ثقافة البرميل/ عمر قدور
ما أن انقشعت الغيوم بعد العاصفة الثلجية التي ضربت سوريا حتى عاد طيران النظام إلى القصف بنشاط؛ هذه المرة تصدرت الواجهة أخبار قصف أحياء عديدة في مدينة حلب بالبراميل المتفجرة. في أحد الأحياء نزل البرميل على موقف لحافلات النقل المدنية الصغيرة، وفي حي آخر هبط على حديقة عامة وأصاب حافلة صغيرة للركاب أيضاً، فضلاً عن البراميل الأخرى التي لم تخطئ الأبنية السكنية، التي لا يقع في جوارها أي هدف عسكري.
البراميل المتفجرة سلاح اكتشف السوريون وجوده بعد الثورة، وتندر البعض منهم عليه، فهو سلاح يمكن أن يحتوي مختلف أنواع الزبالة المؤذية من قصاصات المعادن إلى المسامير وغيرها، فضلاً عن مادة الـTNT التي تتكفل بتحويل تلك الزبالة إلى شظايا قاتلة منتشرة في موقع السقوط. البرميل سلاح غير موجّه، وهو يعتمد على السقوط الحر، تلقيه الطائرة غالباً من ارتفاع عالٍ جداً تخوفاً من وجود مضادات أرضية قريبة، أي أن ضحاياه ليسوا حتى ضحايا خطأ في التسديد؛ هم مستهدفون بسبب وجودهم في المنطقة المستهدفة، أو بسبب وجودهم وحسب.
البرميل لأنه غير موجه فهو أصلاً لا يخطئ الهدف، كل ما في الأمر أن القاتل يريد إيقاع أكبر قدر من الأذى بأقل التكاليف، لذا يضنّ على السوريين حتى بالأسلحة الموجّهة التي تحتمل أعذاراً من نوع الحديث عن هامش للخطأ، أو عن خطأ بالتسديد، والأكثر من ذلك أنه يضنّ عليهم بسلاح مكلف من الأسلحة التي دفعوا ثمن استيرادها ليقتلهم بدلاً منها بتلك البراميل المحشوة بالنفايات. لكن البرميل أيضاً سلاح يختزل جيداً عقلية النظام، ويختزل نظرته إلى السوريين كما نظرته إلى بنيته ودوره، فالقتل العشوائي بأقل التكاليف عمل يسهّل الإبادة، وإذا كان البرميل لا يخطئ الهدف لأنه غير موجه أصلاً فهو لا يخطئ الهدف أيضاً من حيث إيصاله للرسالة التي يريدها النظام، وهي رسالة تقع قانونياً في إطار جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفضلاً عن ذلك تقع ضمن جرائم الإبادة العرقية.
ثم إن البرميل المتفجر مطابق لبنية النظام وعقله أكثر من الأسلحة الذكية أو متوسطة الذكاء، لأن مفهوم “الحديد والنار” الذي حكم به طوال عقود يتناسب مع هذا السلاح البدائي، وأن يكون السلاح غبياً إلى درجة مفرطة فذلك لا يخدش نظاماً لم يُعرف عنه الذكاء في إدارة شؤون البلاد. أما وجود السلاح بحد ذاته فهو دليل على النية المبيتة لاستخدامه في الداخل حصراً، إذ ليس لعاقل أن يتوقع استخدامه في معركة جدية ضد عدو يمتلك أسلحة متطورة. فكما هو معلوم، الدولة الوحيدة التي أنتجت سلاحاً مشابهاً هي روسيا أيام الاتحاد السوفياتي ولم تستخدمه إلا على نطاق ضيق في الحرب العالمية الثانية. هو سلاح بلا رقم تسلسلي حتى، أي أن صانعيه لا يحسبونه سلاحاً بقدر ما يرون فيه نفايات قاتلة.
في الواقع، لم يقصّر النظام في استخدام مختلف أصناف الأسلحة ضد السوريين، غير أن للبراميل وضعاً مختلفاً من حيث فجاجتها وفجاجة مقاصدها، وهي تذكّرهم أكثر من غيرها بطبيعة النظام وطبيعة معاناتهم معه. فالبرميل الذي يزن حوالي نصف طن يختزل ابتذال النظام وفجور أدواته معاً، ولن نبتعد عن الواقع إن أشرنا إلى ما يمكن حسبانه ثقافة متكاملة قد تُكنّى بـ”ثقافة البرميل”، تقوم في حدها الأعلى على النفايات الثقافية التي يُعاد تدويرها، ويُقصف بها كل فكر حر، بل يُقصف بها كل تطلع إنساني والحد الأدنى من الاعتبارات الأخلاقية.
