ثمة خيار ثالث لمواجهة الأزمة السورية
نيكولا نوا
عرفنا الآن من مسؤولين أميركيين لم يتم الإفصاح عن هوياتهم في وسائل الإعلام العربية أن إدارة أوباما تبحث عن سبل لاستمالة مسؤولين وناخبين وقادة عسكريين بارزين وإبعادهم عن سياسة القبضة الحديدية التي يتبعها الأسد على أمل حصول سيناريو مشابه لأحداث مصر في المستقبل القريب.
في تحول خطير آخر في الشرق الأوسط، ها هم داعمو سياسة التدخل الليبرليون يتضامنون مجدداً مع المحافظين الجدد من مؤيدي استعمال القوة من أجل الدفاع عن ضرورة انهيار النظام السوري، في أقرب فرصة ممكنة.
على عكس ما حصل خلال الأحداث التي مهّدت لحرب العراق الكارثية، بدأ هذا الإجماع بين المحافظين الجدد والليبراليين يكسب زخماً إضافياً مع أنه يطرح خيارات بديلة محدودة، عدا المحاولة الهزيلة من جانب إدارة أوباما لعرض “صفقة كبرى” على النظام السوري: “الإصلاح أو الموت في سبيله”.
لكن يدرك معظم مستشاري أوباما أن خارطة الطريق الدولية هذه ليست موثوقة بالنسبة إلى نظام متخبط يتمتع أعداؤه الخارجيون بهذا القدر من النفوذ والقوة (لا ننسى مسألة الأراضي السورية المحتلة).
فضلاً عن ذلك، لا تقدم “خطة” أوباما أي عروض إيجابية، أو مكافآت، إلى النظام أو النخب الحاكمة، من أجل دفع تلك الجهات إلى إرساء استقرار حقيقي وإدارة مرحلة انتقالية، أو من أجل خلق ما يكفي من الانقسامات داخل النظام في حال رُفض العرض، وذلك بهدف تعزيز موقف المعتدلين تمهيداً للوصول إلى ذروة الأحداث الحاسمة (وبالتالي تقليص احتمال انتشار العنف مستقبلاً عند وقوع أي أزمة).
نتيجة شح الأفكار والحلول في هذا المجال، قد تصبح الحملة الجارفة التي يقودها المحافظون الجدد والليبراليون واقعاً ملموساً مع مرور الأيام، لكن مع تجنب الحديث علناً عن تطبيق سياسة التدخل كما حصل في ليبيا (لكن نظراً إلى التصريحات السابقة، ربما يتمنى المحافظون الجدد في سرّهم حصول ذلك). وبالتالي، قد يقترح اللاعبون السياسيون الخارجيون النافذون سياسة بديلة من شأنها تسريع تداعيات التناقضات الداخلية في سورية وتشديد الضغوط حتى تبلغ ذروتها.
لكن مشكلة هذه الصيغة في الأساس هي أنها ستؤدي، بالنسبة إلى الشعب السوري تحديداً، إلى نتائج أسوأ من الحرب الأهلية الحاصلة في ليبيا حتى هذا اليوم، وفي هذا الإطار، قال أحد الناشطين السوريين الذين عبروا الحدود باتجاه لبنان لمراسل غربي، في وقت سابق من هذا الشهر، إنه يرى الحاجة إلى التضحية بحياة مليوني أو ثلاثة ملايين سوري لبلوغ الحرية.
ولا ننسى ارتفاع احتمال وقوع حرب إقليمية (فضلاً عن تداعيات أخرى غير مقصودة) نتيجة مقاربة “تسريع الانهيار” هذه!
برز خيار مثمر آخر منذ بدء الاحتجاجات على الأقل، لكن يصل احتمال تطبيقه إلى “خط اللاعودة” في كل مرة يكثف فيها النظام أعمال العنف ويستثمر اللاعبون الخارجيون المزيد في هذا الوضع القائم (عبر إلقاء الخطابات أو توفير التمويل أو غير ذلك)، وفق سياسة تعتمد على تسريع انهيار النظام.
باختصار، بدل الاكتفاء بطرح صيغة تدعم العملية الانتقالية وتسليم السلطة أو مواجهة عزلة تامة واضطرابات متزايدة واحتمال انفجار الوضع، كان يمكن أن تتحد إدارة أوباما وأوروبا والدول العربية الأخرى وتركيا لطرح خارطة طريق حقيقية من أجل إرساء الاستقرار فوراً وإطلاق مرحلة انتقالية على المدى المتوسط تمهيداً لترسيخ المبادئ الديمقراطية، إذ لا تزال هذه الأطراف قادرة على اتخاذ خطوة مماثلة.
