ثلاثة مقالات لميشيل كيلو تتناول الانتفاضة الشعبية في سورية
سورية: مسألتان من زمن الازمة!
ميشيل كيلو
سأفترض أنه لم تقع حوادث في سورية، وأن أحدا لم يطالب بأي إصلاح أو تغيير، وأن الشعب واظب على التعبير عن سعادته الفائقة بأوضاعه الراهنة، وقصد مقرات السلطة كي يوقع تعهدات خطية يدين فيها كل ما يمت بصلة إلى الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، وكل من يطالب بأي شيء يتصل بها من قريب أو بعيد . هل يعني هذا أن سورية لم تكن قبل الأحداث الأخيرة بحاجة إلى إصلاح أو تعديل أو تبديل أو تغيير في أي جانب من جوانب سياساتها ومواقفها الرسمية، وأن ما قدمه النظام من تعريفات لمشكلاتها صحيح اليوم، كما كان ‘صحيحا ‘ قبل أربعين عاما ونيف، عندما قام نظامها الراهن؟ وهل يصح أن يصدق أحد أن مطلب الإصلاح لا لزوم له، وأن التطور مر على النظام دون أن يترك فيه أية ندوب أو شروخ، أو تظهر عليه أية علامة من علامات الضعف والشيخوخة، التي يسببها التطور العضوي الطبيعي ومرور الزمن، وتترك بصماتها على جوانب ومجالات كثيرة من حياة الكائن الحي : فردا كان أم جماعة أم نظاما سياسيا واجتماعيا؟
سأشير في هذه المقالة إلى أمرين أعتقد أنهما كانتا تفرضان مراجعة جدية لأحوال النظام ولعلاقاته مع الشعب، التي أنتجتها تطبيقات أيديولوجية معينة بدأت قبل خمسين عاما، وتؤكد الأزمة الراهنة، لدهشة كل من له علاقة بالشأن السوري، أن النظام يؤمن اليوم أيضا بصلاحيتها، ويتمسك بضرورة استمرار أسسها وفروعها، فكأنها تصلح لكل زمن وتنطبق على كل حالة، رغم ما ترتب عليها من نتائج بالغة السلبية على جميع أصعدة وجود الدولة والمجتمع، وحياة المواطن السوري العادي.
من المعروف أن النظام قام بين عامي 2003 و2005 بخطوتين بدلتا سياساته: إحداهما خارجية والثانية داخلية، وأنه لم ينفذ غيرهما من القرارات الكثيرة والمتنوعة للمؤتمر الخامس لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي انعقد عام 2005. أما الخطوة الأولى فهي تتصل بتحالفه الاستراتيجي مع إيران، الذي أمده بقدر من الحماية ساعده على مواجهة مخاطر تكرار الحالة العراقية ضده، لكنه أدرجه، في الوقت نفسه، ضمن سياقات إقليمية ودولية لا سيطرة حقيقية له على جزء كبير منها، فرضت عليه مواقف وضعته في مواجهة قوى عالمية أسهمت في قيامه عام 1970، ودخلت في علاقات خاصة معه ترجمتها خياراته الكبرى، العربية والإقليمية، مكنته من لعب دور رئيسي في بيئته المشرقية المباشرة، وخاصة منها لبنان وفلسطين.
ومع أن علاقات سورية مع إيران قديمة، ترجع إلى سبعينيات القرن الماضي، فإن طابعها شهد تبدلا حقيقيا بعد عام 2003، حول طهران إلى جهة مركزية فيها، على عكس ما كان قائما زمن الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي جعل من سورية بوابة طهران إلى العالم العربي وبوابة العرب إلى طهران، وكان هو الجهة المركزية والمحورية في العلاقة مع الدولة الصديقة . ومع أن إيران لم تنجح في إقامة علاقة مشابهة لعلاقتها مع سورية في أي مكان من عالم العرب، وإن أقامت علاقات هنا وهناك مع تنظيمات متفاوتة الحضور والتأثير، فإنها تحولت إلى بديل عن غائب (بديل عن دولة كان الوضع العربي يتمحور حولها هي مصر)، وجهة طالب رئيسها أحمدي نجاد العالم بمخاطبتها هي، كلما أراد الحديث مع العرب، بينما بلغ الوضع حدا جعل كبار قادة جيشها يعلنون أن الخليج كان دوما ملكا لدولتهم، وأن على قادته الاستقالة من مناصبهم وترك مواقعهم.
واليوم، يتعرض موقع إيران من العالم العربي وفيه لتحديات تغيير جدي يرجح أن يصير جذريا، سيترتب أساسا على عودة مصر إلى أمتها العربية الكبيرة والمستضعفة، ضمن حاضنة عامة تتماثل وتتلازم فيها لأول مرة خلال تاريخنا الحديث مطالب المجتمعات العربية وأهدافها، ستؤدي بالضرورة إلى تعزيز مكانة مصر القومية، وتوطيدها في كل بلد عربي بدرجة غير مسبوقة، وإلى تعظيم دورها إلى حد يجعله دورا داخلي السمات والوظائف بالنسبة للدول القائمة من جهة، وللمجال القومي بأسره من جهة أخرى، الذي سيلقي عبء تقوية هذا المجال وحمايته على عاتق القاهرة من جهة أخرى، خاصة في مواجهة ذلك الخارج الذي أقام حساباته على وهم جعله يتخيل أن هذا المجال لن يستعيد عافيته في مدى منظور، وأنه صار ضعيفا إلى الحد الذي يمكن إيران من الحديث بالنيابة عنه، ومن عقد صفقات مع الآخرين على حسابه . هذا التطور القومي / الإقليمي، الذي تلوح علاماته في أفق المنطقة، كان يجب أن يحتل أهمية جد خاصة بالنسبة إلى النظام في دمشق، بعد سقوط نظام مبارك، أقله لأنه سيبدل شروط إنتاج دوره في بيئته القريبة، وسيضعه، في حال واصل الاتكاء على طهران، في مجابهة مع عالم عربي سيعيد دون شك تجديد خياراته القومية وإنشاء علاقات من نمط مختلف بين أطرافه، ستكون محكومة من الآن فصاعدا بوحدة موقف المجتمعات وشعورها بأن باستطاعتها فرض خياراتها على حكوماتها، الأمر الذي يحمل في طياته إمكانية جعله نظاما مجافيا للحالة العربية العامة، ومعرضا لضغوطها، بينما لن تتمكن إيران من إمداده بالمساعدة الضرورية، في شرط يعرضها هي نفسها لمخاطر متعاظمة، تنتقل فيه نقاط ثقل الصراع بينها وبين خصومها انتقالا متزايدا من خارجها إلى داخلها: غير الموحد على مستوى السلطة، كما تؤكد أنباء ومعلومات كثيرة، ومستوى الشارع . ترى، ألا يطرح هذا التبدل بحد ذاته على النظام السوري حتمية مراجعة سياساته وخياراته الخارجية، وارتباطاته القومية والإقليمية؟.
إلى هذا، شهد الداخل السوري خلال العقد الأخير اتساعا كبيرا في الفجوة التي تفصل الأغنياء عن الفقراء، وفي تركيز الثروة على جانب تشغله قلة متناقصة الأعداد تتمحور أساسا حول السلطة وأثريائها، والعوز والفقر على جانب آخر يحتل الفلاحون وسكان الأرياف وعمال المدن والموظفون المكان الرئيسي فيه، مما أصاب حوامل النظام المجتمعية بالضمور وأفقده دعم جهات لطالما كانت موالية له ومستفيدة منه . أكرر هنا ما سبق لي أن قلته حول صلاحية هذا الحدث لتفسير أسباب انتشار الحراك في الريف والمدن شبه الريفية أو المرتبطة أساسا بالاقتصاد الزراعي ومعيشة الفلاح، كما بفقراء المدن والعائشين على هوامش مركزها الغني والحديث، وهذه ظاهرة فريدة يجب تأملها في ضوء محدد هو أن التحركات الجماهيرية كانت مدينية في معظم الاحتجاجات الاجتماعية الحديثة.
والآن: إذا كان صحيحا أن هذين التطورين يطرحان سؤالين مهمين حول علاقات النظام مع الخارج والداخل، ويحتمان إيجاد أجوبة عليهما في فترة غير بعيدة، وخاصة منهما السؤال حول مستقبل الحلف مع إيران وفاعليته في شروط ومستجدات التغيير، والمدى الذي يمكن الحفاظ فيه على أوراق النظام في لبنان وفلسطين بصورة خاصة، في حال تراجع دور إيران أو غاب الحلف معها، فإن النظام لم يكن بحاجة إلى الأحداث الأخيرة كي يعيد النظر في حساباته الخارجية والداخلية، ويفتح صفحة جديدة موضوعها علاقات من نمط مختلف، مفتوح وتفاعلي، مع داخله، الذي تحول في الأشهر القليلة الماضية، عقب الثورات العربية المنتشرة في كل مكان، إلى محل إنتاج سياساته الرئيسي، ويصير أكثر فأكثر محل تقويضه وتاليا إعادة إنتاجه، وإيجاد بديل أو مكمل خارجي لإيران، يصعب أن يكون مصر إن هو حسم أزمته الداخلية بالقوة وركز جهوده على إعادة الوضع بالصورة التي كان عليها قبل الحراك الاجتماعي، علما بأن قدرته على نسج علاقات ندية مع أية جهة خارجية بما في ذلك إيران – ستكون من الآن فصاعدا محكومة بظروفه الداخلية، وبالتالي محدودة ومقيدة، نتيجة لما تعرض له من ضعف داخلي وعزلة عربية وإقليمية ودولية بلغت حد العداء السافر في حالتي قطر وتركيا، و’الاصطياد في الماء العكر جدا ‘في حالة الإمارات والسعودية وكثير غيرهما من الدول العربية.
