تقدّم «الشرق أوسطية»
سليمان تقي الدين
نجح المشروع الأميركي في التأسيس لنظام «الشرق الأوسط الجديد» برغم الادّعاءات المعاكسة: ألغى النظام الإقليمي العربي السابق بالإجهاز على ما بقي من دور لجامعة الدول العربية. فرض تشكيل دوائر عربية أمنية واقتصادية وسياسية تتمثل في مجلس التعاون الخليجي، المغرب العربي، مصر ووادي النيل، المشرق العربي من لبنان إلى العراق.
فرض على المنطقة أن تتفاعل في إطار الخطاب الإسلاموي والمذهبي والقومي. صارت إيران وتركيا جزءاً من الفاعل الإقليمي الأساسي وصار الصراع السني الشيعي عنواناً من عناوين الصراع على هويتها الجغرافية والسياسية.
أعطى إسرائيل شرعية في هذا النظام لم تكن تحلم بها كطرف في النزاع العربي الإيراني والسني الشيعي، وأخرجها عملياً في المدى المنظور من دائرة الحصار وخفض إلى أبعد الحدود من صورتها في الصراع العربي الصهيوني.
أخرج مصر وظهيرها الأفريقي من الصراع القومي، وأدخل العراق وسوريا ولبنان في انقسامات إثنية وطائفية ومذهبية، وأسقط احتمال نشوء جبهة شرقية بأي معنى من المعاني في مواجهة إسرائيل. عطّل وظائف المقاومة وحوّر أدوارها وفكّك ترابطها وأفرغ العمق السوري من دوره كمدى استراتيجي أو كقاعدة آمنة لسياسة الممانعة أو المقاومة.
أطلق دور إيران في اختراق البنية العربية والمساهمة في تفكيكها من لبنان إلى العراق وسوريا والبحرين واليمن، وجعل من هذا الدور الإيراني أحد فكّي الكماشة الذي يطبق على السياسات العربية، فوضعها في خيارات صعبة بين الدور الإيراني والاحتماء بالدور الغربي.
قام بتشويه ثورات التغيير العربي واحتوائها وأغرقها في الصراعات الإقليمية والدولية من جهة وفي مواجهة الحركات الإسلاموية الوثيقة الصلة والارتباط والتوجيه والقيادة بمراكز النفوذ الخليجي والغربي وفرض على الثورات العربية تحديات جديدة من ضوابط التغيير إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
فهل يجوز إزاء هذه المعطيات الحديث عن فشل المشروع الأميركي ونجاح مقاومته؟!
لكن الأدهى من ذلك ما صار مؤكداً من وقوع المنطقة كلها في دائرة التجاذب الدولي والتفاوض على إعادة تشكيلها دولاً وأنظمة وموارد. حين تنتفض المملكة العربية السعودية في وجه الفوضى التي تحيط بها في العراق واليمن وتخترقها في البحرين، أو حين تُخرج فلسطين من جدول أعمال الدول العربية كلها، أو حين تنفتح ملفات الاستقرار الأمني والنزاع الطائفي في لبنان أو مصر أو سوريا ويتوسّع الانقسام العراقي، فهذه تداعيات للظاهرة الأساس التي تتلاعب في مقومات المجتمعات العربية وليس فقط دولها وأنظمتها.
إذا جاز الحديث عن مكاسب موضعية هنا أو هناك فإن تعميم أو تكبير مثل هذا الإنجاز ليس إلا وهماً من جهة وخطأ فادحاً من جهة ثانية. هناك متغيّر استراتيجي كبير جداً حصل في المنطقة لا يمكن التعامل معه إلا بالمنظور الاستراتيجي نفسه. ففي المدى الإقليمي لا يمكن صرف الإنجازات الإيرانية في وجه أميركا، إذا صح وصفها كذلك، كركيزة لمسار تطويري وتقدمي للمنطقة. ولا يمكن قراءة نتائج الأزمة السورية المتمادية في رصيد إيجابي لا بحساب إقليمي ولا بحساب شعبي إنجازاً. بل إن تلك الأزمة بدأت تراكم على تداعيات الحرب الأهلية وتشبك لبنان في حلبتها، وهذا اتجاه تدميري لكل إنجاز عربي أو لبناني.
بديهي أن يجري التحفظ على مشروع الاتحاد الخليجي بوصفه سعياً لإحباط ثورة الشعب البحريني وتشديد القبضة على أي حراك يطالب بالحريات لشعوب المنطقة. لكن البديهي أيضاً أن نرفض السياسة الإيرانية التي تظهر شوفينية في التعامل مع الخليج العربي بتأكيدها على فارسية الخليج، بما فيه الجزر الإماراتية والبحرين والتلاعب بكيان اليمن بدعم الحوثيين في الشمال وحراك الانفصال في الجنوب. فهذه سياسة تكشف نزوعاً إمبراطورياً لا نزوعاً للتعاون مع العرب في رفع الهيمنة الغربية عن المنطقة. فهذا «الشرق الأوسط الجديد» الذي يتكون الآن يحمل ملامح تقاسم نفوذ دولي وإقليمي وينطوي على مظالم فادحة بحق شعوب المنطقة وعلى استخدام انتهازي لمشكلاتها وقضاياها.
لهذه الاعتبارات لا بد من فهم أكثر موضوعية وصدقية للتطورات ومراجعة السياسات التي تتلبس المواجهة مع أميركا والغرب لتنتهي في التواطؤ معه في الأهداف البعيدة.
السفير