لكن يجب أن تُنفَّذ هذه العملية الانتقالية ضمن استراتيجية تؤدي فيها الولايات المتحدة دوراً حاسماً في إعادة هضبة الجولان المحتلة كاملة إلى الشعب السوري (في هذا المجال، برز اقتراح متعلق بحدود عام 1967 كان قد وعد به أصلاً رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، وهو يُعتبر شبه مقبول من الفئة السياسية الاسرائيلية- على عكس العرض الذي اقترحه أوباما حديثاً- ويعود ذلك تحديداً إلى الدعم الذي حظي به الاقتراح من بعض المسؤولين الأمنيين البارزين والضباط العسكريين من مؤيدي استعمال القوة).
لكن يفترض هذا الخيار خطوات عدة:
1) انعقاد مؤتمر دولي فوري لدعم الاقتصاد السوري.
2) تطوير خطة شبيهة بمشروع مارشال، فضلاً عن تخفيف العقوبات الاقتصادية من أجل إنقاذ العملة السورية والتمهيد لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية، الأمر الذي سيضر على الأرجح بعدد كبير من السوريين على المدى القصير والمتوسط.
3) إلزام النظام السوري علناً بتحديد جدول زمني لتطبيق اقتراحات الإصلاح السياسي التي طرحها أصلاً السوريون المقيمون داخل سورية (حملة واسعة لإطلاق سراح المعتقلين وانسحاب الجيش أولاً، تحديد تواريخ واضحة لإجراء انتخابات حرة وعادلة على المدى القريب، تطبيق إصلاحات قانونية لتعزيز انفتاح قطاع وسائل الإعلام وإصلاح الأجهزة الأمنية).
4) التزام الرئيس الأميركي وحلفائه علناً بتسريع مسار المفاوضات بشأن سورية وفقاً لشروط اقتراح رابين. صحيح أن النزعة الراهنة تقضي بالتغاضي عن تاريخ المفاوضات الأخيرة (يعتبر المحافظون الجدد والليبراليون أن تركيبة النظام هي التي تجعل السلام ممكناً)، لكن كاد والد بشار الأسد يوقع على اتفاق مماثل في عام 2000، وسرعان ما تردد رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك في اللحظة الأخيرة بشأن إعادة بضع مئات الأمتار من الأراضي حول بحيرة طبريا في الجولان. عام 2008، اقترب بشار الأسد نفسه من عقد اتفاق قبل أن تشن إسرائيل حربها على غزة، ما أثار سخط الوسطاء الأتراك.
في ما يتعلق بالإصلاح السياسي، لا شك أن الأوضاع تبدو مبهمة جداً بالنسبة إلى الكثيرين في الولايات المتحدة وأوروبا تحديداً.
لكن لن يتمكن النظام أو السوريون من استيعاب أي قفزة فورية وجذرية نحو الديمقراطية الكاملة من دون سقوط العملية السياسية القائمة بالكامل (لا بد من احتساب المخاطر الأخلاقية والاستراتيجية المترتبة على سياسة “تسريع الانهيار”).
فضلاً عن ذلك، إذا أراد الغرب المطالبة بتحديد تاريخ للانتخابات الرئاسية مثلاً، بدل الاكتفاء بانتخابات برلمانية- مما يُضعف حكم الأسد مباشرةً بدل مساعدته على إدارة عملية ديمقراطية محلية تمهيداً لمعالجة الوضع في نهاية المطاف- يجب أن نعاين الوضع في أنحاء المنطقة، وأن نفكر ملياً بما إذا كنا سنتمسك بموقفنا ونطالب بالأمر نفسه الآن في البحرين مثلاً (إذ نجد برلماناً منتخباً ظاهرياً لكن النظام الملكي هو الذي يحكم فعلياً)، أو في المملكة العربية السعودية، والأردن، ودول أخرى.
في مطلق الأحوال- وحتى في ظل الحملات الوحشية المتزايدة على يد النظام- لا بد من التأكيد على أن مجموعة مهمة من السوريين، داخل سورية، لا يزالون حتى الآن يفضّلون تطبيق خطة ملموسة وإعلان التزام واضح، بدعمٍ من جهات خارجية صبورة وقوية، تمهيداً لحصول عملية انتقالية تدريجية قبل تطبيق سلسلة من الإصلاحات الديمقراطية المهمة (بما يتماشى مع التدابير الأخرى الداعمة لها)، وذلك بدل اختيار الطريق البديل الذي بدأنا نسلكه الآن على الأرجح: لقد قُتل عشرات الآلاف، أو أكثر، حتى الآن وسيعيش عدد أكبر بكثير حياة تعيسة لفترة زمنية طويلة مثلما يحدث في العراق.