ثقافة البرميل هي أكثر ما ينطبق على النظام ومواليه وحلفائه، فشظاياها المؤذية تبتغي إيقاع أكبر قدر من الأذى، مستخدمة سقط الكلام وسقط الثقافة، ومتوخية استخدام أي منجز إعلامي أو ثقافي معاصر لتمرير الرسائل الرخيصة؛ الرخص هنا جوهر المقولات وجوهر أولئك الذي يسترخصون دماء الآخرين أو معاناتهم أو تطلعاتهم وأفكارهم. ليس مهماً أبداً أنهم يسترخصون ذواتهم من خلال استرخاص الذات البشرية، وليس مهماً أن يكون هذا جوهر كل فاشية ونازية، فالفاشية والنازية أيضاً من سقط الثقافة التي تجاوزتها البشرية، للمصادفة، في الوقت الذي لم تُعد تُنتج فيه البراميل المتفجرة.
ضمن ثقافة البرميل، لا يدعو إلى الدهشة أن يخرج فنان لبناني ليقول إنه لو كان مكان النظام لفعل ما فعله بالسوريين؛ زياد الرحباني الذي أدلى بتصريحه هذا كان واضحاً في منابع ثقافته، فحدد المحطات التلفزيونية والإذاعية التي تتوافق معها، أما النص الكامل للمقابلة فلا يخلو من المسامير الصدئة والقصاصات المعدنية المجبولتين بقليل من المتفجرات. قبل ذلك، في الوقت الذي أرغمت فيه العاصفة الثلجية طائرات النظام على العطلة، كانت ثقافة القصف بالبراميل مستمرة على النازحين السوريين، بالتزامن مع المذابح التي كانت ميليشيات النظام وحلفائه ترتكبها على الأرض في منطقة القلمون. مذيعة قناة الميادين سناء أبي حيدر تكتب على صفحتها في الفايسبوك: (مخيم عرسال للاجئين.. الله لا يشيل عن قلبكن.. شمتانة للسما.. اللي بدو يعطيني محاضرات بالإنسانية يسكّر تمّو لأن صراحة لإجري هالخونة). أما مراسلة قناة NBN رشا الزين فكتبت على صفحتها: (سؤال محيرني كل ما بدعس خيم النازحين.. كيف إلن نفس عَ بعض؟ وليش عم يخلفوا؟ لازم بعد أليكسا بدل البطانيات يوزعوا مانع حمل).
هكذا يتبين أن البطانيات مؤذية للنازحين الهاربين من براميل النظام، وينبغي بدلاً منها (لا معها مثلاً) أن يُوزّع مانع الحمل، لأن المراسلة تريد أن “تدعس” المخيمات على مزاجها. زميلتها المذيعة استخدمت برميلاً استباقياً على “اللي بدو يعطيني محاضرات بالإنسانية”، ذلك قبل أن تستخدم رجلها تجاه “الخونة”، ولعله من المستغرب ألا تبادر السيدتان إلى تشكيل “درع” بشري يمنع وصول البطانيات إلى النازحين، فالبطانيات قد تدفئ “الخونة” والدفء قد يوسوس لهم بما هو أبعد منه ولا يستحقونه.
في ثقافة البرميل ليس مهماً أن تتنوع المشارب والأسباب، فالبرميل يتسع لمختلف النفايات الطائفية والسياسية والفكرية، العبرة هي في اجتماعها على الرغبة في القتل، وعلى الرغبة في إسكات أولئك الإنسانيين الذين يدينون أعمال الإبادة. حيث يسقط البرميل ينبغي أن تُسوّى الأرض للدعس، فلا تتعثر الأقدام سوى بالأشلاء والأنقاض؛ الناجون يشوّشون نقاء اللوحة، ويكشفون عن قصور في الأسلحة المستخدمة. العاصفة أليكسا بدورها لم تنجز عملها على أكمل وجه، وإلا كانت قد اقتلعت “الخونة” من مخيماتهم، بعد أن اقتلعهم النظام من جذورهم.
من أي طينة خُلق أولئك الذين يحرّضون على الإبادة؟ الجواب ينتظر أن يسقط النظام يوماً، وأن نزور معامل أسلحته التي تصنّع البراميل، وأن تنكشف سجلات مخابراته أيضاً. حينها سنتعرف جيداً على المختبرات التي تصنع هذه الثقافة، وحينها قد نتعرف على الرخص الحقيقي الذي يصنّع هذه الأسلحة. ربما ينبغي أن ننوه أخيراً بأن التحريض على القتل بالمعنى الفردي قد يكون مكلفاً من الناحية القانونية، أما التحريض على الإبادة فهو غير مكلف؛ هو بمثابة تحريض على الشيوع لا يستطيع المستهدفون به الردّ بالسبل القانونية في بلدان تُستخدم فيها الأرجل للدعس على الآخرين، وتُستخدم فيها الكلمات لتهديدهم إن هم حسبوا أنفسهم على الإنسانية.
المستقبل