رشا عمرانصفحات الثقافة

الذات المركبة/ رشا عمران

 

 

غالبًا، حين أنشر على صفحتي الشخصية في الفيسبوك نصًا جديدًا عن النساء الوحيدات، تصلني رسائل “مواساة” عديدة من أصدقاء الصفحة، أو يكتب بعضهم تعليقات على النص، فيها تعاطف إنساني لطيف وودود، لكنه بعيد عن التقاط روح الشعر في النص، هذا طبيعي، إذ ليس الجميع من قراء الشعر المختصين، وتجربة الكتابة على الفيسبوك تنبه إلى القراءة التلصصية. ثمة تواطؤ بين أصدقاء الفيسبوك على الصفحة الشخصية، الصفحة الشخصية هنا تشبه دفتر المذكرات، نكتب فيه ما يخطر لنا ونحن موقنون أن لا أحد سيقرأ ما نكتب إلا المتلصصون، تشبه، للكاتب، أوراقه البيضاء التي يكتب نصه عليها ويتركها على طاولة في غرفة الجلوس، يمكن لأي زائر أن يقرأها. يحدث هذا معي، غالبًا ما أكتب نصوصي آخر الليل، أكتبها مباشرة على صفحتي، الليل يعطي الإيحاء بالسرية، الجميع نيام، هكذا يخيل إلي، لا أحد سينتبه إلى مكابداتي الليلية، هذه المكابدات التي لا أحكيها لأحد، أكتبها فقط، وأكتبها كنص شعري، ربما أنام بعدها، وربما أتغازل مع الأرق حتى أوّل الصباح.

في الليل أنا امرأة وحيدة، تنام على سرير لا يعرف رائحة أخرى غير رائحة جسدها، في بيت نادرًا ما يزوره أحد، ونادرًا ما يسمع فيه صوت غير صوت المسجل أو التلفزيون، هذه حالة لا تختلف كثيرًا عن العزلة، لها الشروط نفسها، غير أنها ليلية فقط، ربما هناك فارق أيضًا: غالبًا ما تكون العزلة متصاحبة مع الاكتئاب، هذا ما يجعل بعضهم يظن أنني بحاجة إلى التعاطف، كوني سورية، يجعل الأمر يبدو كاملًا: امرأة من سورية العائمة على الدم، تعيش في بلد ليس بلدها، وحيدة في أوّل خمسينيتها، الاكتئاب في هذه الحالة طبيعي، بل عكس الاكتئاب ما ليس طبيعيًا.

لكنني لست مكتئبة، ومكابداتي ليست على صلة مباشرة بكل ما سبق، ثمة حبل طرفه معقود هناك، بما سبق، غير أن طرفه الآخر أمسكه بيدي، وأعقده حيث أشاء، وأفك عقدته وقت أشاء، تلك هي التجربة، وهنا ما أسميه الاختبار.

سأعيد ما سبق بطريقة أخرى: أنا امرأة سورية في أوّل خمسينيتها، خرجت من بلدي بحثًا عن الأمان، خرجت ولم أعد، ولا توجد فرصة قريبة لأعود، لدي حيث أقيم العديد من الأصدقاء والكثير من المعارف، أخرج وأسهر وأرقص وأحب وأتسوق واقرأ وأكتب وأتابع الأخبار، لكنني في الليل أكون وحدي، وحدي تمامًا منذ ما يقارب الثلاثة أعوام، لأوّل مرة في حياتي، في مدينة هائلة المساحة والازدحام، أدرك معها أنني لو أصبت بطارئ صحي ما، قد أموت قبل أن يسعفني أحد، أدرك أيضا أنني قد أموت ولا ينتبه أحد. أليست هذه الوحدة المباغتة فرصة متاحة لي لاختبار المعنى الحقيقي للعزلة بعيدًا عن مسبباتها النفسية؟ بهذا المعنى ما أفعله أنا في نصوصي الليلية على الفيسبوك، هو الانتباه إلى تفاصيل العزلة التي قد تعيشها نساء وحيدات لهن ظرفي نفسه تقريبًا، النساء الخمسينيات، اللواتي تركن خلفهن معظم حياتهن، حيث لم يعد ثمة أمل في حدث كبير يمكنه أن يسبب تغيرًا عاطفيًا ونفسيًا إيجابيًا، وحيث العيش هو في الوقت القليل المتبقي؛ قد يقول أحد: لكن هذا طبيعي، هذه هي الحياة، نعم هذه هي الحياة، وهو ما يجعل من عزلة كهذه فكرة ذهنية لا نفسية، تفاصيلها مبعثرة ومشتتة، يجمعها الخيال، وتلملمها اللغة بعلاقاتها البسيطة والمركبة؛ قد يقول أحد أيضًا: لكن هذا يبعد الصدق عن النص، فالكتابة إن لم تكن مغمّسة بالتجربة الشخصية الحياتية تفقد كيمياءها، نعم، أيضًا صحيح، لكن من قال إن التجربة الذهنية ليست تجربة حياتية بطرف كبير منها؟ ومن قال إن شعور الوحدة لا يمر بنساء يعشن وسط صخب عائلاتهن وأصدقائهن وعالمهن؟ أنا واحدة من تلك النسوة، اللواتي ينتبهن إلى وحشتهن في أكثر الأماكن صخبًا وازدحامًا، ما أفعله هو أنني ألتقط التفاصيل المحيطة بوحشتي اللا مرئية، وأحولها إلى نص شعري عن النساء الوحيدات، أجعل من الوحشة حالة مرئية وواضحة وفاضحة، وأستند إلى اللغة التي ليست هنا سوى حياتي، حياتي الشخصية والمعرفية، وخلاصة ما راكمته ذاكرتي عن النساء الوحيدات في الحياة وفي الأدب، لهذا، ربما، ترسل لي صديقات أعرفهن شخصيًا وآخريات أعرفهن عبر الفيسبوك، رسائل تخبرني أنني أكتب عنهن، أكتب ما يفكرن به ولا يجرؤن على الإفصاح عنه، غالبية تلك النساء يعشن مع عائلاتهن، لسن وحيدات بالمعنى المادي، لكنهن مشبعات بالعزلة الذهنية والنفسية، هكذا، تصبح سرّية كتابة النص الليلية على الفيسبوك حالة تواطؤية، ليس مهما معها روح الشعر للقارئ/ة المتلصص/ة، بقدر أهمية ما تكشفه من المخفي لديه/ا، هكذا أيضًا: ليس من ذات مفردة لكاتب النص، ذاته هي ذوات الآخرين، أو ذوات بعضهم على الأقل.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى