ثلاثة مقالات لبشير البكر تتناول الانتفاضة الشعبية في سورية
كلّنا بعثيّون
تتجه الإصلاحات التي وعد بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى إلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي تنص على أن حزب البعث هو القائد للدولة والمجتمع في سوريا. لكن من يعرف تاريخ سوريا، يدرك أن حكاية هذا الحزب أكثر تعقيداً من أن يختصرها نص دستوري؛ لأنها تعني حياة أجيال من السوريين
بشير البكر
لن يكون في وسع أي تعديل أن يُنْزِل حزب «البعث» من موقعه في حياة السوريين. فالمسألة أكثر تعقيداً من أن تُحل بجرة قلم؛ لأنها تحولت إلى ما يشبه نظام الحياة، الذي تكيف معه شعب بأكمله. فالسوري يولد ليجد نفسه عضواً في تنظيم «طلائع البعث»، ويصبح يافعاً ليدخل إلى «شبيبة الثورة»، ومن ثم يتدرج إلى عضوية اتحاد الطلبة والحزب.
حكاية حزب «البعث» هي قصص أجيال من السوريين، بعضها رحل، والآخر لا يزال على قيد الحياة يترقب النهاية السعيدة لكابوس سياسي طويل. أجيال هرمت وأخرى شابة، كلها بانتظار اللحظة التي ترى فيها ملف حزب الوحدة والحرية والاشتراكية، وقد صار مفتوحاً أمامها بعدما ظلّ تناوله من المحظورات.
وجد السوريون أنفسهم في الثامن من آذار سنة 1963 وسط عاصفة سياسية أخذتهم كل هذه السنوات الطويلة، وهم لا يملكون غير خيار الانحناء لها. عاصفة أتت على الأخضر واليابس وحوّلت الحياة السياسية إلى صحراء قاحلة، وصارت سوريا، التي كانت على مر التاريخ بلد حراك سياسي تعددي، ذات لون واحد، أخذ يبهت حتى بات بلا بريق أو نكهة. كانت الشاحنات تأتي بالمتظاهرين من الأرياف لترمي بهم في المدن، وهم يهتفون «حيدوا نحن البعثية حيدوا، حزب البعث بعد الله بنعبدوا»، فيما كان أطفال المدارس يحفظون عن ظهر قلب أغاني من نمط «الدهر دارت دورته والبعث قامت ثورته». ثورة؟ ذلك هو السؤال الذي وقف أمامه السوريون وهم لم يستفيقوا بعد من صدمة الانفصال في أيلول 1961، وكانت الأجهزة المصرية قد بدأت بنشر الملفات السرية للوحدة، التي تصب كلها في خانة اتهام «البعث» بالتآمر على الوحدة.
تقول الوقائع التاريخية إن البعثيين قفزوا على الحكم في الثامن آذار في انقلاب ليل، ولم تقم ثورة ولا من يحزنون، حتى إن الرفيق البعثي العراقي علي صالح السعدي، صاحب التصريح الشهير «وصلنا على ظهر قطار أميركي»، نصح رفاقه في دمشق بذبح عدة آلاف «لكي لا يقول الناس إن ثورة 8 آذار هي ثورة بيضاء». وظلت عبارته: «ماكو دم ماكو ثورة»، مادة للتندر والدعابة السوداء.
دارت دورة البعث على الرفاق أولاً، ولأن الثورة قررت أن لا تبقى بيضاء، فإنه لم يطل بها الوقت حتى بدأت تأكل آباءها، فكانت إطاحة الكبار من جيل المؤسسين مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز وجلال السيد وأمين الحافظ. ورغم أن الأمر أخذ في سنة 1966 صبغة يسار الحزب يقصي يمينه، فإنه في الحقيقة كان عبارة عن حركة أولى من طرف العسكريين الشباب أبناء الأرياف، الذين بدأوا يضعون أعينهم على السلطة، من أمثال صلاح جديد ومحمد عمران وعبد الكريم الجندي، وكان يلزم هؤلاء أن يتحالفوا مع فئات مدنية تسايرهم في فكرة تحويل البعث إلى حزب يساري يعتمد النظرية المادية، وهو ما نظّر له المفكر الفذ ياسين الحافظ، الذي ندم على ذلك لاحقاً. وكان من أبرز الشخصيات المدنية يوسف زعيّن ونور الدين الأتاسي. لكن تبين لهؤلاء، لاحقاً، أنهم لم يكونوا أكثر من فئة حالمة تطفو فوق واقع حافل بالمتناقضات، وتحدّه صراعات خفية على السلطة ظهرت في صورة علنية في أواخر سنة 1969، حين بدأت تلوح علامات الصدام بين الملك حسين والفدائيين في الأردن، وكان بروز حافظ الأسد وزير الدفاع السوري يمثّل العلامة الأبرز، وكان أن انتهز هذه المناسبة ليقوم بانقلابه في 16 تشرين الثاني سنة 1970، وبموجبه وضع رفاقه اليساريين في السجن من عسكر ومدنيين، جديد وزعيّن والأتاسي، ووصفهم بالفئة المناورة والمغامرة.
مرحلة السنوات الأربع (1966ـــــ1970) من تاريخ البعث هي الأغنى سياسيّاً في تاريخ سوريا الحديث، وقد اتسمت بثلاث سمات أساسية: الأولى هي الجدل والحوار داخل البعث نفسه حيال جملة من الخيارات السياسية، وكان الغالب هو الاتجاه الذي أراد تحويل البعث إلى تيار ماركسي، وصار بعض أنصار هذا التيار يعقدون لقاءات مع أطراف من الحزب الشيوعي السوري لبناء حزب طليعي. وذهب تأثر هؤلاء بالأفكار الاشتراكية إلى حد تقليد التجارب الروسية والصينية على صعيد الزراعة والدفاع.
والسمة الثانية هي مرحلة المراجعة داخل الحزب الشيوعي السوري، الذي برز فيه تيار يقوده رياض الترك، يدعو إلى كف يد السوفيات عن توجيه سياسات الحزب، وصياغة برامجه وأهدافه كما تقتضيه ضرورات الوضع السوري والقضايا العربية. ونجح هذا التيار في تكوين كتلة رئيسية تحت جناح الحزب الشيوعي ـــــ المكتب السياسي، تركت الأمين العام خالد بكداش أقليّة داخل الأطر القيادية، وقد أدى هذا التيار دوراً في إرساء الأسس لولادة اليسار الجديد، ليس في سوريا فحسب، بل في العراق ولبنان وفلسطين.
أما السمة الثالثة فهي ولادة اليسار الجديد، الذي انبثق من سلسلة حوارات ومراجعات قام بها الشباب الجديد، انطلاقاً من نقد هزيمة حزيران، وتكونت الروابط الثورية، التي أخذت بعد ذلك اسم رابطة العمل الشيوعي، ومن بعدها حزب العمل الشيوعي الذي استقطب قطاعات واسعة من الطلبة والشباب الباحثين عن فضاءات سياسية جديدة وعصرية.
إن حصول «الحركة التصحيحية» داخل حزب البعث في هذا الظرف كان مناسبة للربط بينها وبين النهاية الدموية لأحداث الأردن، وحصل على الدوام عطف موقف الأسد من عدم نصرة الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، على المباركة الإقليمية والدولية لانقلابه العسكري، ورُبطت المسألة بمواقفه اللاحقة في لبنان، وخصوصاً التدخل العسكري في سنة 1976 ضد الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية. كان بارزاً أن للأسد نظرة خاصة بالحزبية منذ اليوم الأول لوصوله إلى الحكم، ورغم أنه من منبت طبقي ريفي وفلاحي فقير، فإن نظرته اتسمت بالمحافظة، وتحكمت فيها عدة معطيات محلية وإقليمية ودولية، فهو راعى تجار البلد وتصالح مع أنظمة الخليج وفتح خطوطاً مع الغرب.
تاريخ البعث السوري تاريخان مختلفان. تاريخ ما قبل الحركة التصحيحية وما بعدها. والنظر إلى تاريخ البعث لا يكون من خلال دوره فحسب، بل من نظرته إلى نفسه وموقف المجتمع منه. كانت النظرة إلى «البعث» قبل الحركة التصحيحية أنه حزب طهراني، قياداته وأعضاؤه مضرب المثل في الاستقامة والبعد عن الفساد، ولديهم رؤية أخلاقية لإدارة الدولة والتصرف بالمال العام، وكانوا متأثرين بزعماء الثورات في أميركا اللاتينية وشرق آسيا وخصوصاً بثوار كوبا وفيتنام، الذين ظلوا أعفّة حيال إغراءات السلطة وامتيازاتها. ومن الأمثلة على ذلك، أن رئيس الوزراء يوسف زعيّن كان يتنقل في سيارة فولكسفاكن، ورئيس الدولة نور الدين الأتاسي لا يضع ربطة عنق، ووزير الداخلية لا يلبس حذاءً رسمياً، بل صندلاً شعبياً. وهم لا يسكنون في بيوت تحرسها قوات أمنية، بل في مساكن عادية. وكان الفساد مستنكراً، والرشوة أم الكبائر. واتضح ذلك جلياً بعد رحيل هذه المجموعة عن السلطة. ورغم أن الحزب كسب الكثير من العداوات في هذه المرحلة، فإن الاستقامة الأخلاقية والنزاهة اللتين اتسم بهما أعضاؤه وقياداته أبقتا احترام الناس له، بمن فيهم الأعداء الذين ألحق بهم الأذى، وهم كثر، وعلى رأسهم الإقطاع الزراعي الذي تضرر بسبب سياسة تأميم الأراضي وتوزيعها على الفلاحين. والأمر ذاته ينسحب على أصحاب رؤوس الأموال الذين فرّ قسم كبير منهم إلى الخارج، وخصوصاً لبنان والأردن، وأسهم هؤلاء في بناء اقتصاد البلدين المجاورين على حساب الاقتصاد السوري، الذي اختار التوجه الاشتراكي.
قلب البعث الصفحة سنة 1970، وعلى عكس ما كان الانتساب إليه يعد أمراً صعباً، وتحكمه شروط كثيرة، فتحت أبوابه لكافة السوريين، فتغير الجو العام داخله بسرعة شديدة، ولم تمض أكثر من ثلاث سنوات حتى بات يأخذ مكانة حزب السلطة، الذي أصبحت العضوية فيه باب كسب وأمان وظيفي وحياتي، ومن يومها صارت المعاملة التمييزية للبعثيين ومنتسبي شبيبة الثورة أمراً لا جدال فيه، حتى على صعيد القبول الجامعي. وفي سرعة قياسية تكوّن جهاز كبير من البيروقراطيين والمستفيدين، وترافق ذلك مع تغير صورة البعثي في عين المجتمع وصار يجري النظر إليه بوصفه مستفيداً في أحسن الأحوال، أو جزءاً من النظام الأمني الذي أخذ يطل برأسه من خلال الأجهزة الاستخبارية التي شرع نظام الأسد يسيّج حكمه بها.
بالتوازي مع إطلاق يد «البعث» دستورياً من خلال المادة الثامنة، جرى العمل بمنهجية على محاربة المعارضة الحزبية، من خلال أساليب الترغيب والترهيب، فمن لم يسر في ركاب البعث ويقر بحقه في «قيادة الدولة والمجتمع» والانضواء في ديكور الجبهة الوطنية التقدمية، حكم على نفسه بالعزل والإقصاء، وبسرعة شديدة صار البعث الحزب الواحد، لكنه لم يكن الحزب الحاكم فعلياً. ورغم أنه يُعدّ الحزب القائد، فإن لواء القيادة الفعلية كان معقوداً للرئيس حافظ الأسد، الذي هندس حياة سياسية بعيدة عن أي تأثير فعلي للحزبية فيها.
لم تعرف أهداف حزب البعث، وحدة حرية اشتراكية، مرحلة من التهميش كما في هذه الفترة؛ فالوحدة التي عدّها البعثيون أسمى أهدافهم، وصارت خريطة الوطن العربي شعار البعث، تحولت إلى عداوة لا حدود لها بين البلدين اللذين يحكمهما البعث، سوريا والعراق، وصارت تجربة ميثاق العمل القومي سنة 1979 بين هذين القطرين كما يحلو للبعثيين القول، بمثابة نكسة على العمل القومي ككل وعلى البلدين اللذين وظفا قسطاً أساسياً من طاقاتهما لتحارُبهما. ولا يختلف الأمر في ما يتعلق بالحرية، التي صارت تفسرها أدبيات البعث على أنها حرية الشعوب العربية من الاستعمار. وفيما رحل الاستعمار منذ عقود ولا تعرف عنه الأجيال الجديدة شيئاً، فإنه لا يزال شماعة لمصادرة الحريات للمواطن.
أما الاشتراكية فتحولت إلى مرادف لتعميم الفقر والتخطيط المشوه، وصار القطاع العام مأوى للعجزة وغير القادرين على اختطاف قوتهم من بين أنياب القطط السمان، التي نمت في الحدائق الخلفية للنظام، وبنت اقتصاداً موازياً قائماً على تحويل الاقتصاد الوطني إلى منصة لاقتصاد قائم على الفساد والنهب المنظم، فصارت مصانع الدولة خاسرة، وتراجعت الزراعة وانحطّ الريف وزحف نحو المدن التي سورتها العشوائيات التي تنذر بالانفجار وتعيش على سخط وتفاوت يفاقمه الإكراه الأمني الذي لا حدود لتدخلاته في حياة الناس.
وسط هذا التشوه وانقلاب الموازين وغياب المرجعيات، وتغير وظيفة الدولة، وتعاظم دور أجهزة الأمن، بقيت الآلة الدعائية تحفظ دوراً خاصاً للبعث الذي تحول إلى طريق للترويض، فكل سوري يولد بعثياً بالضرورة، لأن تجربة «طلائع البعث» إجبارية، وكل طفل سوري يذهب إلى المدرسة لا بد أن يتعرض لغسل دماغ لا يجاريه غير الأسلوب الكوري الشمالي، وتدل كثرة الرموز في حياة السوريين من تماثيل وأناشيد على أن دور هذا الجهاز هو تربية الأطفال على حب القائد.
حين رحل القائد الأب لاحت فرصة لنهاية كابوس البعث في حياة السوريين، ومرت فترة قصيرة تنفس فيها السوريون هواء «ربيع دمشق»، ومثّلت تجربة «المنتديات» فرصة لتهوية البيت السوري بأوكسجين جديد، وحتى أعضاء حزب البعث وجدوا في المناخ الجديد فضاءً يطلق حريتهم في التعبير، لكن الحرس القديم تصدى للتيار العام، وانبرى نائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام لمواجهة الحالة الجديدة، وصار يحذر من «جزأرة» سوريا، والمقصود من ذلك انتقالها إلى الفوضى السياسية التي عاشتها الجزائر بعد انهيار حكم الحزب الواحد سنة 1988. دُفنت تجربة «ربيع دمشق» في المهد، وكان قد لاح بعدها طيف أمل بعد خمس سنوات خلال المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث سنة 2005، حيث جرت حوارات داخلية في التعددية السياسية والإعلامية والفساد، ولكن الأوراق ومشاريع القوانين بقيت في الأدراج، وعاد الرئيس بشار الأسد ليتحدث عنها في خطابه الثاني في 16 نيسان من باب الإشارة إلى أن الحكم غير غافل عن قضايا الإصلاح، وهو يضعها في حسابه منذ خمس سنوات.
أراد الأسد خلال عشر سنوات من حكمه إصلاحاً على الطريقة الصينية، فأتاح المجال أمام انفتاح اقتصادي خلق حالة نمو وانتعاش أدت إلى إشاعة جو جديد استفاد من إيجابيات الانفتاح، ولكنه فتح أعين السوريين على حقوقهم في التعددية السياسية وحرية التعبير.
الأخبار
دولة الاستخبارات
الاستخبارات مفردة دخلت حياة السوريين وصارت مرادفة للرعب. اشتقّوا لها تسميات كثيرة وكتبوا عنها الروايات وصوروا الأفلام والمسلسلات. لكل سوري في زمن الأسد روايته الخاصة، وليس هناك أحد لم يعش تجربة التحقيق والضرب والاحتجاز والمساومة والضغوط والمنع من السفر. أجهزة أخطبوطية لها فلسفة خاصة لا يحددها قانون، قامت على الطاعة والإكراه
بشير البكر
حين توفي سلطان في باريس في مطلع سنة 2008، احتارت زوجته وابنتاه في دفنه. هو أوصى بأن تنقل رفاته إلى درعا، لكن الموافقة الأمنية لم تأت من سوريا. بقيت العائلة معلقة بين وصية الأب الذي احتضر ببطء وشجاعة وهو يقاوم السرطان، وموافقة الاستخبارات التي لم تراع الناحية الانسانية في المسألة. انتظرت العائلة عدة أيام دون جدوى، وجرّبت استعمال «الواسطة»، فتحرك وجهاء من درعا للقاء مسؤول مدني من أبناء عمومتهم لكي يتدخل ويحل المشكلة، فانتخى ووعد بإيجاد مخرج لقضية إنسانية، ولكنه اعتذر قبل أن تنفض الجلسة حين علم أن الاستخبارات لم توافق.
زوجة سلطان تقف عند حافة قبره في مقبرة الغرباء حين واريناه في الثرى، وهي تنتحب، والطفلتان اللتان ولدتا في باريس ولا تعرفان سوريا ضائعتان مشتّتتان. تسألان الحضور لماذا كل هذه القسوة؟ ما هي الجريمة التي ارتكبها والدنا حتى يُنفى ميتاً أيضاً؟ ماذا كان يضرّ الدولة السورية لو أنها سمحت بنقل جثمان الرجل إلى مسقط رأسه، لقد مات وانطوت الصفحة؟ ولا جواب. لا أحد يملك إجابة شافية في حضرة الموت يرشها فوق جرح العائلة كي يبرد قليلاً. يقول أحدهم إنه «التشفّي». هؤلاء يتشفّون بكم. يريدون أن يقولوا لكم إن هذا جزاء من يهرب من السجن. الوجوه واجمة والعيون كلها تنطق بإجابة واحدة: الاستخبارات لا قلب لها.
