسية في بغداد مع نوري المالكي. كأنها تصم أذنيها عن كل أصوات الاعتراض التي تهاجمه. وتتجاهل مواقف كل القوى السياسية في العراق التي ترى إليه يبعث الديكتاتورية مجدداً، بل توفر له الدعم العسكري في حربه في المحافظات السنّية، على رغم أن القوى الشيعية الأخرى، فضلاً عن السنّة والأكراد، تعتبر أن الهدف الأول والأخير لزعيم «دولة القانون» ليس محاربة «داعش» فحسب، بل تحويل هذه المحافظات ساحات اضطراب، ما يضمن له حصاداً كافياً في الانتخابات النيابية آخر الشهر المقبل يؤهله لولاية ثالثة في رئاسة الحكومة. وثمة دوائر تشير إلى أنه لا يزال خياراً ليس لإيران فحسب، بل لأميركا أيضاً. حتى الآن على الأقل! ولا حاجة هنا إلى ذكر تفاصيل الدعم الذي يقدمه إلى النظام في دمشق.
ولا تستهين واشنطن بالدور الذي تؤديه طهران في سورية. وهو دور مرشح للثبات إذا ساد اقتناع في أوساط صانعي القرار الإيراني بأن مواجهة روسيا الغربَ في أوكرانيا وفي سورية أيضاً، تشكل رافد دعم لسياساتهم في توسيع الهيمنة على المنطقة. فالجمهورية الإسلامية لم تبدِ أي مؤشر للتفاوض على مستقبل النظام في دمشق، بل هي تواصل استراتيجيتها السابقة على تفاهم جنيف الخاص بملفها النووي. تواصل اختراقاتها للمنطقة العربية. والعامل الرئيس الذي سيحول مستقبلاً دون انكفاء هذا التغلغل، أن إيران تحجم عن التدخل الفاضح المباشر. تقدم بدل ذلك كل أنواع الدعم المادي والتسليحي واللوجيستي إلى حلفائها من قوى محلية في دول المنطقة تشكل جزءاً من النسيج الوطني لمجتمعاتها. فكيف لليمنيين أن يتجاهلوا مواقف، أو رغبات الحوثيين وفريق واسع من أهل «الحراك» الجنوبي؟ وهل يخفي الحوثيون سعيهم إلى الاستقلال إذا تعذرت عليهم صنعاء؟ ومن لنظام الخرطوم يسانده في مواجهة الحصار الخارجي وحركات التمرد في الأقاليم غير طهران؟ أليست هذه حال معظم الفصائل في غزة التي ستزداد تشدداً بعد فشل جولات الوزير جون كيري المكوكية على أركان إسرائيل والسلطة الفلسطينية؟ أليست هذه حال لبنان الذي لا يمكنه الانطلاق في أي استحقاق أو سياسة من دون رافعة «حزب الله»؟ أليست هذه حال حليفها زعيم «دولة القانون» الذي تدفع سياسته بالعراق نحو التفكك؟ وتنسحب الحال على مواقع أخرى تتوزع على شاطئ الخليج الغربي وتتلقى دعماً من الجمهورية الإسلامية التي تجد أنه يحق لها ما يحق لروسيا في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما. لذلك، يستحيل تصور خروج إيران من سورية، «قلب العروبة» وقبله «درة التاج العثماني»، حتى وإن أدى ذلك إلى تفكيك كل ما رسمه السيدان بيكو وسايكس. أليس انتشارها «الديموغرافي» هذا هو القنبلة النووية الحقيقية لإيران؟ وما دامت أميركا تزداد انعزالاً وانكفاء، والعالم العربي يغرق في ضعفه، فلماذا لا يقدم خصومهم على ملء الفر اغ الذي تخلفه؟
يبقى أخيراً أن أنقرة لم ولن تكون غائبة هذه المرة عن معركة الساحل. فالحرب الدائرة في سورية تشكل لها هماً مقيماً. كان هدفها الأول، قبل «الربيع العربي» وما جر عليها، حماية المنطقة من التوتر والحروب الجديدة، لأن هدفها أن تتحول جسراً بين قارتين وبين عالمين. وأن تكون الممر الرئيسي لخطوط الطاقة نحو أوروبا من إيران وروسيا وآسيا الوسطى. وهي اليوم تراقب ما يجري في إقليم هاتاي حيث يشكل العلويون حوالى نصف سكانها. وتعي مدى معـــارضتهـــم أي تدخل في شؤون جيرانهم السوريين. وبالتأكيد لا يمكن تركيا التي حاربت وتحارب فكرة قيـــام دولة خاصة بالأكراد في كردستان العراق لما لــذلك من انعكاسات على وحدة أراضيها، أن تستسيغ فكرة قيام دولة للعلويين على حدود الاسكندرون تنعش أحلاماً دفينة لدى شريحة كبيرة من مواطنيها. تحالفت مع الرئيس بشار الأسد قبل اندلاع الأزمة وأبرمت معه حزمة من الاتفاقات بعدما تنـــازل لها رسمياً عن حق المطالبة بـ «اللواء السليب»! ولا شك في أن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة التي جاءت لمصلحة حزب العدالة والتنمية ستتيح لزعيمه حرية أوسع في التحرك وحتى التدخل عند الضرورة، إذا وجد في ذلك ما يعزز سيره نحو الرئـــاسة الأولى في انتخابات الصيف المقبل، أو على الأقل ليستعيد بعضاً من صدقيته إثر «العنتريات» الفارغة التي أطلقها في بدايات الأزمة السورية.
الحياة