توثيق البدايات … الحرّيّة والعقاب/ حازم صاغيّة
حين دخلت الثورة السوريّة طور العسكرة، سارع أعداؤها وخصومها إلى صوغ نظريّة مفادها، ولو بلغات وطرق شتّى، أنّ هذه العسكرة كانت مقرّرة سلفاً. بهذا كانوا ينفون دور العنف الذي أدّى إلى العسكرة، أو يخفّفون من أثره. ما لا شكّ فيه أنّ كثيرين من السوريّين الذين عارضوا النظام آمنوا بهذه العسكرة وسعوا إليها، كما أنّ أنظمة ناهضت، لأسبابها الخاصّة، نظام بشّار الأسد، سارعت إلى تقديم السلاح والحضّ على استخدامه. لكنّ العنصر الحاسم، الذي لولاه لم يكن لأيّ من العنصرين السابقين أن يؤثّر، فكان عنف النظام الذي خنق سلميّة الثورة في وقت مبكر نسبيّاً (وكان إطلاق سراح المساجين الإسلاميّين عاملاً مكمّلاً في هذه العمليّة).
«قصّة مكان– قصّة إنسان: بدايات الثورة السوريّة 2011- 2015» عمل توثيقيّ، يوفّر أرضاً صلبة لتأريخ الثورة السوريّة، ويجيب عن أسئلة عدّة في عدادها سؤال العنف والعسكرة الذي ستقتصر هذه المراجعة عليه. فمن خلال رصد طال 50 حالة في 50 مدينة وبلدة وقرية، يتبيّن كيف سارع الرصاص إلى مسابقة التحرّك السلميّ. والأسطر هذه ستستعيد بضع عيّنات تنتشر على مدى الخريطة السوريّة ممّا حمله هذا الكتاب الصادر بالعربيّة والإنكليزيّة، والذي أصدره فريق عمل أدارته وأشرفت عليه سنا يازجي، ونشره موقع الذاكرة الإبداعيّة للثورة السوريّة ومؤسّسة فريدريش إيبرت الألمانيّة.
كيف بدأ كلّ شيء؟
في مدينة إدلب خرجت المظاهرة الأولى في 20/4/2011 من جامع الروضة، لكنْ في 15/7/2011، وفي «جمعيّة أسرى الحرّيّة»، أطلق الرصاص الحيّ على المتظاهرين وسقط الشابّ محمّد سيّد عيسى. وفي 25/7، وردّاً على إطلاق عناصر الشبّيحة النار على سيّارة، ما أدّى إلى مقتل سيّدة وإصابة أحد أبنائها، انطلقت مظاهرات حاشدة تستنكر استخدام السلاح ضدّ المدنيّين. ثمّ في 4/8، اعتصم أكثر من أربعة آلاف من نساء المدينة أمام قصر العدل مطالبات بالحرّيّة لأبنائهنّ المعتقلين، فاعتقلت قوّات النظام خمس نساء من المعتصمات. وإذ خرج الأهالي تضامناً، أطلقت قوّات الأمن النار عليهم.
وفي حيّ بابا عمرو، في مدينة حمص، خرجت المظاهرة الحاشدة الأولى في «جمعة الصمود» في 8/4/2011، وكانت الهتافات للحرّيّة مع ترداد شعارات «حرّيّة… حرّيّة» و «الله، سوريّا، حرّيّة وبسّ». لكنّ قوّات الأمن استخدمت الرصاص الحيّ وسقط الشابّ نايف العمر قتيلاً. واستمرّ الأهالي في مظاهراتهم السلميّة التي لم يتردّد النظام في قمعها جميعاً بالقوّة، لا سيّما في 22/4 حين سقط عدد كبير من الضحايا واعتُقل عدد كبير آخر من المتظاهرين. وفي أوائل شباط (فبراير) 2012، بدأ الحصار الأشدّ لبابا عمرو إذ اعتبر النظام أنّ الحيّ يؤوي أكبر تجمّع للجنود المنشقّين.