سلطان وقبله أبو يسار، ومن بعده فاروق الذي فارق الحياة بعد عودته من تظاهرة فرح برحيل الرئيس المصري حسني مبارك. تكررت المأساة مرة ثانية حين حاولت زوجته نقل رفاته ليدفن في مسقط رأسه حماه. كانت تظن أن الأوضاع تغيرت، فهي ذهبت عدة مرات وسمحت لها السلطات بالزيارة السنوية، بعد أن اعتقلتها الاستخبارات قرابة أسبوعين في المرة الأولى. حين عادت آنذاك، روت لجاراتها ذكرياتها من «بيت الموتى» السوري، فبكت النسوة الجارات كما في مجالس العزاء. فرنسيات ومغربيات وجزائريات وأفريقيات كن يستمعن ولا يصدقن أن هذه السيدة، التي كانت تريد فقط زيارة مسقط رأسها وبلدها الذي ظل يسكنها، كان عليها أن تمضي أسبوعين من التحقيقات ومراجعة فروع الاستخبارات قبل أن تطرد إلى باريس، لأن زوجها معارض للنظام.
تسألها جارتها الفرنسية بارتياب شديد: هل قمت بأعمال مناهضة للنظام في بلدك؟ من هو زوجك؟ هل هو مانديلا جديد حتى تتعرضين لكل هذا التعذيب؟ وتحار السيدة السورية ولا تجد الإجابة وتتنهد: الاستخبارات. زوجها ناصري وليس من الإخوان المسلمين ولا من الشيوعيين الراديكاليين. درس في فرنسا وكان يريد العودة بعد ذلك، ولكنه تورط في المشاركة في تظاهرات تطالب بالإفراج عن السجناء السياسيين، ووقّع بيانات تضامنية معهم، ولا تدري كيف صنّفته الاستخبارات في خانة الخطرين. هو نفسه كان يسخر من قلة عقل الأجهزة التي تشغل وقتها في متابعة معارضين مسالمين. هذا الرجل كان يمثل حالة بالنسبة إلى سوريين آخرين، لأنه نشط في إطار «لجنة التنسيق»، لا في «إعلان دمشق». وهذه اللجنة أخذت على عاتقها مهمة التنديد بمحاولات الادارة الأميركية الضغط على سوريا في السنوات الأخيرة. كانت اللجنة تقوم بنشاطات ذات أصداء إيجابية، وحظيت بتعاطف جاليات كثيرة، لأنها ركزت على استهدف سوريا من الخارج، ولكنها لم تلق رضى النظام، لأن أعضاءها معارضون. كأن لسان حال الاستخبارات يقول إن النظام وحده يستحق شرف الوطنية، وإنه هو سوريا، ولا يوجد سوريا أخرى بعيداً عن أجهزة الأمن.
ظل ابني وابنتي يسخران مني لفترة طويلة ويقولان لي أنت سوري «افتراضي»، لم نزر بلدك ولو مرة واحدة، ولم نر أهلك إلى اليوم. لا نعرف من هو والدك أو والدتك وإخوتك وأين ولدت. بلغنا الـ18 عاماً ولم نحصل على أوراق سورية. وكنت دائماً أقول لهم إن الاوضاع في سوريا تسير نحو الانفراج، فيردان بسؤال: وماذا فعلت حتى لا نذهب إلى هناك؟ فأجيب بصراحة شديدة تصل حتى السذاجة بأني كتبت مقالات وشاركت في نشاطات تضامنية تخص زملاء لي من الكتاب والناشطين في مجال حقوق الانسان. تضامنت مع رياض الترك وميشيل كيلو وعارف دليلة وفايز سارة وأنور البني. لم أفعل أكثر من ذلك، وكنت على الدوام أعارض محاولات محاصرة سوريا وتطويقها، واختلفت مع الكثيرين من الناشطين بشأن تحويل نشاطات حقوق الانسان إلى اعمال سياسية حزبية، والانتقال بعد ذلك للبحث عن وضع تمثيلي لمعارضة في الخارج من خلال لقاءات مع الأميركيين. وجمدت كل نشاط لي حين بدأ البعض يسير في هذا الاتجاه.
حين اتخذت هذا القرار، كان العديد من أصدقائي قد كسروا الحاجز، وذهبوا إلى سوريا. شجعني ذلك وأنا أعرف أن كل ما هو دون الخيانة الوطنية يعدّ رأياً وموقفاً، وبالتالي فإن خلاف الموقف لن يوصلني إلى السجن. قد أتعرض لمضايقات، وأدفع بعض الثمن، ولكن لن يصل الأمر إلى ما هو أسوأ من ذلك.
في نيسان 2008 دعاني صديقي نبيل، مندوب وكالة سانا، إلى حضور احتفال الاستقلال في المركز الثقافي السوري في باريس. لبّيت الدعوة وشربت أول كأس شمبانيا في حياتي على حساب الوطن. كرعته دفعة واحدة، فنظر إلي الساقي باستغراب، ولم يمنع نفسه من طرح السؤال: لمَ كل هذه العجلة؟ فأجبته بأن هذه أول كأس شمبانيا أرفعها في صحة الوطن. ضحك بطريقة لفتت انتباه الحضور، وقال لي: لنا في ذمتك الكثير من الوطنية، ولك في ذمتنا أنهار من الشمبانيا. وعلى الفور تحولت إلى مصدر فضول لبعض الحضور، فانهالت عليّ الأسئلة. كان تحقيقاً أوّلياً، نجحت في تجاوزه، لأني بعد أيام قليلة تلقّيت اتصالاً من مسؤول أمني في السفارة يريد أن يشرب معي فنجان قهوة. وافقت على الفور، ولم يكن هناك أي سبب لأن أربط بين فنجان قهوة في باريس وفنجان قهوة في دمشق، ولا سيما أننا حددنا الموعد في مقهى قريب إلى بيتي ذات ظهيرة يوم أحد في شهر أيار.
