ثائر ديب: على الوطنية أن تكون الوجه الآخر للديمقراطية والحفاظ على الثروة الوطنية
مي ابو زيد
ضد الطبيعة أن يستمر نظام تسيطر عليه الأجهزة الأمنية وتتشخصن فيه السلطة ويعم الفساد
هنيئا للمترجم والكاتب السوري ثائر ديب ما يتحقق له الآن، فما يدور في سوريا حاليا كان حلما تسبب في اعتقاله عام 1987 بل وتعذيبه وقطع أصابع قدمه، وتغيير «كرّست عمري وعملي له» هكذا يخبرنا في حوارنا معه عبر الفضاء الإلكتروني.. يقول»كنت أدرك الضرورة التي باتت ملحّة لتغيير الواقع الرهيب القائم، وأتساءل عن المكان الذي سيأتي منه هذا التغيير، وأرجّح أنّ بؤرته لن تكون الثقافة والمثقفين».
في الحوار يتحدث المثقف الثائر عن أنظمة زرعت الخوف في قلوب البشر فانتزعت منهم إنسانيتهم..عن شعب استعاد السياسة غصبا.. وعن شعب عليه أن يصنع ثورته الخاصة بعيدا عن محاكاة ثورات الآخرين.. ويحكي عن نفسه.. عن دوره الوطني والأخطار التي تتهدد مصيره في أي لحظة.. وعن أولاده.. خشيته عليهم من أن تسير الثورة السورية في السبيل الذي يخطه أخطار بقاء الاستبداد والصراعات الطائفية والتدخل العسكري الخارجي.. فإلى نص الحوار:
÷ هل كنت تتوقع أن تحدث تلك الثورات في الوطن العربي، على الأقل في حياتنا؟
} على الأقلّ، كنت قد كرّست عمري وعملي لهذا التغيير. وعلى الأقلّ، كنت أدرك الضرورة التي باتت ملحّة لتغيير الواقع الرهيب القائم، وأتساءل عن المكان الذي سيأتي منه هذا التغيير، وأرجّح أنّ بؤرته لن تكون الثقافة والمثقفين، على أهمية موقعهما الأكيدة ودورهما الذي لا بدّ منه. ولطالما رأيت أنَّ من المضاد للطبيعة أن يستمر نظام تسيطر فيه الأجهزة الأمنية وتتشخصن فيه السلطة ويعمّ فيه الاستبداد والعسف والفساد، حيث يُرى إلى الجميع كمتّهمين ويُدَمّر فيهم معنى الإنسان قبل مصادرة حقّهم في القول والكتابة والاجتماع. ولطالما رأيت أنَّ السلطة الحديثة المحكومة بالأجهزة الأمنية تبدي، من حيث بنيتها واختبار البشر لها، شبهاً كبيراً بأنظمة الاستبداد القديمة: فهي نظام سياسي لا تكاد أن تكون له بنية سياسية حقوقية وقانونية، ولا يتمتّع من القانون السياسي سوى بالمظهر… ذلك أنّ القانون الفعلي الذي ينتظم كلّ شيء هو شهوة السلطة ليس لذاتها وحسب، بل لأنها في مثل هذه المجتمعات مصدر الثروة، وتقدر أن تحول الدولة إلى مشروع استثماري هائل الأرباح، يُسَخّر له كلّ مقوّم من المقوّمات التي تمّ التواضع على أنّها تشكّل قوام الدولة الحديثة. وفي مثل هذا المجتمع تُستكمَل دورة القمع والمراقبة بخلق ضروب السلطة المستبدّة الموازية. وآلة ذلك هي الخوف، ذلك الانفعال العفوي، البسيط، الذي لا يحتاج إلى تعليم، ولا يتميّز بطابع اجتماعي أو سياسي، ولا يعرف لوائح أو قوانين، ولا يثنيه شيء عن الولادة آن يُسْتَوْلَد. الخوف، الخوف، ثم الخوف، ذلك ما يصنع حياة هذا النظام الغريب. وطبيعي ألا يستمر مثل هذا النظام.