والتجربة تتكرّر في بانياس حيث خرجت أولى المظاهرات من جامع الرحمن في «جمعة الكرامة» في 18/3/2011 حيث شارك نحو خمسة آلاف متظاهر هتفوا للحرّيّة. وتتالت المظاهرات وازداد عدد المشاركين فيها. لكنْ في 10/4 سقط الشابّ أسامة الشيخة برصاص قوّات الأمن، وفي اليوم التالي، 11/4، اقتحم عناصر من الشبّيحة قرية البيضا في ريف مدينة بانياس واقتادوا جميع الرجال وساقوهم إلى ساحة القرية حيث نُكّل بهم بطريقة وحشيّة وأُجبروا على الهتاف لبشّار الأسد. وفي 13/4 تظاهر أكثر من خمسة آلاف من نساء بانياس وريفها حاملات الورد ومطالبات بإطلاق سراح رجالهنّ المختطفين. وفي صبيحة 3/5 بدأ اجتياح المدينة وشُنّت حملة اعتقال عشوائيّة.
وفي برزة البلدة، الحيّ الواقع شمال شرق العاصمة دمشق، شارك الناشطون في مظاهرة سوق الحميديّة في 15/3/2011، كما في مظاهرات دوما. لكنْ في «جمعة العزّة» في 25/3، خرجت أوّل مظاهرة في الحيّ من جامع السلام، وطالب المتظاهرون بالحرّيّة داعين إلى نصرة أهل درعا، ثمّ توالت المظاهرات إلى أن قمعها الأمن في 22/4، إذ أُطلق الرصاص الحيّ على المتظاهرين واعتقل عدد كبير منهم، فسقط خمسة من أبناء الحيّ في عدادهم الشابّ كمال بركات. مع ذلك استمرّ التظاهر السلميّ أيّام الجُمع وتكرّر القمع والاقتحامات.
وفي بستان القصر، أحد الأحياء الغربيّة لحلب القديمة، وجنوب غرب حلب الحديثة، كانت المظاهرة الأولى في 2/8/2011. خرج المواطنون من جامع حذيفة بن اليمان نصرةً لمدينة حماة. وفي 25/5/2012، وكانت مظاهرة بأعداد كبيرة لتشييع الطفل أمير بركات، أطلقت النار على المتظاهرين لمنعهم من الوصول إلى ساحة سعد الله الجابري، وسقط ثلاثة ضحايا على الأقلّ.
مدينة بنّش التي تقع شرق مدينة إدلب، خرج أهلها في 1/4/2011 في أوّل مظاهرة لهم، وذلك في 1/4 في «جمعة الشهداء» نصرةً لمدينة درعا. تتالت مظاهراتهم إلى أن كان يوم 15/7 حيث سقط الشابّ وجدي صادق في حيّ القابون الدمشقيّ. في 9/8 اقتُحمت المدينة، ثمّ كان القصف الذي تُوّج، عام 2013، بالبراميل المتفجّرة والقنابل العنقوديّة.
أمّا قرية بيضا، غرب سوريّة على المتوسّط، فخرجت مظاهرتهم الأولى في 18/3، وكان في مقدّمها الناشط أنس الشغري. لكنْ في 10/4 بدأ إطلاق النار الذي قضى من جرّائه الشابّ محمّد سليمان، وفي 11/4 اقتُحمت البيضا وسيق رجالها إلى ساحة القرية حيث التنكيل والإذلال وفرض الهتاف للأسد. ولامتصاص الغضب الدوليّ الذي أثارته الصور، عُزل أمجد عبّاس، رئيس قسم الأمن السياسيّ في بانياس، الذي ظهر في الفيديوات المسرّبة وهو يدير عمليّة التعذيب. أكثر من مئتين من رجال البلدة اختُطفوا كما نُهبت المنازل والمحالّ التجاريّة.
في تدمر، المدينة الأثريّة الشهيرة في وسط البادية، شرق سوريّة، حيث أسوأ السجون الأسديّة إن لم يكن الأسوأ، خرج الأهالي في 10/4/2011 لتشييع المجنّد محمّد عوض القنبر الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين في درعا، فقُتل. واستمرّت المظاهرات في أيّام الجُمَع إلى أن كانت «جمعة بشائر النصر» في 19/8 فأُطلق الرصاص الحيّ على المتظاهرين واستُنفر القمع والاعتقالات الواسعة ضدّ السكّان، وصولاً إلى حصار تدمر في شباط (فبراير) 2012.