كان الرجل ودوداً في البداية، ثم تحول إلى عدواني فجأة، وجرّد سلسلة من الاتهامات للسوريين الذين يعيشون في الخارج. وضعهم كلهم في كيس واحد، وصار يرميهم بشتى النعوت: خونة، أساؤوا إلى الوطن. عملاء للغرب، يمضون أوقاتهم في التسكع أمام السفارات الغربية. يتلقون الشيكات من أجهزة الاستخبارات الغربية لتشويه صورة بلادهم. متآمرون…إلخ.
بعدما نفض جعبته، وجّهت إليه سؤالاً محدداً: لماذا طلبت أن نلتقي؟ هل من أجل أن تعيد على مسامعي هذه الأسطوانة المشروخة؟ لا أريد أن أسمع منك. من تنعتهم بالخيانة لا أعرف أحداً منهم. ومن واقع تجربتي، لم أصادف أحداً منهم في باريس أو لندن. من أعرفهم هم من الجامعيين والكتاب والصحافيين والفنانين. وكل هؤلاء رفضوا محاصرة سوريا بين سنوات 2003 و2006، ولم يشارك أحد منهم في مؤامرة. وهؤلاء في غالبيتهم هربوا من فساد الهواء في سوريا، وجاؤوا إلى الغرب لأنهم يريدون أن يعيشوا بحرية. ولحسن الحظ، فإن حق الحياة والعيش هنا غير خاضعين لأي مساومة. ورغم أن هؤلاء بنوا أنفسهم في الغرب، وأصبحوا مواطني البلاد التي فتحت صدورها لهم، ظلوا أوفياء لبلدهم الأصلي وقضايا المنطقة، من قضية فلسطين إلى المقاومة في لبنان واحتلال العراق. وهم لا يطمحون إلى أي دور سياسي، يريدون فقط أن تبقى صلتهم ببلدهم قائمة، ويتمعوا بحقوقهم من دون زيادة أو نقصان.
كان الرجل يستمع إلي وهو يهزّ رأسه مبدياً التفهّم الكامل. وفجأة طرح عليّ سؤالاً محيّراً: قل من الذي أخطأ بحق الثاني، أنت أم سوريا؟ خذها ببساطة، من الذي أدار ظهره كل هذه الفترة، أنت أم بلدك؟ قلت له نحن الاثنين. أنا غادرت ولم أعد، ولم تكن لدي رغبة في العودة لأن الظروف لم تكن ملائمة، وبلدي لم يشعرني بأني أستطيع أن أعود من دون دفع ضريبة تفوق طاقتي. واليوم، بما أن بعض أصدقائي عاد جزئياً، فإني أودّ أن أحذو حذوهم.
كرر طرح السؤال بالطريقة ذاتها. قل لي هل غادرت من تلقاء ذاتك أم طُردت من بلدك؟ لا، غادرت بقراري، لأني كنت أريد أن أنجو بنفسي. ردّ بعصبية، أرجوك لا تشرح لي، نحن أبناء اللحظة، وأنت تريد أن تزور سوريا. ليست هناك مشكلة، وأنت تعرف ما عليك أن تفعل. أنت كاتب وصحافي، لماذا لا تبدي هذه الرغبة في المصالحة مع بلدك من خلال كتاباتك؟ وأقول لك بصراحة، لكي أعطيك تأشيرة زيارة غداً، يجب عليك أن تكتب سيرتك الذاتية. لا أريد سيرة أدبية وشعرية. أريد أن تكتب لي كل شيء حصل معك من يوم خروجك إلى اليوم.
هل تريد مني أن أكتب تقريراً عن نفسي؟ ألا تكفي التقارير التي كتبها عني آخرون؟ لا أريد تقريراً. نحن لا نتعامل بالتقارير. أنتم معشر الكتاب تظلمون الأمن. الأمن لا يتعامل مع التقارير. كلّ همّه أن يتحقق من المعلومات. شيء أخير أريد أن أتفق معك عليه، «وأرجو ألا تفهمني غلط». وهو أني احتاج من حين إلى آخر أن ألتقي بك، وأتحدث معك، وأسألك رأيك في بعض الأحداث والأشخاص.
أعتذر عن هذا اللقاء. لقاؤنا اليوم هو الأول والأخير. ومن حيث المبدأ ليس لدي شيء ضدّك أو ضد مهنتك، ولكني لا أستطيع مساعدتك، فهذا ليس شأني. أنا كاتب ورأيي يمكن أن تعرفه من خلال كتاباتي، وليس لدي ما أخفيه بعد غياب ثلاثين سنة عن بلدي. وإذا أردت أن أعود فليس للعمل عند أحد، ولا لكي أصمت. أريد أن أعود كمواطن له حقوق في الوطن، وللوطن عليه واجبات. سوريا ليست لك لكونك في السلطة، هي لكل أبنائها.
برهان غليون، الأستاذ الجامعي في السوربون والمفكر التنويري المعروف، له أكثر من قصة مع عالم الأمن، منها ما هو طريف ومنها ما هو أشد من البلية. منها أن الظروف أجبرته على حمل جواز سفر موريتاني لسنوات. وفي سفرة من أسفاره كان ينزل في أحد الفنادق، وبينما هو يهمّ بالخروج، قالت له سيدة الاستقبال إن هناك وفداً طالبيّاً من بلادك يريد اللقاء بك، فما كان منه إلا الاستجابة، ظناً منه أنهم طلبة سوريون، ولكنه فوجئ بأنهم من موريتانيا.
وفي قصة أخرى، في إحدى زياراته لسوريا، طُلب منه أن يراجع أحد الفروع الأمنية قبل أن يعود إلى باريس، فاستقلّ سيارة أجرة وأعطى العنوان للسائق. طيلة الطريق كان السائق ينظر إليه بعطف شديد، وهو يتلو آيات من القرآن. وحين أوصله إلى المكان، رفض أن يأخذ منه نقوداً مقابل إيصاله، وقال له أنا لا آخذ فلوساً من الموتى. وحين استفسر منه ماذا يعني، قال له السائق يبدو أنك لا تعرف إلى أين أنت ذاهب. هذا فرع أمن، ومن يدخله لا يخرج منه حيّاً. فلا تحزن، لقد قرأت الفاتحة على روحك. ولكن حصلت معجزة وخرج برهان حيّاً.
