ثلاث مقولات عن سوريا
زياد ماجد
تُقفل الثورة السورية عامها الأوّل بعد أيام، مؤكّدة شهراً بعد شهر استثنائيّتها في هذا الربيع العربي، إن لجهة الشجاعة الأسطورية والمثابرة الشعبية على مواجهة الاستبداد طلباً للحياة والحرّية، أو لجهة الهمجيّة غير المسبوقة في ردّ النظام عليها ومحاولته سحقها. لكن الثورة تُقفل عامها الأوّل مؤكّدة أيضاً أنها الحالة الأكثر تعقيداً وصعوبة بين سائر الحالات العربية. وليس الانقسام الحاد حولها وصمت الكثير من المثقّفين العرب تجاهها كما ضعف ردود الفعل العالمية الشعبية على جرائم النظام ضدّها سوى مؤشّرات الى صعوبة الظروف التي تواجهها، خاصة بعد ملل قطاعات واسعة من الرأي العام من أخبار الثورات واستسلامهم لمقولات لا تفيد راهناً غير النظام السوري.
الأسطر التالية، محاولة للردّ على ثلاث من هذه المقولات الرائجة التي يُكرّرها متردّدون أو عاجزون (أو منافِقون) لتبرير صمتهم تجاه المسألة السورية.
– مقولة الخوف من الفوضى والحرب الأهلية إن سقط النظام: تنطلق هذه المقولة من نظريّتين، واحدة مفادها أن المجتمع السوري يحتاج لنظام استبدادي كي يمتنع أبناؤه وبناته عن التطاحن، والثانية معناها أن ما يجري منذ عام وسقوط قرابة العشرة آلاف قتيل وإصابة واعتقال وتعذيب وتشريد مئات الألوف هو دون حال الفوضى أو هو أقل شرًّا من الحرب الأهلية.
النظريّة الأولى فيها مزيج من الجهل والعنصرية، إذ تعدّ التجارب الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تبنيها الحرّيات والقوانين إن توفّرت معدومة التأثير على الأفراد والجماعات، وأن الضمانة الوحيدة لردّ الناس عن أعناق بعضهم في بلادنا هي البطش والسجن والمنفى المعمّم عليهم. والنظرية الثانية ترفض اعتبار الأهوال الواقعة، والمتواصلة يومياً منذ عام، كافية للوقوف ضد نظام بحجّة أن أهوال إضافية – ولو افتراضية! – قد تطرأ إن هو سقط. أمّا كيف تُصنَّف مجازر النظام وسلوكيّات شبّيحته، ودوزنة العنف تجاه المواطنين وِفق مناطقهم وولاءاتهم الأولية، فأسئلة لا يبدو أنها تستفّز أصحاب المخاوف ولا تدفعهم للاقتناع بِأنّ أفضل السبل لتجنّب المزيد من الفوضى واحتمالات الحرب الأهلية هو تقصير أمد المعاناة القائمة والمطالبة برحيل عائلة حكمت البلاد – وهي جمهورية – على مدى 42 عاماً…
– مقولة الخوف من الإسلاميين بعد تحوّل الربيع العربي الى خريف: تستند هذه المقولة الى فكرة مفادها أن التيارات الإسلامية هي البدائل الوحيدة للأنظمة القائمة وأن الثورات العربية انتهت الى حكومات أخوان مسلمين في تونس ومصر والى فوضى فتاوى ومعارك مع القاعدة في اليمن وليبيا.