أمّا في بلدة تلبيسة، شماليّ مدينة حمص، فتظاهر السكّان في «جمعة العزّة» في 25/3/2011، ثمّ خرجوا في «جمعة الشهداء»، مشيّعين الشابّ سامي حويري، وهو من تلبيسة، وهاتفين «يلّي بيقتل شعبه خاين». في 29/5 اقتحمت دبّابات النظام البلدة. ومن حيّ جوبر، شرقيّ العاصمة دمشق، خرج السكّان في «جمعة الإصرار» في 15/4/2011 مطالبين بالحرّيّة، وللتوّ أُطلقت النيران عشوائيّاً عليهم. وفي «الجمعة العظيمة»، ومع بدء الآلاف من سكّان الغوطة الشرقيّة الزحف إلى جوبر للوصول تالياً إلى ساحة العباسيّين، نُصبت الحواجز ثمّ انهمر الرصاص، فسقط من أبناء جوبر الشابّان عمر الحمصي ونزار الفيومي، إضافة إلى عشرات الجرحى وإلى اعتقال عدد من المتظاهرين.
وأمّا مدينة الحسكة، في الشمال الشرقيّ من سوريّة، فكان أحد شبّانها، حسن عقلة، قد أحرق نفسه قبل اندلاع الثورة، على غرار ما فعله التونسيّ محمّد البوعزيزة، احتجاجاً على ظروفه القاسية وعدم قدرته على إكمال دراسته الجامعيّة. وهناك، خرجت أوّل مظاهرة يوم «جمعة الصمود» تلتها مظاهرة ثمّ تمرّد نفّذه السجناء الذين لم يشملهم عفو أصدره الأسد. هكذا اقتحمت قوّات الأمن السجن في حزيران (يونيو) وأطلقت النار بكثافة على السجناء، وهو ما تكرّر مع مظاهرة انطلقت في تشرين الثاني (نوفمبر).
وفي «جمعة العزّة» جاء دور حلب، وتحديداً منطقة الشعّار، وفي 4/5 تظاهر طلاّب المدينة الجامعيّة، وفي 17/5 رفعوا علم الثورة فوق البناء الجامعيّ. وبلغت التظاهرات أوجها في 30/6، وهو اليوم الذي أسمي «بركان حلب». لكنْ ما هي إلاّ أشهر حتّى راح الموت يحصد الضحايا بالعشرات. وأيضاً تظاهرت مدينة حماة للمرّة الأولى في «جمعة العزّة»، ثمّ راحت تكرّ المظاهرات. وفي 22/4 سقط الشابّان أمير طقم وصهيب سوتل وتصاعدت الأمور فنظّم أهالي حماة أنفسهم ونزلوا بأعداد كبيرة نقلت مظاهرات الثورة إلى مرحلة أعلى، فتوجّه في 3/6 مئات الآلاف إلى ساحة العاصي في «جمعة أطفال الحرّيّة» وهتفوا للحرّيّة والكرامة، وكانت مقتلة سقط فيها ضحايا بينهم أطفال، وتفاقمت الأمور إلى أن كانت «جمعة ارحل» حيث تظاهر نصف مليون. ولأنّ السلطات المحلّيّة لم تطلق النار يومذاك، في واحد من الاستثناءات القليلة، أقيل محافظ حماة أحمد عبدالعزيز، وانفجرت الأمور.
أمّا حمص، «عاصمة الثورة»، فخرج أبناء أحد أحيائها، حيّ الخالديّة، في «جمعة العزّة»، فاستُخدم ضدّهم العنف الشديد، وراحت تتكاثر الإصابات كما تتكاثر المظاهرات إلى أن سقط الشابّ خالد العويد، في 11/4، فاشتعلت المدينة بالمظاهرات النهاريّة والمسائيّة. وفي 18/4، وإذ خرج الأهالي لتشييع سبعة مدنيّين سقطوا قبل يوم واحد في حيّي باب سباع والخالديّة، وهي المظاهرة التي استقطبت عشرات الآلاف، بدأ العمل بسياسة فصل أحياء المدينة عن بعضها بالحواجز الإسمنتيّة.