الفرع اسمه فرع فلسطين. سألت أحد زواره الذين عادوا أحياء، لماذا يسمى فرع فلسطين. كان جوابه مراً، ربما لأن كل زواره من عملاء إسرائيل. يقول عادل إنه لم ينضم إلى أي حزب، وذهب إلى فرنسا للدراسة. وفي كل مرة يذهب للزيارة، يستدعيه الفرع. ليس هناك موضوع محدد، وحين تبدي تذمراً يردّ عليك الضابط «شو مفكّر الجنسية الفرنسية بتحميك. روح ارجع بكرة السابعة صباحاً». وحين أعود في اليوم الثاني يسألني الحارس: ليه مبكّر كتير؟ هيك قال لي الضابط. والله مبيّن عليك مواطن صالح بتعرف واجباتك. وحين يأتي الضابط، ينادي الحاجب، شو بيعمل هالحمار اللي قاعد برّا؟ سيدي إنت طالبو. خلّيه يرجع بكرة، شو مفكّر حالو شفناه ومش مصدقين. قلّو يحضّر كل شي عن معارفو بفرنسا. يدوم الأمر على هذا المنوال عدة مرات، وحين لم يجد الضابط لدى عادل معلومات مفيدة، يسهّل له المغادرة، شرط أن يزوّده ببعض الأخبار بين حين وآخر. وفي الزيارة المقبلة يأتي من تلقاء نفسه، وقد أعدّ تقريراً شاملاً عن جميع زملائه، بمن فيهم أعضاء حزب البعث. بدنا نعرف إذا ملتزمين منيح
الأخبار
رواية القاتل والقتيل
روايات القتل في سوريا كثيرة، ومنذ بداية الحركة الاحتجاجية تنتقل التهمة كالبارودة من كتف إلى أخرى. تعدد القتلة والموت واحد يتربص بأبرياء يُصطادون ويُمثَّل بجثثهم أحياناً. الاتهامات ترمى من جهة إلى أخرى. هناك من يحمّل السلطة المسؤولية، فيما تؤكد السلطة وجود عصابات ومندسين وسلفيين ومسلحين
بشير البكر
تغيرت لهجة الإعلام السوري في الأيام الأخيرة، وصار أكثر هدوءاً في التعاطي مع الأحداث، وغابت عنه نسبياً التعابير ذات الصبغة التعميمية. قبل بدء الحملة العسكرية على منطقة جسر الشغور، ظهرت تصريحات تتحدث عن وجود مسلحين يتمترسون في المنطقة من دون تحديد لهويتهم السياسية. صفة المسلحين الذين بات وجودهم وسعة انتشارهم اقتناعاً يزداد رسوخاً لدى الشارع السوري، لم تزد الأمر غموضاً، ولم تفسر الوضع، لكنها أعفت المراقبين من الدوران في دوامة الأوصاف الأخرى، التي ركزت في الأشهر الثلاثة الأولى على العصابات المسلحة الإرهابية والمندسين والسلفيين والمخربين.
العصابات تروّع الآمنين. لطالما ترددت هذه الجملة في الإعلام الرسمي السوري خلال الأيام الأولى من أحداث درعا. الجيش يطارد العصابات المسلحة، أو الجيش يقوم بمهمته الوطنية ويطهر أحياء درعا من العصابات المسلحة. ويذهب الخيال بعيداً وراء تعبير العصابات. وتكثر الأسئلة: من هي هذه العصابات المسلحة؟ وكيف ظهرت فجأة في سوريا التي يعد نظامها الأمني محكماً جداً؟
العصابات أشكلت على الكثيرين، وخصوصاً أن تعبير حرب العصابات ثوري في الذهنية العربية العامة. فهذا النوع من القتال استعاره الفدائيون الفلسطينيون من تجارب فيتنام، وحركات التحرر في أميركا اللاتينية. وظل الشارع ينظر إلى رجل حرب العصابات على أنه مقاتل غيفاري يؤمن بالتغيير من خلال فوهة البندقية. ورغم أن حروب العصابات في أميركا اللاتينية لم تكن بلا دماء، فإنها حظيت بالتبجيل، حتى إن الكنيسة في أميركا اللاتينية ابتدعت لاهوت التحرير، وسقط العديد من رجال الدين المسيحيين على درب الشهادة، وهم يقاتلون الدكتاتوريات إلى جانب عمال شركات الموز في كولومبيا والفلاحين في بوليفيا والبيرو ونيكاراغوا، ورفع بعضهم إلى مرتبة عالية في الوجدان الشعبي، ومنهم رمز حاز لقب قديس العصابات الشهيد في كولومبيا.
العصابات ظهرت في الأيام الأولى للحركة الاحتجاجية، وكان أول اتهامات وجهت إليها خلال تظاهرات جرت في مدينتي اللاذقية وبانياس، وفيما ظلت لغزاً إعلامياً استعصت على السلطة فكفكة طلاسمه، لم يصدق الشارع في غالبيته ذلك، وعدّ الأمر مجرد ذريعة للأجهزة لكي تبرر لنفسها عمليات القمع الدموي والرد بالرصاص على المتظاهرين المسالمين. لكن فئة من الرأي العام أخذت برواية العصابات في المدينتين، اللتين فيهما أنصار لكل من رفعت الأسد وعبد الحليم خدام. وبدا للبعض أن استغلال الفرصة من جانب خدام ورفعت على هذا النحو قابل للتصديق، فهما لا يستطيعان تحريك الشارع، وهما مرفوضان من الحركة الاحتجاجية التي كانت في ذلك الحين مطلبية مئة في المئة ولا مكان فيها للسياسة، ولكن ذلك لا يمنعهما من تصفية الحسابات وقلب الطاولة على النظام من خلال إذكاء شرارة نزاع مسلح. لذلك، لجأ أنصارهما إلى إطلاق النار على الطرفين، المتظاهرين وعناصر الأمن. وهدفهم من جهة تصوير الأمن كأنه يقتل المتظاهرين، ومن جهة ثانية تحريض المتظاهرين للخروج عن الخط السلمي، وبذلك يُورَّط النظام في لعبة الدم حتى تزداد الاحتجاجات وتأخذ الصبغة السياسية، ويتلطخ سجلّه في نظر العالم. اختفى تعبير العصابات، لكنه لم يسحب من التداول، إلا أن السلطة لم تقدم حتى اليوم رواية تحدد فيها طبيعة هذا العدو الذي ظهر فجأة بهذه القوة والتنظيم، إلى حد أنه ما إن يُجتَثّ في منطقة حتى يظهر كالسرطان في منطقة أخرى بعيدة جغرافياً، كالمسافة بين درعا وجسر الشغور، أو بين معرة النعمان والبوكمال.