كيف سيعالج النظام هاتين المشكلتين، مع العلم بأن الأولى منهما تفتح الأبواب على تدخلات خارجية متنوعة، وأن ثانيتهما ترتبط بتخطي عواقب اقتصادية واجتماعية وبيلة للأزمة العامة الراهنة، التي تبدو آثارها السلبية جلية منذ اليوم في كل زاوية وركن من زوايا وأركان الحياة الاقتصادية، التي وصلت إلى مأزق حقيقي حسب ما يؤكده خبراء كثيرون يحذرون بقلق وخوف من نتائجها، ويعتقدون أنها ستكون مؤثرة على حاضر ومستقبل البلاد حتى في مدى متوسط؟. لا يفكر أحد في السلطة اليوم بهاتين المسألتين، لأن التفكير فيهما يبدو سابقا لأوانه، مع أن استمرار الأزمة الراهنة سيرتبط بنوع الإجابة العملية عليهما، وبما إذا كانت ستفضي إلى توجه جديد يطاولهما كليهما، أم أنها ستتجه إلى إنتاج وضع معدل بعض الشيء، يستخدمهما لتعزيز مواقعه، تاركا حلهما للزمن … غير الملائم إطلاقا!.
لم يكن نظام سورية بحاجة إلى الأزمة الداخلية الحالية، كي يبدأ إعادة نظر شاملة في خياراته وسياساته بعد ثورتي تونس ومصر . واليوم، وقد بلغت الأزمة حد الانفجار الداخلي، تمس الحاجة إلى أجوبة تتخطى أية ردود مباشرة عليهما، بعد أن خلقت ظروفا جديدة ستؤثر إلى مدى جد بعيد في علاقات السلطة مع الشعب، وستحدد الوجهة التي ستذهب بلادنا إليها، وما إذا كانت ستنجح في تجاوز ما يهددها من مخاطر.
تختبر الأزمات النخب الحاكمة والمالكة. هل تنجح نخبتنا الحاكمة / المالكة في اجتياز الاختبار الذي يطرحه عليها الحراك الحالي، بالتعاون مع شعبها ومن يختارهم شبابه هذه المرة، بعد أن ظهر جليا ما تركته سياساتها من آثار مدمرة على حزبها، وكم أصابته ممارساتها الأمنية وأحدثه فسادها من شلل قاتل فيه خلال العقود الأربعة الأخيرة؟
هذا هو السؤال، الذي سيقرر ما إذا كانت سورية ستنجو وستخرج من بحر المخاطر الذي تغرق فيه إلى شاطئ الأمان الذي لطالما تاقت إلى بلوغه.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي
إعلام يفضح أصحابه ويؤذي الشعب
ميشيل كيلو
لا بد من وقف إعلام الدم والتحريض، إذا كان يراد للأزمة السورية الراهنة أن تحل في أجواء من العقلانية والتوافق والسلام، وكانت هناك رغبة جدية في بلوغ حال من العدالة والحرية ترضي المواطنين ليس هناك ما هو أكثر قبحاً من أن يكون المرء عدو نفسه . ومن عداوة المرء لنفسه أن يقدمها بصورة منفرة تقنع الآخرين بأنها مريضة وفاسدة ومقيتة، وأن خير سلوك حيالها يكمن في تحاشي أي نوع من التعامل معها .
وتتجسم الصورة الأكثر تمثيلاً للسلطة في إعلامها: في ما تقوله فيعبر عن فهمها لنفسها وللغير، وعن نظرتها إلى العالم، سواء عندما تصف واقعه أو تتلمس بدائل كلية أو جزئية له . ليس الإعلام، إذاً، مجرد كلام يصدر عن هذه الجهة أو تلك، بل هو أكثر من ذلك بكثير: إنه الصورة المكتوبة أو المنطوقة أو المرئية كما تعكس الواقع كما يراه من يقفون وراء الإعلام، فهي، إذاً، الواقع وقد تجسد في مقولات وجملاً قد تكون مبسطة، لأنها تترجم أفكاراً لا تصلح كمادة إعلامية مباشرة، بما أنها على درجة من التعقيد أو التجريد تجعلها خاصة بنخبة أو موجهة إلى نخبة، غير أن هذا لا يلغي طابعها ووظيفتها كإطار عام تتم بمعونته قراءة مجريات وتطورات ومتغيرات ووقائع معينة، يقدمها الإعلام بلغة مفهومة تفك أقفال المخزون المعرفي والشعوري لمن يتلقاه، وتتفاعل معه بصورة مؤثرة، لذلك يجب أن تكون متفقة مع ميوله أو مسلماته كي تصير مقبولة لديه، وأن تخاطب عنده حساسيات شعورية ومضامين عقلية متنوعة، تغنيها أو تبطل أجزاء منها وتحل أجزاء أخرى، غالباً ما تكون جديدة، محلها، في عملية لا تتوقف .