÷ وهل كنت تتوقع أن تنتقل «عدوى الثورات»، إن جاز التعبير، إلى سوريا؟
} ما إن اندلعت الثورة المصرية بعد ثورة تونس حتى بات واضحاً أننا إزاء زلزال لن ينجو بلد في المنطقة من ارتداداته. وقد كتبتُ في مقالة عنوانها «الثورة في كتابات سورية» نشرت في ملحق السفير الثقافي قبل بداية الثورة السورية: «ثمّة أسئلة كثيرة يمكن طرحها على هذا الفهم لثورتي تونس ومصر وسواهما من الثورات العربية القادمة لا محالة بسبب تهرّؤ أساليب الحكم السائدة وما ينطوي عليه استبدادها وفسادها من دفع المجتمع إلى مهاوي الانهيار إذا ما استمرت على هذا النحو». كان من الواضح أننا أمام تغيير سيشمل المنطقة بأسرها فلا تعود كما كانت على الإطلاق. فلم يعد من الممكن الاستمرار مع أنظمة الاستبداد والفساد، بما فيها تلك التي تتذرّع بالقضية الوطنية لتذهب بالحريات والحقوق السياسية والاجتماعية. لم يعد من الممكن الفصل بين القضايا الوطنية والديمقراطية والاجتماعية. بل إن فهم الاستبداد للمسألة الوطنية فهم قاصر، فالوطنية جُهْدٌ يرمي إلى إقامة بنية اقتصادية اجتماعية مستقلة ومتمحورة حول ذاتها وحول مصالح شعبها بعيداُ عن أيّ ارتهان أو تبعيّة، وليست محاربة عدوّ محتلّ على أهميتها العظيمة وضرورتها التي لا بدّ منها، سوى جزء من هذا الكلّ. ومن الواضح أنّ مثل هذا التعريف للوطنية لا يفصل بين ما يُحَقَّق من تنمية وتقدم اجتماعي وحريات تضمن مشاركة أوسع قطاعات الشعب وبين مقاومة الاحتلال والمشاريع الخارجية وممانعتها. وبذلك تكون الوطنية وجه العملة الآخر للديمقراطية والحريات والحفاظ على الثروة الوطنية وتنميتها. وليست قطباً يواجه كلّ ذلك، أو يمكن فصله عنه في ترتيب زائف لهذه الأولويات.
÷ وما الذي يجب أن يفعله الشعب السوري، كنوع من التصعيد، لوضع نهاية هذا النظام الأكثر إستبدادية على مستوى الوطن العربي؟ أو بصيغة أخرى متى يمكن أن يستسلم هذا النظام؟
} ما ينبغي أن يفعله الشعب السوري هو مواصلة ثورته، بعيداً عن العنف والطائفية وطلب التدخل الخارجي. وهذا الطريق الذي يبدو طويلاً ومثقلاً بالضحايا هو في الحقيقة الأقصر والأقلّ ضحايا. وما ينبغي أن تفعله المعارضة السورية هو الكفّ عن تضييع الوقت والتقافز من مكان إلى آخر وتنبري لتقديم رؤى وممارسات هنا والآن تسهم في فكّ عثرات انتفاضة الشعب السوري. ومن هذه العثرات مثلاً أنّ هذه الانتفاضة «ريفية» بمعنى ما و«مناطقية» ومقتصرة على طبقات وفئات معينة وينبغي أن تغدو مدينية ووطنية شاملة لها برامجها المقبلة ومشروعاتها الواضحة. كما ينبغي الكفّ عن محاكاة التجارب الأخرى رغم أهمية الإفادة منها. كان كثيرون يظنون أن مسارنا هو مسار مصر وتونس، ومع اشتداد القمع الهمجي راحوا يتوسّلون النموذج الليبي… بدلاً من التوقّف أولاً وقبل كل ّ شيء عند النموذج السوري الذي لا مثيل له.
