ثقافة إعادة تأسيس الأزمة/ حسام عيتاني
ثمة تيار عريض بين المثقفين العرب يدعو، في مواجهة خطوب الحاضر وأزماته، إلى عقلانية عربية تتأسس على تحديث وإحياء التراث الفكري العربي – الإسلامي بأدواته هو أولاً وبالاستعانة بالمدارس الغربية ثانياً.
تزعم التيار هذا الكاتب الراحل محمد عابد الجابري الذي قدم عبر عدد كبير من المؤلفات أشهرها سلسلة “نقد العقل العربي” التي احتوت تشخيصاً لما رأى فيه الكاتب أزمة العقل والثقافة العربيين واقتراحاته للخروج منها بهدف الانخراط في عالم اليوم. وكُتب الكثير في الرد على الجابري ونقاشه ونقد طروحاته. لكن من الممكن في هذا المجال القول إن فكرة إحياء الثقافة ومن ثم الحضارة العربية اعتماداً على أدوات التراث العربي –الاسلامي، لم تختف برحيل الكاتب المغربي.
ونسجاً على منوال الجابري هناك من يكرر دعوته إلى الارتكاز إلى عقلانية ابن رشد وتاريخية ابن خلدون والتجديد الديني عند كل من الشاطبي وابن حزم. بل إن هناك من يرى في المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث موئلاً صالحاً لينهل منه العرب المعاصرون توليفة ثقافية حضارية قادرة على سحبهم من الاستنقاع الذي يقيمون فيه بعد فشل النهضة العربية التي بدأت اواخر القرن التاسع عشر ووصولها، بجميع تجلياتها السياسية والاجتماعية، إلى نهاياتها المأساوية منذ أكثر من 4 عقود.
يتعين هنا تسجيل ملاحظتين منهجيتين. الأولى، أن الخلاصات والاستنتاجات العامة للفكر والفلسفة العربيين الاسلاميين قد درست بدقة واستوعبت في التيارات الفلسفية اللاحقة. هكذا فعلت المدرسة السكولائية في فرنسا والقديس توما الإكويني وآخرين ممن انكبوا على قراءة ونقد الفكر العربي- الإسلامي، يمكن قول الكثير عن تلك القراءات وذاك النقد لكن المهم أن الإنجازات الكبرى العربية –الإسلامية لم تذهب هباء كما يتصور البعض وأن في بناء الفلسفة المعاصرة الكثير من الأحجار العربية- الإسلامية. عليه، يبدو من غير المجدي العودة إلى القديم مما تم هضمه فعلاً في الثقافة المعاصرة.
الملاحظة الثانية تتعلق بالنظرة العربية، المشرقية خصوصاً، إلى الحضارة. فثمة اعتقاد يتشارك كثر فيه يقول إن الحضارة العربية-الاسلامية انتهت بسقوط بغداد على أيدي المغول ولم تنتعش إلا مع الحملة الفرنسية على مصر. وبغض النظر عن الأسئلة التي يطرحها تصور يربط سقوط وقيام حضارة باحتلالين أجنبيين، ينبغي الانتباه إلى السمة شديدة الأنانية في هذا الكلام. في واقع الأمر، استمرت الحضارة الإسلامية (مع تراجع التأثير العربي فيها) في السلطنة العثمانية والامبراطورية الفارسية الصفوية والامبراطورية المغولية الهندية. وفي الوقت الذي يعتبر العرب فيه أن عصراً من الظلام خيم على بلادهم منذ بداية العصر المملوكي حتى القرن التاسع عشر، يصح القول إن تركيا وفارس والهند عاشت عصور ازدهار فكري وثقافي وعمراني في تلك الحقبة. فشخصيات مثل الفيلسوفين الإيرانيين المُلا صدرا الشيرازي ومير داماد ومجموعة المؤرخين الأتراك اللامعين والمعمار سنان وعدد من الفقهاء الهنود، لا يحبذ المثقفون العرب كثيراً إدراجها ضمن بناة الحضارة العربية – الإسلامية رغم أن كثراً منهم أصروا على الكتابة باللغة العربية (الملا صدرا، على سبيل المثال). وغالبا ما يردّ المثقفون العرب على هذه النظرة بنسبتها إلى مستشرقين لا يخفون-من جهتهم- مواقفهم السلبية من العرب المعاصرين وفي مقدمتهم برنارد لويس. الجدير ذكره أن الامبراطوريات العثمانية والصفوية والمغولية بلغت في نهاية المطاف عصر انحطاطها لأسباب مختلفة وخضعت في النهاية إلى عملية إعادة هيكلة شاملة خلال وبعد مراحل من الاستعمار الغربي في الهند و”المرض” التركي المديد والإفلاس القاجاري.
يكشف ما سبق التناقض العميق في الرؤية العربية إلى “النهضة” و”اليقظة” وغيرهما من مسميات مشاريع الإحياء القومي المستندة إلى استعادة صماء بكماء عمياء لما مضى وانقضى. فمن ناحية التناسق المنطقي، إذا جاز القول، يصعب الاعتقاد بالانهيار الشامل للحضارة العربية –الإسلامية في المشرق العربي والتعويل في الوقت ذاته على مكونات لم تسهم في إنقاذ تلك الحضارة من مثل الفلسفة والتراث والثقافة. ويصعب بالقدر ذاته القول بإحياء حضاري يستند إلى ما تسبب بالفشل الأول، من دون تعريضه إلى نقد شامل لا يقف عند نصوصه المؤسسة بل يتجاوزها إلى مفاهيم أرستها تلك النصوص التي تعكس في الجوهر ممارسات اجتماعية وسياسية ما زال كثير منها صامداً بعد مرور مئات الاعوام على تأسيسه.
ويبدو فارغاً من كل معنى الكلام عن تغيير سياسي مستوحى من علم الكلام المعتزلي، على ما اقترح بعض الكتاب العرب الذين رأوا فيه أساساً عقلانياً قابلاً للتطوير. ويبدو كذلك عديم النفع اقتراح العودة إلى تراث ديني أو فقهي يقال إنه يعاني من الاهمال. المضمون الواقعي لدعوات كهذه وما يشبهها ويصب في خانتها لن يكون بأفضل حال مما نراه اليوم من نكوص إلى اقصى حالات العدمية والردة والظلامية. وذلك في وقت تبدو فيه الدعوات إلى الانخراط في عالم اليوم، بمخاطره وفرصه، بسلبياته وإيجابياته، محاصرة في بقاع لا تني تتقلص وتنكمش أمام زحف أدعياء إعادة الخلافة، وبالتالي إعادة الأزمة الحضارية العربية إلى نقطتها المرجعية الأولى.
موقع 24