عندما لا يكون للإعلام إطار فكري مضمر، أو يكون إعلاماً مبنياً على تسطيح وتقويض الوعي، فإنه ينحط إلى مجرد تهييج وتحريض، ولا يكون إعلاماً بأي معنى توضيحي/ تنويري كذلك الذي يقال عنه: إنه تاريخ الأيام، تاريخ أحداث كل يوم . عندئذ، فإنه لا يلقى القبول إلا لدى الجهلة والأغبياء الذين يقبلون التهييج والتحريض ويعيشون شعورياً عليه، .
هذا الإعلام لا يخلو فقط من إطار فكري، يحتويه كي يجعل منه إعلاماً، بل هو يخلو كذلك من أي إطار إنساني، لذلك تراه يتكون من جملة متصلة من صرخات مسعورة تدعو مستمعها أو مشاهدها إلى أن يكون مستعداً لإبادة كل شخص وشيء، من دون مراعاة أي اعتبار أخلاقي أو قانوني أو إنساني، أو أية قيود تفرضها على علاقات البشر مشتركات الحياة وقيم الأديان ومثل الخلق القويم، فالدعوة موجهة هنا إلى قيم مثلها الأعلى أن تكون قاتلاً كي لا تكون قتيلاً، وأن تسبق غيرك إلى السكين، حتى لا يسبقك إلى المسدس أو الصاروخ، وأن تبتسم باعتزاز بعد الإجهاز عليه، كي لا يطلق ضحكات مجلجلة بعد شرب دمك .
في الإعلام: من لا يوجهه الفكر، ولا يلتزم بقيم أخلاقية ودينية أو بقوانين وضعية، لا يحترم الواقع ويعتبره مادة يتلاعب بها، ومن خلالها بمشاعر وغرائز البشر . فهو لا يتوجه إلى العقول خشية أن ينبذ مخزونها المعرفي طابعه الشعوري/ الانفعالي، وإنما تراه يستخدم لغة غير عقلية أو عقلانية، تقتل أية محاكمة منطقية، وتفي أي مضمون للكلام قابل للفحص في ضوء التجربة أو يتفق مع أية خبرة معرفية مختزنة في نفوس متلقيه، فهي لغة مبالغة وافتعال وانفعال، تقسم العالم إلى مكانين: واحد للخير المطلق هو مكان من تدافع عنهم، الذي تريد تسويقه عند من تسعى إلى السيطرة على أقوالهم وأفعالهم، ومكان للشر المطلق يسكنه من تعاديهم أو تريد تشويه صورتهم . لهذا، يقوم فنها كله على التقاط مفردات خاصة، يشوهها التضخيم أو التقزيم، من واقع مفبرك هو واقعها الخاص، تريد إقناع المتلقي بأنه واقعه أيضاً، رغم أن هذا لا يؤمن بوجوده، لأنه لا يرى علاماته أو مفرداته في وجوده، ولا يلمس له أثراً في حياته، المادية والروحية . هذا المتلقي، الذي يكوّن قسماً كبيراً من جمهور وسائل الإعلام، يتحاشاه إعلام الدم والتهييج، ولا يتوجه إليه بخطابه، بل يسعى إلى تحقيره وتأليب “جمهوره” الخاص عليه، بتصنيفه في خانة سلبية وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً، وإلصاق صفات شنيعة به تجعل التخلص منه واجباً من الضروري أن يتصدى له كل “مواطن شريف”، وإلا ازدادت خطورته وقوض الحياة العامة والخاصة بكل واحد من أبناء الشعب . في الآونة الأخيرة، كان الدم يقطر من كلمات هذا الإعلام، ومن أشداق محطاته التلفازية والإذاعية، وكان جهد العاملين فيه، وجهد من يقف وراءهم، يتركز على فبركة واقع لا يمت إلى واقع سوريا بصلة، ينقسم السوريون فيه إلى أقلية مضللة مجرمة وقاتلة لا بد من تصفيتها، وأغلبية مخلصة طيبة قدر ما هي بريئة، من الضروري إنقاذها، بسفك دماء الأقلية المجرمة . هذا الواقع المصطنع والوهمي تترتب عليه نتائج عملية على قدر استثنائي من الخطورة، أقله لأنه يدعو السوريين إلى قتل بعضهم بعضاً باسم قيم دينية ووطنية وأخلاقية تحرم القتل، لو كان هذا الإعلام يراعي الواقع الحقيقي ولو من بعيد، لألقى نظرة فاحصة على