وفي درعا التي ابتدأ فيها كلّ شيء يوم 25/2، حين كتب التلاميذ على الجدران الشعارات المستوحاة من أجواء الثورتين التونسيّة والمصريّة، أمر رئيس فرع المخابرات السياسيّة في درعا، عاطف نجيب، ابن خالة بشّار، باعتقال 21 تلميذاً خضعوا للتعذيب الشديد. ولئن اعتصم الأهالي في «جمعة الكرامة»، في باحة المسجد العمريّ، مطالبين بإطلاق سراح أبنائهم، فُتحت النيران عليهم وسقط الشابّان محمود جوابرة وحسام عيّاش.
وفي الرقّة، وقبل انفجار الثورة، خرجت مظاهرة في 26/1 احتجاجاً على مقتل جنديّين كرديّين في ظروف غامضة، ثمّ في «جمعة العزّة» تظاهر أهل الرقّة، وهو ما كرّروه من دون أن يتعرّض لهم رجال الأمن خوفاً على تحالفات النظام مع رؤساء العشائر. لكنْ في 16/8 حين اعتصم محامون ومحاميات أمام نقابة المحامين نصرةً للمدن المحاصرة، اعتُقل عدد منهم. وبعد الإعلان عن يوم «بركان الرقّة» في 15/12 (الذي لم تحل دونه زيارة الأسد والمفتي أحمد حسّون للمدينة في 6/11)، تصدّى رجال الأمن للمتظاهرين بالسلاح الحيّ فأصيب متظاهرون واعتُقل آخرون منهم. وإذ خرج أهل السلميّة في 25/3 مطالبين بالحرّيّة ومكافحة الفساد، ثمّ توسّعت المظاهرات في أيّام الجُمع، لجأ النظام إلى حملة مداهمات واعتقالات تعسّفيّة متكرّرة، ومنع الماء والكهرباء والمحروقات عن المدينة، لينشر من ثمّ حواجزه العسكريّة الكثيفة فيها. وانتفضت مدينة اللاذقيّة في «جمعيّة العزّة»، وفي التفريق العنيف للمتظاهرين سقط الشابّ مصطفى بايزيد. وتكرّر الأمر في اليوم التالي وتكرّر القمع واتّسع فسقط 12 ضحيّة وجرحى كثيرون.
ماذا كانوا يفعلون؟
الفريق الذي أنتج هذا الكتاب اعتمد على عدد واسع من المراجع، منها 1968 شريط يوتيوب، و260 صفحة فيسبوك، و220 موقعاً إلكترونيّاً، وبعض شهادات لسكّان تلك الأمكنة، عدا الكتب وتقارير الهيئات الدوليّة ومواقع إعلاميّة ورقيّة أثبتها فهرس المراجع. وفي الصورة التي تجليها تلك المراجع يتبيّن ما الذي كان يفعله، في تلك الغضون، أولئك الذين طالبوا بالحريّة فانهال عليهم الموت. إنّهم لم يكونوا يتدرّبون على السلاح، ولا كانوا يطلقون رصاصاً لا يملكونه.
كانوا ينشئون التنسيقيّات ومجالس الإدارة المحلّيّة لتسيير الخدمات العامّة التي لم تخل منها أيّة رقعة تظاهرت وانتفضت.
ناشطو إدلب أسّسوا «وكالة إدلب الإخباريّة» و»إدلب برسّ»، بالعربيّة والإنكليزيّة، إضافة إلى مجموعة «عدسة شابّ إدلبيّ» التي وثّقت مراحل الثورة في المدينة، كما أُطلقت عدّة إذاعات منها: «راديو فرش» و»إذاعة ألوان»، إضافة إلى مجلّة «زيتون» وصحيفة «النبأ». وفي الذكرى الأولى للثورة في 2012، صدرت مجموعة طوابع أصدرها عمّار البيك، وأهدي طابع منها إلى أحمد عبدالوهاب، من محافظة إدلب، وهو الذي قال: «أنا إنسان… ماني حيوان» التي أصبحت من شعارات الثورة.