والتدقيق في الفكرة المذكورة يوضح أمرَين: الأول أن أصحابها يجترّون شعارات الأنظمة العربية البائدة أو المستمرة، المُعتمَدة منذ ثمانينات القرن الماضي بدون تدقيق في مراميها. ذلك أن المقصود هو إيثار الأنظمة الدكتاتورية ومنع الناس من الانتخاب ومن التعبير عن آرائهم بحجّة خطر الأسلمة السياسية. والثاني هو خلط الأمور ببعضها ووضع جميع “أصحاب اللحى” الأخوانيين والوسطيين والسلفيين الدعويّين والجهاديين والصوفيين في سلّة واحدة، لتفضيل قوانين الطوارئ والأحكام العرفية على الحريات السياسية وصناديق الانتخابات التي قد توصل بعض “المُلتحين” الى السلطة، وقد تخرجهم منها بنفس الطريقة بعد فترة إن هم فشلوا…
الأهمّ من ذلك، هو أن “الأسلمة” التي يتخوّف منها أصحاب المقولة المذكورة إنما تتزايد نتيجة الاستبداد وممارساته القمعية التي تدفع الناس الى البحث عن سبل تماسك وأمان نفسي واجتماعي، فتجد الدين ملاذها والمسجد فضاء لقائها الوحيد المتوفّر في ظل منع النشاط السياسي وتقييد حرّيات التجمّع واحتكار الساحات العامة للصور العملاقة وهتافات الولاء الأبدي… وإن تحوّل الاستبداد من عنف رمزي الى عنف جسدي وبدأ الدم يُراق والموت يحلّق فوق الرؤوس، أصبح الدين أكثر حضوراً في طقوسه ومناخاته ومصطلحاته، ثم في التحفيز النشاطي، وأصبحت جماعات الإسلام السياسي أكثر قدرة على الاستقطاب والعمل. فكيف والحال أن عاماً بأكمله مضى في سوريا والقتل مسلّط على السوريين والسوريات يومياً بلا رادع وبأبشع الأساليب؟
حق الإسلاميين على اختلاف توجّهاتهم بالعمل السياسي والانتخابي بديهي. والحيلولة دون تحوّلهم قوّة أولى في المجتمع تتطلّب التعجيل بإسقاط الاستبداد، الذي كلّ ما طال أمده وتمادت ممارساته، كلّ ما اتّسع الجمهور الجاهز للإنضواء تحت رايات الإسلام السياسي المواجِهة له.
– مقولة تسلّح الثورة ولجوئها الى العنف الأهلي: تذهب هذه المقولة الى مساواة الثورة بالنظام استخداماً للعنف، بهدف “النأي” عن الانحياز لأيّ منهما. والغريب أن معظم من يعتمدونها لم يعبّروا مرّة عن دعمهم للثورة في أشهرها الستة الأولى (حين كانت جميع أوجهها واستحقاقاتها سلمية تواجه نيران الدبابات وسكاكين المحقّقين)، أو هم كانوا يكتفون بمواقف خجولة تجاه الضحايا والمعاناة الإنسانية.
لكن هل انتهت سلمية الثورة أصلاً؟ وكيف نسمّي الـ500 الى 600 مظاهرة كل يوم جمعة، وعشرات المظاهرات يومياً في معظم أرجاء سوريا؟ وكيف نسمّي كذلك الإضراب وحملات المقاطعة والعصيان وابتكارات الرقص والغناء؟ وماذا عن الملصقات والأفلام والفنون ورسوم الكاريكاتور والمقالات والدراسات؟…
السلمية ما زالت الطابع الأبرز للثورة السورية وما زالت محور مشاركة أكثرية الناس. لكن مع تصاعد جرائم النظام، وانتقال معدّل أرقام الضحايا من 20 في اليوم الى 40 (قبل تخطّيه المئة منذ مدة)، وازدياد عدد المنشقّين عن الجيش أو التاركين خدمته، والحاجة لحماية أي تجمّع شعبي من بطش الشبيحة، بدت العسكرة مساراً لا مفرّ منه. وربّما لو شارك جميع المُشتكين اليوم من التسلّح في دعم الثورة قبل عام، لكانوا وفّروا وصول الأمور الى ما وصلت إليه…
وفي أي حال، لم يعد وقف مسار العسكرة ممكناً أو مفيداً. ما يفيد اليوم هو الاستمرار في المسارات السلمية التي يُبدع السوريون والسوريات في ابتكارها، وتنظيم المسار العسكري المُوازي على نحو يوفّر له مرجعية سياسية وإدارية توظّفه وِفق موازين القوى الميدانية في سبيل السماح للثورة بالتوسّع وصولاً الى إسقاط النظام.
الثورة السورية تطوي إذن العام الأوّل من عمرها، وتستعدّ رغم الجراح لاقتحام العام الثاني والعبور خلاله الى الحرّية. وأصحاب “المخاوف” ومحبّو الاستبداد يستمرّون في البحث كل فترة عن أمر أو تفصيل يُتيح لهم إشاحة وجوههم أو ضمائرهم أو عقولهم عمّا يجري من حولهم. لكن الزمن، لحُسن الحظّ، لا يتوقّف كثيراً عند كلامهم، والنِسيان سيطوي، يوم سقوط الاستبداد، مقولاتِهم كما صمتِهم…
موقع لبنان الآن