المجتمع والدولة وأحوال المواطنات والمواطنين، ولأحجم عن الدعوة إلى قتل المظلومين المطالبين بحقوقهم من هؤلاء، ولساندهم ودعم مطالبهم، ولقال فيهم كلاماً جميلاً، بما أن مطالبهم شرعية باعتراف القيادات السياسية، التي يفترض بهذا النمط من الإعلام تأييدها، ودعم مواقفها . لكنه لا يؤيدها وإنما يعاكسها ويحرض ضد أي مطالب بأي حق مهما كان شرعياً، ويلحق القائلين بتحقيقه بالفتنة ورموزها ومسلحيها، الذين يتحدث ليلاً نهاراً عنهم، لكنه لا يقدم أي دليل ملموس على وجودهم لا بد من وقف إعلام الدم والتحريض، إذا كان يراد للأزمة السورية الراهنة أن تحل في أجواء من العقلانية والتوافق والسلام، وكانت هناك رغبة جدية في بلوغ حال من العدالة والحرية ترضي المواطنين . ولا بد من توحيد خطاب الإعلام مع رغبات الناس ومطالبهم المشروعة، وإلا أسهم بدوره في تكسير المجتمع وتقويض الدولة، وكان داعية عنف، وجانب وظيفته كساحة تواصل وتفاعل بين من يجب أن يزودهم بما يكفي من مواد أولية تعينهم على ممارسة حريتهم في النظر والعمل، ليصيروا بالقول والفعل مواطنين أحراراً، وحملة للشأن العام وللسلامة العامة .
في خضم البلبلة السائدة اليوم في سوريا، يزيد هذا النمط من الإعلام الدموي مشكلاتنا تعقيداً بدل أن يساعد على حلها . ويصير هو نفسه مشكلة يعني التصدي لها بدء الحل الفعلي للأزمة الخطرة، التي نواجهها .
الخليج
خريطة طريق سورية!
ميشيل كيلو
لا أعرف الشباب الذين يتظاهرون ويقودون التظاهر في سوريا منذ نيف وثلاثة أشهر. أنا أفتح الأنترنت كغيري وأتابع بعض ما يكتبونه، أو ما أعتقد أنهم يكتبونه، لذلك أتوهم أنني أستطيع التأكيد بأن أحدا منهم لا يتظاهر حبا بالموت أو بالشهادة أو بالتظاهر نفسه. وهم لا يريدون أيضا البقاء في الشارع، إذا كان هناك طريقة أخرى لتحقيق ما يطالبون بتحقيقه، ويتركز، في تقديري وظني، على مسائل ثلاث:
– انتهاج سياسات محورها حرية الشعب، مع ما يترتب عليها من تغيرات هيكلية تطاول أجهزة النظام وعلاقاتها مع الداخل السوري، ولا تقوم الحرية إلا على المواطنة كمبدأ حاكم وكبنية تنهض عليها هياكل الدولة وسياساتها، ضمانتها حكم القانون، وتكوّن رأي عام سياسي مستقل، ووجود صحافة حرة وقضاء مستقل، وأحزاب تتنافس بحرية في فضاء مجتمعي مفتوح، تكاملي وسلمي، ومساواة جميع المواطنات والمواطنين أمام القانون وفي الواقع، وتحول الدولة إلى دولة مؤسسات تكون لكل مواطنيها من دون إجحاف أو تمييز، لأي سبب أو اعتبار كان.
– انتهاج سياسات توزع ثروات البلاد بالعدل على فئات الشعب المختلفة، وتنهي احتكارها الكلي أو الجزئي من قبل عدد قليل من الأسر. ليس للشعب حصة حقيقية من وطنه، وهو يشقى ويتعب ويعاني الأمرّين في كل لحظة كي يحصل على رزقه، الذي يصير الحصول عليه أكثر صعوبة باضطراد، بينما تبتلع الحيتان حصصا لا تفتأ تتزايد من الدخل الوطني، وتضع يدها على موارد البلاد وتعتبرها ملكا خاصا وليس ثروات عامة للشعب النصيب الأكبر فيها، ويشاهد البشر بأم أعينهم مظاهر البذخ والفجور التي لا تصدق، بينما يحدثهم أرباب النظام عن العدالة وكأنها أساس الحكم والمساواة وكأنها متحققة، ويجدون أنفسهم خارج أية عدالة ومساواة، أمام خدمات منهارة بكل معنى الكلمة، ينالون منها أيضا نصيباً لا يني يتناقص، رغم أنه جد صغير.