وفي بابا عمرو حيث ظهر مشفى محلّيّ، وثّقت «عدسة شاب حمصيّ» واقع الحيّ والدمار الهائل الذي أصابه. وتميّز الحراك السلميّ في حمص عموماً، وبابا عمرو خصوصاً، بحسّ الدعابة، فأنشأ ناشطون صفحة مختصّة بالكوميديا السوداء باسم «مغسل ومشحم حمص الدوليّ للدبّابات». أمّا في الخارج فقدّمت «فرقة الدبّ السوريّ» أغنية «البطّة في بابا عمرو» المستوحاة من زيارة بشّار الأسد إلى الحيّ عام 2012. كذلك صدر عدد من الأعمال القصصيّة والسينمائيّة التي توثّق سنوات الثورة في الحيّ، ابتدأتها رواية «أيّام في بابا عمرو» لعبد الله مكسور في 2012. وأقام ناشطو بانياس «المكتب الإعلاميّ» و «عدسة شابّ بانياسيّ» لتوثيق الأحداث بالصور. وقدّم عدد من الفنّانين أعمالاً مستوحاة من مذبحة بانياس، منهم ديلاور عمر ووسام الجزائريّ وأليس الخطيب وديمة الملكة، إضافة إلى بعض أعمال الغرافيتي التي زيّنت المدينة، ومنها «انتبه… أنت في بانياس لا في إسرائيل»، كما صدرت مجموعة طوابع عن الثورة منها طابع لأحمد البيّاسي الذي شهد مقتلة البيضا وتجرّأ على تكذيب إعلام النظام بأنّ المقتلة حصلت في العراق.
وأنشأ ناشطو برزة مركزاً طبيّاً وشُكّل فريق دفاع مدنيّ لتقديم العناية الطبّيّة للجرحى وإخلائهم في أثناء القصف وإطفاء الحرائق الناتجة عنه. وعمل «مكتب الإغاثة» على تحسين الوضع الإنسانيّ للأهالي، إضافة إلى توفير مشاريع لتشغيلهم. وأسّس الناشطون أيضاً «المكتب التعليميّ» وفريقاً حمل اسم «بلدي» ساهم في دفع التعليم وإقامة النشاطات الترفيهيّة للأطفال، كما أقيمت صفحتا «الرجل البخّاخ» و «صور الثورة السوريّة في حيّ برزة الدمشقيّ» بهدف التعريف بنشاطات الثورة عبر الصور.
وفي بستان القصر، نشأ «مجلس حيّ بستان القصر والكلاسة» و «أحرار بستان القصر والكلاسة»، بينما اهتمّت مجموعة «عدسة شابّ حلبيّ» بتوثيق الأحداث بالصور. وفي الذكرى الثالثة للثورة، نظّم تجمّع «أنا سوريّ» حملة «لأنّ الحيطان بتحكي ثورة»، كما قدّم مسرحيّة «حكاية وطن». وضمن فاعليّات كرنفال الثورة، قدّم أبناء الحيّ مسرحيّات عدّة في الهواء الطلق. وأطلق ناشطو بنّش مبادرات مدنيّة قدّمت عدداً من المشاريع الخدميّة والاجتماعيّة للأهالي، و»المكتب الإعلاميّ»، و»عدسة شابّ بنّش». وأصدر تجمّع طلبة بنّش مجلّة «كلمات ثوريّة»، ونظّم المظاهرات السلميّة في المدينة، كما أنتج عدّة أفلام قصيرة منها «شعب» و «سوزوكي الحرّيّة» بالمشاركة مع «مشروع كيّالي» و «مؤسّسة الشارع للإعلام والتنمية»، إضافة إلى مسرحيّة «حبر ع ورق». من أبرز أعضاء التجمّع مؤسّسة الشابّ باسل سلات الذي قضى مع عدد من رفاقه الذين كانوا يخرجون لإسعاف المصابين وانتشال الجثث من تحت الأنقاض في أثناء قصف النظام للمدينة. وحتّى 2014 استمرّت هذه الأنشطة، فأُطلقت حملة بعنوان «ثورة-عمل-بناء-أمل» شجّرت المدينة وطلت جدرانها باللون الأبيض.
وفي قرية بيضا، أطلقت صفحة «كلّنا أنس الشغري»، الناشط الذي اعتُقل، لتنقل أخبار القرية. وحازت المذبحة التي تعرّضت لها القرية على حيّز مهمّ من أعمال فنّانين تشكيليّين كهمام السيّد وأمجد وردة، كما أنتجت مجموعة أبو نضّارة فيلماً قصيراً بعنوان «غياب الله»، وصدرت مجموعة طوابع منها واحد مهدى إلى أحمد البياسي.
