ثقب الذاكرة السورية يفتح الطريق لخطر أكبر/ تيلر كوين
أحياناً تكون الأحداث الأكبر هي تلك التي تحظى بالقدر الأقل من الدعاية والاهتمام الإعلامي، والواضح أن غياب الاهتمام في حد ذاته جزء من القصة. وأجد أن ثمة ما يثير الاستغراب في غياب الاهتمام الإعلامي نسبياً بنبأ قتل قوات مدعومة من الولايات المتحدة ما يتراوح بين 200 و300 من المرتزقة الروس، هذا الشهر، داخل سوريا.
في كثير من السنوات، ربما كان هذا ليصبح الخبر الأكثر إثارة للقلق، ويبقى متصدراً لوسائل الإعلام لأسابيع، بل وربما لشهور. ومع هذا، فإنه في فبراير (شباط) 2018 لم يحظ الخبر باهتمام ملحوظ من أي وسيلة إعلام إخبارية كبرى.
ولا تزال المعلومات المعروفة على النطاق العام حول الحادث محدودة؛ لكنها تبدو مثيرة للقلق. على سبيل المثال، أشارت وكالة «بلومبيرغ» إلى أن: «أكثر من 200 جندي متعاقد معهم، معظمهم روس يقاتلون إلى صف قوات رئيس النظام السوري بشار الأسد، قتلوا في خضم هجوم فاشل ضد قاعدة تسيطر عليها قوات أميركية وكردية، في منطقة دير الزور الغنية بالنفط»، وقد جرى وصف الحادث بأنه الصدام الأكبر بين قوات أميركية وروسية منذ الحرب الباردة. وعلى ما يبدو، فإن ثمة صلة وثيقة بين المرتزقة الروس والحكومة الروسية.
من جانبه، وصف أحد المعلقين الروس الحادث بأنه «فضيحة كبرى، وسبب يستدعي اندلاع أزمة دولية حادة».
من جهته، أشار خبير الشؤون الخارجية الأميركي إيان بريمر، إلى أنه: «من زاوية ما، يبدو أمراً مثيراً للصدمة، أن هذا الحادث لم يهيمن على اهتمام وسائل الإعلام بعد».
وقد أدركت أن في دائرة معارفي الكثير من الحاصلين على قسط وافر من التعليم، بعضهم خاضوا الدراسات العليا ويعيشون داخل أو القرب من واشنطن، ليسوا على دراية بوقوع مثل هذا الحادث من الأساس. ويبدو كما لو أن الحادث وقع في ثقب بالذاكرة، ويعود أحد الأسباب وراء ذلك إلى رغبة الأميركيين والروس الواضحة في تجنب تفاقم الصراع.
وهنا ثمة تساؤل يطرح نفسه: هل هذا الحادث مجرد حدث استثنائي، أم أنه مؤشر على حدوث تحول أكثر عمقاً على الصعيد العالمي؟ في الواقع، بدأت أميل إلى التفسير الثاني. وربما يدفع البعض بأن النظام الدولي أصبح اليوم أقل هشاشة، بحيث أصبح من الممكن وقوع صدام صغير دون أن يسفر عن تصعيد كبير. وعلى ما يبدو، يحمل هذا الأمر جانبين: إيجابياً وسلبياً.
يكمن الشق الإيجابي في أنه لدى وقوع مثل هذه الصراعات الصغيرة، فإنها ربما يطويها النسيان في غضون فترة قصيرة. ويبدو أن هذا القول ينطبق على هذا الحادث تحديداً. من جانبهم، يعتقد سياسيون أن ثمة قيماً كبرى يتهددها الخطر في إطار النظام الدولي، ولا يرغبون في الإخلال بالسلام السائد بسبب حادثة واحدة مؤسفة. ولأسباب متنوعة – تتضمن بالتأكيد سيطرة الدولة – وافقت وسائل الإعلام في البلدين هذا التوجه.
في جوهره، يبدو ذلك على النقيض تماماً، من عالم كان يمكن أن تؤدي حادثة دبلوماسية صغيرة فيه إلى اشتعال حرب، مثلما حدث مع الحرب الفرنسية – الروسية عام 1870.
وربما تتجلى هذه الظاهرة الدولية الجديدة أيضاً في الأزمة الكورية الشمالية، ذلك أن «التغريدات» المهينة التي نشرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ووصف خلالها الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون بأنه «قصير وبدين»، تعتبر غير مألوفة إطلاقاً في أي حقبة دبلوماسية حديثة. الواضح أن العالم بدأ يتعلم تجاهل كثير مما يقوله أو يفعله ترمب.
إلا أنه للأسف الشديد، ومثلما الحال غالباً في الشؤون الإنسانية، فإن الجانب السلبي هنا يرتبط بصورة وثيقة بالآخر الإيجابي. إذا كان العالم يبدي قدراً أكبر من الصلابة فيما يتعلق بالصراعات المسلحة والخلافات الدبلوماسية، ربما يكون السبب وراء ذلك في أنه بحاجة حقيقية إلى هذا السلوك الجديد. الملاحظ أن ثمة دلائل تشير إلى أن الصراعات الدولية أصبحت أكثر عنفاً، وهناك اعتقاد عام بأن «باكس أميركانا» لم يعد بالصورة التي كان عليها.
بالنسبة للناخبين ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي من الأميركيين، يبدو أنهم أكثر اهتماماً بالمضي قدماً في سلسلة من الحروب والنقاشات الثقافية حول الرئيس ترمب. ولا يبدو هذا مؤشراً يبعث على التفاؤل بالنسبة للنفوذ الأميركي الدولي.
الأسوأ من ذلك أنه مع تنامي التساهل تجاه حالات معينة من الصراعات، يتنامى الإغراء تجاه السماح ببدء مثل هذه الصراعات؛ نظراً لأن العقوبات لن تكون قاسية. وبذلك ينتهي الحال إلى تورط مزيد من الأطراف في مغامرات عنيفة.
الحقيقة المؤسفة أن عالماً أكثر تساهلاً إزاء الصراع، من المحتمل أن ينتهي به الحال عالماً مليئاً بالصراعات.
إذن: هل الهجوم الروسي المشار إليه داخل سوريا الخبر الأهم في العام؟ ربما لا؛ لكن الجديد في الأمر هو التقليل المتعمد من أهميته وخطورته. تطور جديد يبعث على القلق البالغ.
* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
الشرق الاوسط