تنظيم استجوابات الغباء وتعميمها: عزيز تبسي
عزيز تبسي *
لا تكف إدارة التلفزيون، الجهاز الأيديولوجي الأكثر تعبيراً عن سطحية الأنظمة وتسويقاً لمبتذلات أفكارها، عن إظهار الناس بصفة الأغبياء، وكمادة صلصالية قابلة للتقولب مع المتطلبات الأيديولوجية للسلطة الحاكمة، بحسب راهنية الصراعات التي تخوضها، حين يسألهم المذيعون الأنيقون، متدفقو الكلام، عن الطائفية على سبيل المثال. تراهم بعدها على الفور، مرعوبين كطرائد مسالمة أمام اندفاعة كواسر لا مرئية. تجحظ عيونهم ويتبدى نقص الأوكسجين في رئاتهم، وسرعان ما تندس أكفهم المرتعشة في جيوبهم أو محافظهم الجلدية، كأنما الجواب عالق هناك، ملتفتين حولهم كذلك، باحثين في وجوه الطوق البشري الذي يحيط بهم عمن ينجدهم بالإجابة. وأخيراً ينطقون بما يشبه الهتاف: لم أسمع بها/ لا أعرفها على الإطلاق/ بالكاد سمعت بها. وبعضهم يرفع ذراعه لينظر في الساعة، كأنما ليؤكد أنه سمع بها من بضع دقائق… وحينما يتدخل المذيعون لنجدتهم، تراهم وقد وقفوا جميعاً في صف واحد، كأنهم ينظرون من نافذة تطل على فضاء خارجي واسع، في إشارة أنها أتت من هناك. لكن سرعان ما تنقلب أحوالهم حين يسألونهم عن الأنهر في نيجيريا، فيعددونها بمهارة وإتقان أساتذة الجغرافيا الثقاة، ويسترسلون لتعداد أنواع الأسماك التي تعيش فيها والنباتات التي تنبت على ضفافها. وتنطلق ألسنتهم وكأنما قد حصلت للتو على حريتها، للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالاغتيالات التاريخية التي لم يُكشف منفذوها بعد، فتراهم يلهثون لتحديد الجهة المنفذة بلهفة جنائية واثقة وخبيرة.
****
يتوفر دائماً من «باع» ضميره ومن «أجره» كذلك، ويكرر المستجوبون التعبير الذي حددته السلطة منذ زمن طويل، في وصف هؤلاء بـ«أصحاب النفوس المريضة»، الذين لا تخلو منهم بلد. تعكس تلك الإستقصاءات حالة الإنكار للحقائق، وتعبر عن استهزاء بسلسلة طويلة منها، تبدأ بالمناهج التعليمية، حيث التربية الدينية مادة مدرجة فيها من الصفوف الأولى حتى الصف الذي يسبق دخول الجامعات أو المعاهد. وتجاهل لأنماط التوزع السكاني على الأحياء، حيث العديد منها له سماته الدينية أو الطائفية المميزة، ووجود دور العبادة برمزيتها وإشاراتها، وأنماط اللباس التي تشير لجماعات مختلفة الهوية، والمتطلبات القانونية التي تفرد بنداً توضيحياً عن الدين، ومحاكم خاصة بالأحوال الشخصية، والتوسع في ترخيص المؤسسات التعليمية ذات السمات الدينية المتمايزة. ويرافق هذه الحقائق ثقل الخطاب الشفهي والاستجوابات المنبثقة عنه، والتي يواجهها كل من يتقدم لطلب وظيفة عامة أو خاصة. لا عيب أو مشكلة في وجود جماعات سكانية من أصول دينية أو قومية متمايزة، هي حصيلة لسيرورات بعيدة في التاريخ تحمل في أعماقها عقائد وطقوسا وعادات وأنماطا في الإنتاج والحياة والسلوك والعلاقة مع الطبيعة. تبقى المشكلة في نمط الرأسمالية التابعة التي يتثبت عجزها عن تضييق هذه التمايزات وإعادة دمجها في مشروع وطني، عبر تقويض كل المعوقات الحقوقية التي ترسخ هذه التمايزات، وإظهار بعدها التاريخي، وكذلك قابليتها لتغيير مظاهرها وتعبيرها عن نفسها، مثلها في ذلك مثل الكثير مما يتخيل أنه من الثوابت، كالعادات والتقاليد وأنماط السلوك وحتى الطعام واللباس والغناء… وهذه المهام يمكن تحققها بإرساء أسس للمواطنة المتساوية تشمل حزمة من الحقوق والواجبات في العمل والإنتاج والطموح والجدارة، والاختلاف ،لا بالاستثمار الواعي لأهدافه في هذه التمايزات، بإعادة تنضيدها وإحياء ميتها وإيقاظ نائمها، والاكتفاء بمراقبتها للاستثمار المبصر فيها مع لزوم إغفال الحديث عنها، وكأنه إيذان بفقدان أيديولوجية السلطة الحاكمة لقيمتها العمومية.
****
يتحلق حول كاميراتهم رجال ونساء من الذين أو اللواتي اعتادوا الحصول على أسئلة الامتحان قبل أوانها، لتحضير إجاباتها بمساعدة مدرسيهم، مبشَرين بجنة الكليات الجامعية النخبوية، التي تسبق بعثاتهم إلى الخارج، ليعودوا بعدها ببرادعهم الثقيلة إلى جغرافيا البيروقراطية الإمتيازية المغلقة. لهؤلاء الموسومون بوشم العلمية أدوار مرسومة في ظاهرها بأقل بلاهة وغباء، مؤهلون للإجابة عن كل الأسئلة التي تطرح عليهم، وللعودة الدائمة إلى محطة يرونها ضرورية: إثبات نظافة السلطة ومناعتها عن الضلال، رغم وساخة كل ما يحيط بها، بمن فيهم الشعب الذي لم يلتزم بجدول اللقاحات الذي تنظمه الوزارات المعنية، ضد الأمراض الثورية السارية، متفلتاً من أسوار انضباطه. متفاخرون بملكات الفراسة والحدس التي تؤهلهم لمعرفة ما تحويه بيضة الدجاج فور النظر إليها، إن كانت بصفار واحد أم بصفارين، لكنهم عاجزون كذلك عن معرفة أسباب خروج الشعب إلى الثورة. قد يخضعون أحيانا لقوة الوقائع ، ويتفهمون ذلك في أربعة أطراف الأرض، ولكن ليس في البلد الذي يتحدثون من وسيلة إعلامه. ولا يكفون عن ترديد العبارة الأثيرة التي تشير الى أن السياسة «علم وفن»، في إشارة ضمنية الى أن عنصريها هذين في حيازتهم وحدهم، وأن العامة لا يملكون منهما شيئاً. لكن ماذا لو قلنا لهم أن كرة القدم تحمل سمات التعريف نفسها إياها، فهي كذلك «علم وفن»، والموسيقى كذلك «علم وفن»…الخ، ليتوجب عليهم بعدها إقامة الفروقات بينهما وبين السياسة، التي لم تكن يوماً سوى صراع واضح الملامح، أو محجب بطبقات من الأيديولوجيا البائتة، وخيال يسكن العامة، لا تلبث أن تنطلق جمالياته في الفعل العمومي الخلاق الذي يسمى كرمى لهم/هن: ثورة.