وفي تدمر أُصدر طابع خاصّ بالمدينة من ضمن مجموعة طوابع عن الثورة. كذلك صدرت كتب تروي جحيم المعتقلين في سجن تدمر، أو تتناوله على نحو موسّع، كـ «رحيل إلى المجهول» لآرام قره بيت و «بالخلاص يا شباب» لياسين الحاج صالح. كما أُنتجت عن السجن نفسه أفلام وثائقيّة منها «مملكة الجحيم» لمحمّد منصور وعبيدة البطل. وأنشأ ناشطو تلبيسة لجنة الخبز لدعم مادّة الطحين في البلدة، كما صدرت مجلّة «حضارة الثورة» وصحيفة «أحفاد خالد»، إضافة إلى صفحة «عدسة تلبيسة» التي وثّقت حال البلدة بالصور. وفي تلك البلدة، استمرّت المدارس البديلة في تعليم الأطفال في ظروف بالغة الصعوبة، كما قدّمت اليونيسيف مشروعاً لدعم التعليم. كذلك أقيم معهد للتمريض يسدّ الحاجات التي فرضتها ظروف الثورة. وفي جوبر، أقيمت هيئة دفاع مدنيّ ومكتب إعلاميّ، وظهرت جريدة «أحرار جوبر» وصفحتا «جوبر عين الحدث» و «عدسة شابّ دمشقيّ» اللتان نقلتا ووثّقتا بالصورة أحداث الحيّ. وأشرف «مكتب جوبر التعليميّ» على التدريس في مدرسة «بيارق الأمل للأطفال»، كما قدّم المركز دورات تدريب مهنيّ للكوادر.
وفي الحسكة، نشأت «الحسكة [حيّ] غويران الحدث» لنقل أحداث المدينة وتوثيق حراكها، إضافة إلى «تجمّع طلبة الحسكة الأحرار» و «مركز الاتّحاد الصحفيّ» و «المركز الإعلاميّ في الحسكة». كذلك صدرت مجلّة «شار» بالعربيّة والكرديّة وتناولت شؤون التعايش والسلم الأهليّ. وأُسّست في حلب تنسيقيّات عدّة، كما أقيم «الاتّحاد الطبّيّ للعناية بالأوضاع الصحّيّة للأهالي». وظهرت شبكتا «حلب نيوز» و «حلب الآن» الإخباريّتان اللتان غطّتا أحداث الثورة من قلب المدينة، كما ظهرت مجلاّت وصحف عدّة منها صحيفة «النبأ» ومجلّات «غار حلب» و «أنا حلبيّ شريف» و «جامعة الثورة» التي أصدرها طلاّب جامعة حلب. وولدت مبادرات في مجالات الثقافة والتعليم، فإضافة إلى نشاطات «منظّمة الحراك السلميّ السوريّ في حلب»، التي أقامت ورشات عمل عدّة تتّصل بالتعليم والتطوير المهنيّ، كان هناك «مركز حلب للصحافة»، وتجمّع «أنا سوريّ» الذي أقام «معرض حكايا الثورة»، وكذلك «عدسة شابّ حلبيّ» و «شاهد عيان» اللذان وثّقا مراحل دمار المدينة، كما نظّم عدد من الشبّان حملة «أنقذوا حلب». وتميّز الناشط الإعلاميّ والفنّان المنشد عبد الوهاب المُلاّ، الملقّب بـ «بلبل حلب»، بأغانيه الثوريّة وأعماله الكوميديّة، مثل مسلسل «هادا كلّ شي صار» وبرنامج «ثورة 3 نجوم» الذي عرض فيه أخطاء الثورة ومشكلاتها، لتخطفه «داعش» في وقت لاحق. كذلك أنجز بعض الفنّانين الهواة مسلسلاً دراميّاً يعكس مصاعب الحياة بعنوان «أمّ عبدو»، وكان جميع أبطاله من الأطفال الذين صوّروا المعاناة في مدينتهم، كما قُدّمت أفلام قصيرة كان أبرزها من إنتاج «بدايات» و «دولتي» و «مؤسّسة الشارع للإعلام والتنمية».