النموذج السوري
÷ تحدثت عن تميز في النموذج الثوري السوري واختلافه عن النموذج التونسي والمصري والليبي، هل يمكن أن توضح ذلك؟
} بخلاف ما ادّعته الأنظمة من اختلاف واحدها عن الآخر، فإنَّ المعاناة واحدة في جميع هذه البلدان، لكن البنى تختلف، وكذلك اللحظة التي تنطلق منها الثورة. وعلى سبيل المثال، فإنَّ وحدة مصر مؤمنة وما تحتاجه هو الحرية. لكن سوريا تحتاج كلاً من وحدة البلد غير الأكيدة تماماً وحريته الغائبة كلّ الغياب. ولقد بدأت ثورة مصر في ظلّ حضور لا بأس به للمجتمع المدني بأحزابه وحركاته ونواديه…الخ، في حين بدأت الثورة السورية من تحت الصفر بكثير إذ كان الاستبداد قد نزع كلّ مظاهر المجتمع المدني نزعاً تاماً. يُضاف إلى ذلك عدد كبير من العوامل، ليس أقلّها الموقع الجيوسياسي والمسألة الوطنية. ولا بدّ من أخذ كلّ ذلك في الحسبان إذا أردنا التزام حدٍّ أدنى من الجدّية وعدم الاكتفاء بالحماس وحده.
÷ صف لنا كمثقف سوري، كيف تعيش تفاصيل الحياة في ظل هذا القمع الشديد، وكيف يعيش باقي المثقفين؟
} أعيش كما ينبغي لمثقف وطني ديمقراطي أن يعيش. مع شعبي أولاً. ومع الحركة الوطنية الديمقراطية واليسارية التي أنتمي إليها، ثانياً. في العلن وعلى رؤوس الأشهاد. أعيش في خطرٍ، بل في أخطارٍ، تجعلك لا تدرك ما سيكون عليه مصيرك كلّ مصيرك في أية لحظة. يُضاف إلى ذلك كلّه قلق بالغ ناجم عن تعقيدات الوضع السوري الداخلية والإقليمية والدولية. أمّا المثقفون فهم منقسمون ومتعددون تعدد الثقافة ذاتها. وبخلاف ما نحسب فإن الثقافة ليست واحدة ولا المثقفون من نوع واحد. ثمة مثقف سلطوي ومثقف طائفي كما أنّ هنالك مثقفا نقديا ومثقفا وطنيا ديمقراطيا الخ.
÷ أنت في موقف لا تحسد عليه، تم اعتقالك وتعذيبك من نفس النظام عام 1987، ثم عملت في وزارة الثقافة السورية، وها هي الدولة تقمع الثوّار بشكل شديد العنف، كيف تتصرف، وهل تأثر عملك؟
} يكاد مجموع سنوات الاعتقال التي قضاها أفراد من عائلتي بسبب انتمائهم إلى المعارضة ومنهم أنا نفسي حوالي القرن الكامل. وليس ثمة موقف لا أُحسَد عليه، كما تقولين. ففي الأنظمة الشمولية لا يكاد أن يكون هناك من لا يعمل في مؤسسات الدولة. وينبغي التفريق دوماً بين النظام والدولة، وإلا لغدا 99% من الشعب السوري مداناً. ووزارة الثقافة السورية تحديداً لطالما عمل فيها المعارضون، ربما بسبب أنطون مقدسي، المفكر السوري الحرّ الذي استلم مديرية التأليف والترجمة لفترة طويلة وكان يعتمد معيار الكفاءة في اختيار كوادر مديريته، وكان من بين هؤلاء محمد كامل الخطيب، الذي دعاني للتعاقد على الأساس ذاته في فترة ربيع دمشق مما ساعد على قبولي. وحالي هذا يشبه حال كثيرين يعملون في التعليم أو الصحافة أو غيرهما من المؤسسات والوزارات التابعة للدولة. هذه ظاهرة سورية وعربية معروفة. ولا تغيّر شيئاً من التزاماتنا ومواقفنا. ولا قيد أنملة بالنسبة لي. فليس لدي ما أخسره على هذا الصعيد.