– انتهاج سياسات تجعل تحرير الجولان مسألة وطنية تتمحور حولها علاقات الدولة السورية في الداخل والخارج، ويتم كل نشاط أو فعل داخلي وخارجي بدلالتها، فالشعب السوري يشعر بجرح في كرامته الوطنية، لأن أرضه محتلة منذ قرابة نصف قرن، ولأن حزب الله تمكن بقدرات محدودة بالمقارنة مع قدرات الجيش السوري من خوض حرب تحرير حقيقية لأرض الجنوب، بينما النظام السوري الذي ساعده هناك، يسكت على الاحتلال هنا، والجولان يبقى مسألة باردة وتالية من مسائل السياسة السورية الكثيرة.
بكلام آخر: يربط السوري العادي استعادة الجولان وشفاء جرح الكرامة الوطنية بتحقيق الحرية والعدالة، أي بالتحرر من جرح الكرامة الشخصية والاجتماعية. هذه هي، كما أعتقد، المسائل التي تفصل قطاعات شعبية واسعة جدا عن النظام، أو التي يدور حولها الصراع الحالي، وإن بصورة غير مباشرة أو معلنة.
هناك في هذا السياق ملاحظتان أوليتان:
– أن النظام، أي نظام في الدنيا، يجنح بمرور الوقت إلى مقاومة التغيير، خاصة إن طاول أسسه ومفاصله أو خياراته الكبرى التي ينتج نفسه انطلاقا منها، والنظام، أي نظام، يتجه خلال تطوره نحو هرمية متزايدة، تجعل قادته رموزا يعني المس بهم تهديده. ليس النظام في سوريا خارج هذه القاعدة. لقد تحول بمرور الزمن من نظام ثوري الوعود إلى نظام محافظ، وفي جوانب كثيرة، خاصة منها تلك التي تمس قيادته، رجعي، على غرار ما تحول النظام السوفياتي. لذلك قلنا ونقول: إنه ليس ثوريا أو حتى علمانيا إلا بقدر ما تفضي العلمانية إلى تقديس رموزه، وإن آليات إعادة إنتاجه تشبه آليات إنتاج النظم الدينية والمقدسة، فهي تاليا رجعية، أقله في لغتنا نحن أهل التقدم والتقدمية.
– أنه نظام أنتج نفسه من فوق، من السلطة، وهو لا يعرف كيف، ولا يريد أن يعيد إنتاج نفسه من تحت، من المجتمع. هنا يكمن جوهر أزمة السلطة في سوريا، والأزمة الراهنة مع قطاعات واسعة من الشعب. يريد الشعب، أو قطاعات واسعة منه، أن يعيد النظام إنتاج نفسه من المجتمع، من تحت. هذا ما طالبت به المعارضة الثقافية والحزبية في الماضي، وما تطالب به قطاعات شعبية واسعة في الشارع، منذ انطلقت حركة التغيير العربية الشعبية / المجتمعية الكبرى، التي تجتاح سوريا منذ نيف وثلاثة أشهر. بالمقابل، يريد النظام الحفاظ على مواقعه الراهنة، وعلى آليات إعادة إنتاجه المألوفة، التي أثبتت مرارا وتكرارا جدارتها وجدواها بالنسبة إليه، ويرفض الإقرار بأنها أدت إلى حدوث افتراق خطير بينه وبين الشعب، الذي بقي مغلوبا على أمره وصامتا خلال قرابة أربعين عاما، ثم وجد نفسه وسط عاصفة تقتلع نظما عربية تشبهه من أوجه كثيرة، فنزل إلى الشارع يجرب حظه، ويدفع ثمن نزوله.