واشتهرت حماة بالأهازيج الثوريّة التي انتقلت إلى بقيّة المحافظات وسُمّيت بالقاشوشيّات، نسبة إلى ابراهيم القاقوش، ومن أشهرها «يا الله ارحل يا بشّار» و «سوريّا بدّا حرّيّة» التي صدحت في سبيكرات الحرّيّة خلال إضراب الكرامة، كما ألّف الموسيقار مالك جندلي، ابن حمص، «سيمفونيّة القاشوش». كذلك اشتهرت حماة بالكاريكاتور، فعُرف الرسّام أكرم رسلان الذي اعتُقل في تشرين الأوّل (أكتوبر) لنشره رسومات انتقدت بشّار ونظامه وأُعلن لاحقاً عن وفاته تحت التعذيب فيما مُنح «جائزة الشجاعة» لعام 2013 التي قدّمتها «شبكة حقوق رسّامي الكاريكاتير الدوليّة- كرني». وأنتجت «مؤسّسة كبريت» عدّة أفلام وثائقيّة عن مجزرة حماة عام 1982، منها «حماة: ثورة تغيير لا ثورة انتقام»، أمّا «مؤسّسة الشارع للإعلام والتنمية» فأنتجت فيلماً بعنوان «تهريب 23 دقيقة ثورة» عام 2011. وفي الذكرى الأولى لمذبحة «جمعة أطفال الحرّيّة»، رمى ناشطون من «اتّحاد طلبة سوريّة الأحرار، فرع حماة»، كرات رُسم عليها علم الاستقلال في مجرى نهر العاصي.
وأقام شبّان حمص «مجلساً لقيادة الثورة» يتولّى الشؤون الحياتيّة ويوثّق أعمال الثورة، وقد برز منهم خالد أبو صلاح وهادي العبد الله، وأقيمت صفحة «تنسيقيّة الثورة في حمص» و»تجمّع نبض للشباب المدنيّ السوريّ» و»تجمّع أحرار حمص»، إضافة إلى «اتّحاد الطلبة الأحرار» في جامعة حمص. وعمل «المكتب الطبّيّ» و «تنسيقيّة أطبّاء حمص» على الاهتمام بالأوضاع الصحّيّة، كما أنشئت عدّة مشافٍ ميدانيّة خاصّة بالأحياء، منها «مشفى الخالديّة الميدانيّ». كذلك أنشأ الناشطون «المكتب الإعلاميّ للهيئة العامّة للثورة في حمص»، لنقل أخبار المدينة، وأُطلقت «إذاعة حمص» وجريدة «إميسا» ردّاً على إعلام النظام، كما مضت جريدة «زمان الوصل» الإلكترونيّة، التي سبق أن أُسّست عام 2005، في توثيق الأحداث في حمص، وفي 5/11 انطلقت مجموعة «عدسة شابّ حمصيّ» لتوثيق جرائم النظام وما أنزله بالمدينة من دمار. وهناك كان أوّل ظهور لـ «الرجل البخّاخ» الذي زيّن الجدران بشعارات الثورة. وفي الفيديو والأفلام والسينما، أنتجت مجموعة مخرجين مقاطع فيديو ناقدة وساخرة من السلطة، كان أوّلها مسلسل «حرّيّة وبسّ»، ومقاطع بعنوان «فصلات حمصيّة»، إضافة إلى الفيلم القصير «مو ميشان شي بس ميشان تعرف» الذي صوّر الحصار والعيش تحته. وفي القصف سقط المخرج باسل شحادة قبل أن ينتهي من تصوير فيلمه «أمراء النحل». وأُنتج فيلم «العودة إلى حمص» للمخرج طلال ديركي الذي يوثّق تفاصيل الثورة منذ بداياتها عبر الحياة اليوميّة لشابّين من المدينة، هما عبد الباسط الساروت وأحمد الحمصي، وقد حصل على جوائز عالميّة، كما عُرض في مهرجانات عالميّة فيلم «ماء الفضّة» لأسامة محمّد ووئام بدرخان والذي حاز على جائزة أفضل فيلم وثائقيّ في مهرجان لندن للأفلام عام 2014. وفي مجال الموسيقى، وإلى عازف البيانو مالك جندلي، ظهرت فرقة «حاجز باند» للجاز. وبين صفحات التواصل الاجتماعيّ الكثيرة التي ولدت، اشتهرت صفحة «أكلات الحصار» التي توضح كيف كان الأهالي، في ظلّه، يعدّون طعامهم.