÷ هل تعتقد أن هناك تخاذلاً عربياً ودولياً تجاه الشعب السوري؟ وأن الثورة السورية لا تأخذ الاهتمام الإعلامي الكافي؟
} لا اعتقد ذلك. والأهم أنني لا أنتظر من الأنظمة الدولية أو العربية اهتماماً خارج أجنداتها الخاصة. يعلّمنا التاريخ وتجاربه أنّه ما حكّ جلدك مثل ظفرك. وأرى أن ما حققته ملحمة الشعب السوري إلى الآن، ودون عون من أحد، عظيم بكلّ المقاييس. لقد تمّت استعادة السياسة غصباً ودفعة واحدة ورُفِعت مطالب لم نكن نحلم بأن نهجس بها. وبات مؤكّداً أن لا عودة إلى الوراء.
÷ يرى البعض أن ثورات الوطن العربي قادرة على إلهام باقي دول العالم، وأن مدى الثورات سيتسع للجميع بما فيها دول العالم الأول، فهل تعتقد ذلك؟
} لِم لا؟! تباشير ذلك تبدو واضحةً. وجنوب العالم الفقير والتابع هو منطقة العواصف والثورات، كما يقول المفكر المصري سمير أمين.
÷ تُعد من أهم المترجمين السوريين، في رأيك هل تلك الثورات كفيلة بإعادة إنتاج العلاقة، أو برسم علاقة جديدة بين الشرق والغرب، غير تلك التي تكرست على مدار السنوات الماضية وتحديداً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟
} لا شكّ في هذا. لكن علينا أن ننتظر بعض الوقت كي يتحقق. فهو ليس من النتائج المباشرة التي تترتب على الثورات. هذه أول مرّة في التاريخ المعاصر يبدأ العرب بدخول الحضارة والتاريخ كفاعلين يدورون حول محورهم هم وليس حول محور الآخرين. ولقد استطاعت الثورات العربية منذ بدايتها أن تحطم صور العرب النمطية المبتذلة تمهيداً لتغيير موقعهم ووزنهم في العلاقة مع بقية العالم.
الثقافة والمثقفون
÷ يقولون إن الثقافة تتراجع أوقات الثورات، هل تؤمن بذلك أو تلمسه من خلال ثورات تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا؟
} أجل ألمسه بعض الشيء. وأكثر ما يزعجني تسرّع، بل مزايدة، بعضهم في الحكم على نتاج الكتّاب والأكاديميين بحسب مواقفهم الآن دون النظر إلى أهمية منجزهم ودوامه. وكأنّ اللحظة الحالية هي التاريخ كلّه. في حين يجري الإعلاء من شأن صحافيين متوسطي الجودة وكتّاب رديئين لمجرد زعيقهم «الثوري».
÷ أخيرا لك ولدان، ما أكثر ما تخشاه عليهما، وكيف ترى مستقبلهما على مستوى سوريا وعلى مستوى الوطن العربي كله؟
} أكثر ما أخشاه عليهما الآن هو أن تسير الثورة السورية في السبيل الذي يخطّه أيّ من الأخطار التي تكتنفها: بقاء الاستبداد، الصراعات الطائفية، التدخل العسكري الخارجيّ. سوى ذلك، أثق بأنهما سيعيشان حياةً لم يتح لنا الاستبداد الغاشم أن ننعم بشيء، أيّ شيء، منها، حياة تخطّها الآن دماء السوريين الزكية وسبق أن خطّتها دماؤنا التي سالت على سياط الجلادين.
(القاهرة)
السفير