ثمة هنا مشكلة جدية أنتجها التناقض بين رغبة الشارع في التغيير ورغبة النظام في الحفاظ على وضعه الراهن، لا خلاص منها بغير جواب ملائم على السؤال التالي: هل يمكن أن يوجد حل وسط بين هاتين الرغبتين؟ أو: هل يقرر النظام أن الواقع يمكن أن يتجسد في تعبيرات كثيرة محتملة، وأنه يستحيل أن يبقى على تعبير واحد لا يتغير، مهما كانت فاعليته ذات يوم، وإن ساد وماد خلال فترة زمنية طويلة؟ وهل يقرر النظام تلمس تعبير مختلف عن تعبيره الراهن، يستعيد فيه رؤية البعث الأصلية، التي دعت إلى نظام برلماني منتخب بحرية، وحق انتخاب حر ومتساو وسري، يوطد تعدد الأحزاب وحريتها، وصحافة حرة وقضاء مستقلاً ونظاماً وزارياً غير رئاسي، وملكية المنتجين لوسائل إنتاجهم وتسيير شؤونهم ذاتيا؟ وهل يضيف النظام الجديد إلى ما تقدم، إن هو قرر عودة كهذه إلى جذور البعث التاريخية، الحل الديموقراطي للمسألة الكردية، الذي يرى في الشعب الكردي مكونا رئيسا، تاريخيا وأصيلا، من مكونات الشعب السوري، له ما لبقية السوريين وعليه ما عليهم، سواء في ما يتعلق بالحقوق الديموقراطية وفي مقدمها حق المواطنة، أم بالحقوق الثقافية والحق في الانتخاب الحر لممثليه على كافة المستويات السياسية والإدارية ؟ أخيرا، هل يقرأ النظام في ضوء هذا الخيار مطالب الشعب الثلاثة ويستجيب لها باعتبارها مطالب لا تتعارض مع ما كان يعد ويتعهد أصلا بتحقيقه، ثم حاد عنه حين انحرف نحو نموذج سوفياتي للدولة والسلطة، صار من الضروري العودة عنه الآن، بعد أن سقط في كل مكان واختفى كنظام كوني وبدأ يتلاشى ويزول كنظام عربي، وها هو الشعب يعلن رفضه الصريح له في سوريا، وينزل إلى الشوارع كي يتخلص منه؟
أعتقد أن هذا سيكون ممكنا، بشرط رئيس: أن يفهم النظام أن حقبة إنتاجه من فوق قد ولّت وانتهت، وأن عليه، بعد الثورة الشعبية العربية عامة والسورية خاصة، أن يعيد إنتاج نفسه من تحت: بما يلبي رغبات المجتمع السوري ويتطابق معها. هذا خيار لا حيلة للنظام فيه ولا مهرب له منه، بعد اليوم، حتى إن نجح في سحق الحركة الشعبية بالعنف. إنه خيار إجباري يؤكده واقع لطالما تجاهله أهل النظام، يدفع الشعب اليوم من دمائه لإقناع أهل السلطة بحتميته، هو أن سوريا تعيش حقبة انتقالية منذ عام 1990، لو تفاعل النظام معها بإيجابية وقرأها بصورة صحيحة، لكان وفّر على نفسه وشعبه ما يعيشانه منذ ثلاثة أشهر. لكن النظام، بسبب محافظته ورجعيته، توهم أنه يستطيع وضع نفسه خارج التاريخ والواقع، وتمسك إلى اليوم بهذا الوهم، وإلا لما عالج الحراك الاحتجاجي بخيار أمني مسبق شامل وطاحن، و«حل سياسي» باهت وجزئي ومتعثر ووقتي، ولما تجاهل حقيقة أن هذا الحل الأمني هو حل صفري يستحيل أن يخرج منتصرا منه، حتى إن قمع الحراك الشعبي السلمي الواسع، وأنه حل قد ينفع لبعض الوقت وجزئيا في الداخل، لكنه فاشل مئة بالمئة في الخارج الدولي عامة والعربي خاصة، الذي لن يقبل في حال صار إسلامياً أو ديموقراطياً، الحكم باستمرار نظام سوريا على حالته الراهنة، وسيخوض معه معارك متواصلة إلى أن يسقطه، بمعونة الحراك الشعبي الداخلي الذي إن توقف غدا، فهو سيتجدد بعد غد، بوسائل غير سلمية وغير إصلاحية.