فئة أخرى رماها الإعلام السوري بتهمة التخريب والقتل من أجل إيصال رسالة سياسية، هي المندسون. وهذه أثارت من السخرية المرة، أكثر مما تعاطى معها الرأي العام بجدية، وذلك بغض النظر عن حقيقة وجود هؤلاء. فئة كهذه حركت خيال بعض النشطاء على الفايس بوك، الذين ركّبوا عليها كليبات وأغاني تقول إحداها «قالوا عنا مندسين، ونسيوا يقولوا سوريين». وتبلغ السخرية مداها حين تنقل وكالات الأنباء صورة امرأة ملتحفة بالعلم السوري في إحدى تظاهرات الاحتجاج، وقد كتبت على ظهرها بخط عريض: مندسة.
ويروي القادمون من سوريا أن التعبير لقي صدىً شعبياً واسعاً في صورة عكسية وشاع في الشارع وصار الناس يتداولونه على سبيل النكتة، وتحول إلى رمز ذي قيمة تهكمية ومدعاة للسخرية من شعبية النظام، وبات توظيف المفردة تعبيراً عن عجز عن إنتاج رواية مقنعة عن مسلسل الدم. استخدام صفة المندسين لكشف قناع العناصر المسلحين بدا سطحياً ومبتذلاً، وحتى أقرب إلى الحشو منه إلى التفسير، ويدل ذلك على أن النظام لم يتمكن من بلورة خطاب إعلامي ناجح، ولهذا السبب توقف الإعلام عن حديث المندسين. في موازاة رمي التهمة على العصابات المسلحة الإرهابية والمندسين، جرى الحديث عن السلفيين، وهنا صارت الصورة أقرب وأكثر وضوحاً على المستوى المحلي، لكنها مختلطة على الصعيد الخارجي. ورغم أن قطاعاً من الشارع لم يصدق بداية رواية السلفيين، فإنها بقيت إلى اليوم حمّالة أوجه، بالنظر إلى امتدادات الحركة السلفية في المنطقة وطبيعة توجهاتها الإرهابية.
مبعث عدم تصديق الشارع لظهور حركة سلفية مسلحة يعود إلى عدة أسباب: الأول هو أن الحركة السلفية في سوريا تحت السيطرة منذ زمن طويل، وهي عبارة عن جزر متناثرة، منها من يتعاطى مع السلاح، ومنها من ينصرف إلى التدين الصرف والتصوف والدروشة. والذين حملوا السلاح من السلفيين لهم قصة طويلة مع الأجهزة السورية التي اخترقتهم، حسب شهادات خبراء محليين وغربيين، وتؤكد ذلك المعلومات التي سربها الأميركيون عن الجهاديين السوريين في العراق، الذين تجاوز عددهم في مرحلة من المراحل 10 آلاف مقاتل. الأميركيون يؤكدون أن الاجهزة السورية غضت الطرف عن هؤلاء، وسمحت لهم بالتسلل إلى العراق لمقاتلة القوات الأميركية، ولكن القسم الأكبر من هؤلاء تعرض للإبادة منذ عدة سنوات في معارك في الفلوجة والموصل، ومن عاد منهم إلى سوريا أودع السجن أو بقي تحت المراقبة. ولا تقتصر هذه الفئة على سوريين فقط، بل هناك عرب وأجانب، من السعودية ولبنان والأردن واليمن والمغرب وتونس والجزائر، قدموا من المهاجر. وكانت سوريا هي معبر هؤلاء للقتال في العراق ضمن صفوف تنظيم القاعدة. وسط التركيز على اتهام السلفيين، ظهرت رواية تنسب إلى جماعات كويتية صلتها بتيار سلفي سوري نما في الظل خلال السنوات الخمس الأخيرة. الرواية نشرها موقع «عكس السير» السوري، نقلاً عن موقع «شبكة نهرين نت الإخبارية» العراقية، من دون نفي أو تأكيد صحة ما جاء فيه من مصادر سورية أو كويتية. ونقل التقرير الإخباري عن مصدر كويتي مطلع لم يسمه قوله «إن ما يحدث في سوريا الآن، هو نتاج عمل دؤوب ومضنٍ بذلته أطراف دولية وإقليمية وكويتية»، واصفاً «الدور الذي مارسته جهات سلفية نيابية وسياسية ودينية في أحداث سوريا بأنه بالغ الخطورة، وساهم في التصعيد الأمني ضد النظام السوري، في غفلة من أجهزة الأمن الكويتية والسورية». وأضاف المصدر أن «عناصر من التيار السلفي في الكويت أسهموا في جمع الأموال وإرسالها إلى داخل سوريا، وخصوصاً من خلال مدينة درعا الحدودية مع الأردن، حيث نجحوا في إيجاد بؤر للتنظيم السلفي داخل مدينة درعا والمناطق الريفية القريبة منها منذ أربع سنوات، ومن هناك توسع التنظيم إلى حمص وحماة واللاذقية ومناطق ريفية أخرى، مقابل رواتب مغرية لكل عنصر ينتمي إلى هذا التنظيم يصل ما بين 500 إلى ألف دولار شهرياً». وكشف المصدر عن «تورط جمعية إحياء التراث الإسلامي في تمويل جزء من نفقات هذا التغلغل العقائدي والأمني إلى سوريا». وتابع قائلاً إن «جمعية إحياء التراث الإسلامي في الكويت تصرف ملايين الدولارات إلى داخل سوريا لصرف رواتب شهرية لاستقطاب الشباب المتدين، للانضمام إلى التيار السلفي، وتنظيمهم على شكل ميليشيات يمكن الاستفادة منهم في أي مواجهات قد تندلع مع الأجهزة الأمنية، كذلك غطت عمليات التبرع وإرسال الأموال لبناء المساجد لتكون مقارّ لهذا التيار». وأضاف: «إن تحركات جمعية إحياء التراث الإسلامي تجري بالتنسيق مع عناصر أمنيين ودينيين وسلفيين متطرفين في الكويت، أمثال محمد هايف المطيري ووليد الطبطبائي وخالد السلطان وضيف الله بورمية، وهؤلاء لا يزالون يواصلون التحشيد السلفي في الكويت والتحريض على نشر المقالات في الصحافة الكويتية ودعم قناتي (وصال) و(صفا) في التحريض المذهبي الطائفي ضد النظام السوري والهجوم على الطائفة العلوية».