وتميّزت مدينة درعا بغزارة الحراك، فشُكّلت لجان محلّيّة كـ «المكتب الإغاثيّ» و «المكتب التعليميّ» و «الهيئة العامّة للدفاع المدنيّ» لتأمين الخدمات المدنيّة والصحّيّة للأهالي. كذلك أُطلقت «شبكة أخبار مدينة درعا» و «اتّحاد إعلاميّي مدينة درعا» لمتابعة أخبار المدينة، ثمّ توحّدت الشبكتان في ما سُمّي شبكة «نبأ» الإعلاميّة، ووثّق العاملون في صفحتي «عدسة شابّ درعاويّ» و «عدسة فتاة درعاويّة» الدمار والمعارك بالصور، وظهر راديو «صوت راية» كوسيلة إخباريّة. وفي مجال العمل مع الأطفال، أطلق الناشطون تجمّع «غصن زيتون» الذي عُني بالتعليم والدعم النفسيّ، كما أصدر مجلّة «قزح» للأطفال. وظهرت طوابع كثيرة لشخصيّات من المدينة والجامع العمريّ فيها، ونظّم تجمّع «اليوم التالي» في تركيّا تكريماً لمحمود الجوابرة، أوّل ضحايا الدرعاويّين على يد النظام.
وأطلق ناشطو الرقّة «مركز الرقّة الإعلاميّ» و «الرقّة الحدث» لنقل أخبار المدينة، إضافة إلى «إعلاميّون بلا حدود» و»الرقّة» و «عدسة شابّ رقّاويّ»، كما صدرت مجلّة «ثوريّ أنا»، وعُرف من الناشطين الإعلاميّين محمّد نور مطر الذي أنجز أيضاً فيلماً قصيراً بعنوان «سقط الكابوس هنا». وصنّع ناشطون منطاد الثورة السوريّة هديّةً لباقي المدن، كما اعتنت حركة «حقّنا» بالنشاط السلميّ والمدنيّ. وظهرت حملة «دم الشهيد مو نسيانينو» لتزيين قبور ضحايا الثورة بعلمها، وحملة «لن أترك مدرستي» تأهيلاً لعشرين مدرسة.
وتأسّست في السلميّة «تنسيقيّة نساء السلميّة» و»حركة أطياف من أجل سوريّة» و»تجمّع نبض» للشباب المدنيّ، إضافة إلى تنظيم حملات مدنيّة كحملتي «أوقفوا المجازر» و «الشارع إلنا». وظهرت شبكة «سلميّة الإخباريّة» و «عدسة شابّ سلمونيّ» ومجلّة «حنطة» الشهريّة للشباب، فيما أنتجت فضائيّة «أورينت» فيلماً وثائقيّاً قصيراً بعنوان «قرنفل أبيض للسلميّة». وفي اللاذقيّة ظهرت شبكة «أخبار» لنقل أحداث المدينة وتوثيقها، ثمّ نظّمت حركة «نحل الساحل» حملة «لا للتخوين»، كما قدّمت حملة «أنا مشروع حياة» فيلماً قصيراً بعنوان «صوتيّة رقم 2… رهف» مهدى إلى رهف بطيخ، الشابّة التي قضت برصاص قنّاص. ومن حيّ مخيّم الرمل أُطلقت بالونات ضخمة كُتبت عليها شعارات كـ «الشعب يريد محاكمة القتلة» و «سلميّة… سلميّة».
لقد طلبوا الحرّيّة والكرامة واحتفلوا بهما، فصوّروا وعبّروا وكتبوا وهتفوا وأعلموا وأسعفوا وعلّموا ولعبوا وضحكوا وأحبّوا وغنّوا. وكان الكثير من هذا بريئاً أو عفويّاً أو أوّليّاً أو حماسيّاً. كان كلّ شيء إلاّ شيء واحد هو استحقاقه عقوبة الموت. وهم بالموت عوقبوا. في هذه الغضون وثّقوا حياتهم، فجاء هذا الكتاب يحترم حياتهم ويحترم موتهم ويوثّق ما وثّقوه.
*كاتب لبناني.
الحياة