هنا تكمن النقطة الرئيسة، التي سيتوقف عليها مستقبل النظام وربما سوريا نفسها: هل يقبل النظام إنتاج نفسه من الآن فصاعدا من المجتمع، في توليفة جديدة تضمر العودة إلى شيء يشبه مبادئ البعث الأولى، تتيح له قبول مطالب الشعب الحالية وتغيير بنيانه وآليات اشتغاله وتركيبته، فيتسع حقله السياسي ليصير شأنا مجتمعيا عاما، ولا يعود مقتصرا على سلطوية شديدة الضيق تقف على أرجل أمنية / قمعية، يستحيل أن تحميه ضد شعب أيقظته المظالم التي يتعرض لها في الداخل، والحرية التي يرى تحققها في الخارج العربي؟
هذه خريطة طريق أولية كنت قد وضعت تفاصيل مسهبة عنها عام 2005، خلال مشاركتي بدعوة من حزب البعث في اجتماعات اللجنة الاستشارية المعنية بمسائل الحرية والديموقراطية، التي اجتمعت مرات متكررة قبيل مؤتمره القطري السادس. وهي من مراحل ثلاث:
– أولى يعقد خلالها مؤتمر وطني للمصالحة والتغيير، توضع خلاله عبر حوار وطني صريح أسس توافقية جامعة لحياة سياسية جديدة، يلتزم الجميع بالتقيد بها نصا وروحا، تتصل عموما بوحدة الشعب وسلامة الدولة والمجتمع ودستورية وقانونية علاقات مكونات الحقل العام الداخلية، وباعتبار المواطنة حامل الشأن العام، أي كل ما يتصل بالمجتمع والسلطة والدولة وبعلاقاتها، ويتم تحديد وتعريف أهم مشكلات سوريا، والتوافق على سبل مشتركة لحلها، على أن تحضر هذا المؤتمر جميع أطياف السياسة السورية التي ترفض استخدام العنف في المجال الداخلي السوري والاستقواء بالخارج، صديقا كان أم عدوا، وينتهي إلى برنامج متوافق عليه يوحد تنفيذه جهود من شاركوا فيه، كل حسب قدراته وإمكاناته، باعتبارهم جهات تنتمي منه فصاعدا إلى صف وطني واحد، وليست أطراف معارضة وموالاة متصارعة، تحمي وحدتها البلاد من المخاطر الخارجية، وخاصة منها الإسرائيلية، وتنتج وحدة وطنية قاعدية، مجتمعية وشعبية، تقوم من جهة على التنوع، ومن جهة أخرى على شراكة مديدة في المنطلقات وطرق العمل والأهداف الجامعة. ليس الهدف من المؤتمر انضمام أحد إلى الجبهة الوطنية التقدمية أو العمل تحت قيادة النظام، مع أن دوره سيكون حاسما في المؤتمر كما في تحديد المشكلات وسبل حلها والتصدي لها.
– ثانية يتم فيها العمل على توسيع الفضاء الداخلي الحر، الذي وضعت لبناته الأولى في المؤتمر وخلال تنفيذ برنامجه الموحد، يمكن للجميع الانضمام إليه والتحرك بلا قيود فيه، من دون أن يصطدم بصورة عدائية أو عنيفة بغيره. يتطلب خلق هذا الفضاء الاعتراف القانوني والنهائي بشرعية الأحزاب التي شاركت في المؤتمر، ومنحها حق إصدار صحف حرة وممارسة نشاط سياسي مستقل يغطي كامل الرقعة الوطنية، والمشاركة الحرة والتنافسية في أية انتخابات، على أن تراعي الأحزاب أسس التوافق الوطني في أي جهد تبذله، وتضع في أولوياتها تنفيذ نصيبها المتوافق عليه من أي عمل وطني جامع، من دون أن يعني ذلك الامتثال لما تراه السلطة وقبوله من دون نقد أو تحفظ، أو الامتناع عن بلورة رؤى وبرامج حيال مسائل العمل العام لا تمس بالثوابت. هذه المرحلة يمكن أن تكون طور اختبار وتعلم: اختبار للشراكة الوطنية الجامعة، وتعلم نقدي متبادل تمارسه أحزاب العمل الوطني يتيح لها تصحيح ما قد ترتكبه مجتمعة أو متفرقة من أخطاء، وتعزيز وتطوير العمل الذي تنجزه مجتمعة. ومن الممكن طبعا أن تشارك الأحزاب خلال هذه الفترة في حكومة اتحاد وطني تكلف بإنجاز المهام التي توافق عليها المؤتمر. يمكن لهذه المرحلة أن تمتد طيلة عام أو عامين، يتم خلالهما توطيد استقلال القضاء وفصل السلطات، والانزلاق تدريجيا نحو المرحلة الثالثة.
– المرحلة الثالثة هي مرحلة تداول للسلطة، وقيام نظام برلماني يفصل بين السلطات… الخ، على أن ينتخب في نهايتها رئيس نظام تكون الحكومة مسؤولة فيه أمام البرلمان المنتخب، الذي يكلف رئيس الحزب الذي نال أعلى الأصوات بتشكيلها. هذه المرحلة تستمر بدورها من عام إلى عامين، يتم فيها انتقال سياسي مخطط وواع، يستظل شراكة وطنية تتوطد أكثر فأكثر، هي مصلحة لا شك فيها لجميع السوريين.
تمر سوريا في طور انتقالي أنتج احتجازه أزمتها الحالية، التي تحمل أخطارا قاتلة على شعبها وكيان الدولة الوطني. هل يمكن لها أن تنجز انتقالا آمنا وسلميا ومتوافقا عليه، يجنّبها المخاطر ويأخذها إلى بر الأمان، فيكون قدوة في السلمية والمدنية، وأنموذجا يشهد على عقلانية نخبها السياسية والحزبية، وقادتها، وعلى متانة وحدتها الشعبية والمجتمعية، وقوة دولتها؟ هذا هو الأمل الوحيد الباقي لنا، والذي علينا تحقيقه، وإلا انقلبت أوضاعنا إلى كابوس ليس ما نشهده اليوم غير بداياته الأولى!