ورد الطبطبائي على اتهامات الموقع السوري، ورأى فيها «محاولة لتصوير الثورة الشعبية السورية على أنها ثورة مذهبية تحظى بدعم التيار السلفي الكويتي مالياً». وأكد أن الموقف الكويتي الداعم للثورة السورية والثورات العربية في كل من اليمن ومصر وتونس وليبيا هو موقف شعبي يعبر عن جميع التيارات السياسية الكويتية، وليس دعماً محصوراً في التيار السلفي.
قد يكون نفي الطبطائي صحيحاً، وقد لا يكون، وكان الأمر يحتاج من السلطات السورية نفسها أن تقدم رواية متماسكة في هذا الصدد، وخصوصاً أنها أعلنت مصادرة أسلحة وأموال، واعتقلت أشخاصاً اتهمتهم بالضلوع في استخدام السلاح ضد الجيش وقوات الأمن والمواطنين، وقالت في أكثر من مرة إن هدف هؤلاء هو إقامة إمارة إسلامية، مرة في درعا، وأخرى في بانياس. وما يضعف من الرواية الرسمية أنها ليست على مستوى خطورة المشروع الذي تتحدث عنه، فضلاً عن كل المعلومات التي تؤكد أن الأجهزة السورية ليست غافلة عن تحركات التيار السلفي منذ عدة سنوات، بل إن التقديرات كانت تشير إلى أن النظام كان سيقوم بخطة استباقية لاعتقال هذه الجماعات لكي لا تركب الموجة الاحتجاجية وتقوم بأعمال تخريب. ولأن هذا الأمر لم يحصل، فإنه يطرح أسئلة ويثير الشكوك من حول محاولة بعض الأجهزة توظيف ورقة الحركة السلفية. لكن هذا التوظيف يصبح سلاحاً ذا حدين؛ فالحركة السلفية قد تستغل الفوضى وتعمل لحسابها. لكن في جميع الأحوال هناك معلومات شبه رسمية يجري تداولها في أوساط إعلامية قريبة من سوريا، تفيد بأن دمشق ستذيع قريباً الرواية الكاملة لتورط القوى السلفية في الأحداث، وستسمي شخصيات كويتية وسعودية. وهنا تحضر مفارقة هامة، وهي تتمثل في رد فعل الحركة السلفية في السعودية على اتهام النظام السوري للسلفية. وبرزت أصوات تدافع وتشرح طبيعة الحركة السلفية في السعودية، التي تعد نفسها ممثلة للإسلام حسب أصول السلف. ومن المعروف أن الحركة الوهابية، صاحبة الكلمة الأولى في السعودية، هي الحاضنة الفعلية لتنظيم القاعدة، ورفض شيوخها الكبار إصدار فتاوى تدين الأعمال التي قام بها التنظيم.
بعد مواجهات النظام السوري مع الإخوان المسلمين، والنهاية المأساوية في حماة سنة 1982، أصبحت الأنشطة الإسلامية المعارضة للنظام نادرة، لكن أعداداً كبيرة من المتدينين ظلت ترتاد الجوامع، وهناك من يشارك في حلقات قراءة القرآن، ويرتدون ألبسة متواضعة. كذلك إن أعداداً كبيرة من النساء بدأن بارتداء الحجاب، ونشأت ظاهرة القبيسيات كحركة دينية نسوية وانتشرت بسرعة، ولم يتنبه النظام لخطرها إلا في السنوات الأخيرة. وقد فسر كثير من البحاثة الغربيين في الشؤون السورية أن هذه الطقوس والمظاهر هي محاولة للنأي عن النظام، وربما معارضة له. أما تساهل النظام مع هذه المظاهر فهو يعود إلى سببين: الأول أن هذه الممارسات لا توحي بتهديد سياسي ما دامت في إطار الطقوس. والثاني أنه كان يريد من ذلك امتصاص تأثير الإخوان المسلمين وتجفيف منابع تسييس الإسلام.
المسلحون، صار التعبير يتردد كثيراً في الإعلام السوري، وحل محل العصابات والمندسين والسلفيين، وتجاوز الرواية الرسمية إلى أوساط سياسية وإعلامية أجنبية، كالولايات المتحدة وروسيا. لكن لا أحد يحدد هوية هؤلاء. ليسوا من السلفية ولا من العصابات. لكن الرواية التي تسعى المعارضة إلى ترويجها تقول إنهم عناصر منشقون عن الجيش، وهو ما رأى البعض أنه يفسر تأخر الجيش في اقتحام جسر الشغور. وفيما تفيد الرواية الرسمية بأن التأخير هو للإفساح أمام الأهالي للخروج من المنطقة لتلافي إيقاع ضحايا بين المدنيين، تقول أوساط إعلامية من الجانب التركي إن التأخير حصل نتيجة تحصن أعداد كبيرة من المسلحين، انسحبوا بعد ذلك إلى جبل الزاوية الذي تشير التقديرات إلى أنه سيشهد معركة قريباً. ولا يمكن فصل ذلك عن الخطة التي يعمل بمقتضاها الحل الأمني لتأمين المنافذ الحدودية مع بلدان الجوار، فبعد الأردن ولبنان وتركيا، جاء دور العراق، حيث نُقلت قوات عسكرية إلى دير الزور ومنطقة البوكمال.
الأخبار