بالنسبة إلى المحافظين الجدد والليبراليين، قد تبدو هذه المقاربة البديلة أشبه باللعنة، لكنني شخصياً لا أحثهم فقط على معاينة التداعيات الأخلاقية والاستراتيجية المترتبة على المسار المتبع راهناً، بل يجب أن يدققوا أيضاً بالآثار الناجمة عن هذه المقاربة البديلة على مستوى سيناريو انهيار النظام الذي يدافعون عنه.
ببساطة، سيساهم وضع خارطة طريق موثوقة وعلنية للخروج من حالة الفوضى الراهنة في تراجع أعمال العنف المرافقة لأي انفجار في الوضع الداخلي، في حال قرر الأسد أن يرفض علناً هذا الاقتراح الذي قدمته مجموعة من الدول.
لقد عرفنا الآن من مسؤولين أميركيين لم يتم الإفصاح عن هوياتهم في وسائل الإعلام العربية أن إدارة أوباما تبحث عن سبل لاستمالة مسؤولين وناخبين وقادة عسكريين بارزين وإبعادهم عن سياسة القبضة الحديدية التي يتبعها الأسد على أمل حصول سيناريو مشابه لأحداث مصر في المستقبل القريب.
لكن في ظل غياب أي حوافز إيجابية، ستضعف هذه الجهود منذ البداية وستفشل على الأرجح في سورية (حيث يبدي الجيش ولاء أكبر لنظام الأسد)، وبالتالي لن يكون لتلك الجهود أي تأثير في حسابات النظام.
من خلال تقديم مجموعة ملموسة من المكافآت، ستضعف الأقسام القائمة راهناً داخل النظام وفي أوساط النخب السورية في حال رُفض العرض، الأمر الذي سيعزز قوة المعتدلين في وجه المتشددين وسيمكّنهم من فرض سيطرتهم لتخفيف حجم تداعيات أي انهيار محتمل للنظام في حال حصوله.
عند إظهار الأسد وحلفائه المتبقّين داخل البلاد وخارجها (منهم لاعبون سياسيون أساسيون مثل “حزب الله” و”حماس”) بصورة الأشخاص الذين يفتقرون إلى المنطق، فإنه سيسهل إنقاذ حياة الناس وسيصبح إرساء الحرية لجميع السوريين واقعاً حيوياً وقابلاً للتنفيذ.
لا بد من الإشارة إلى نقطة نهائية: يشير الجدل القائم حول ما يجب فعله في ما يخص الوضع السوري إلى نقطة تحول حاسمة بالنسبة إلى المحللين وصانعي السياسة الغربيين، وبالنسبة إلى نظام العلاقات الدولية بشكل عام.
اكتسبت هذه المعركة الإيديولوجية زخماً خاصاً خلال الاحتجاجات التي تبعت الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في إيران، عام 2009، وسرعان ما احتدم الجدل أيضاً حول استعمال الموارد المحدودة لمواجهة المشاكل الكامنة (مثل الأراضي المحتلة والتهديدات الاستراتيجية…) أو اتباع سياسة أقل كلفة (وأسهل سياسياً) تقضي بتشجيع “الثورات الخضراء” المختلفة في الدول التي تعارض الولايات المتحدة.
تأمل الحركات الخضراء بأن تنهار الأنظمة المعنية كما انهارت الشيوعية مع إدارة مستوى الألم والمعاناة بالطريقة المناسبة.
لا تزال هذه المقاربة الطريقة المفضلة عند المحافظين الجدد والليبراليين حين تحتدم الأمور، ولا سيما بعد أن أدت حرب العراق إلى انقلاب الكثيرين على فكرة تغيير النظام بطريقة مباشرة ومسلحة في الدول الضعيفة نسبياً.
في حال تابعت إدارة أوباما السير على هذا الطريق الذي يقود إلى تسريع انهيار النظام، لا شك أننا سنواجه قريباً اختباراً حاسماً وحقيقياً في معركة المقاربات هذه.
في حال انهيار النظام السوري بسبب الضغوط الخارجية المتنامية، وإذا ترافق الأمر مع بعض أعمال العنف المحدودة نسبياً تمهيداً لتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة ديمقراطياً- أو حتى إلى نظام استبدادي يكون سلوكه في المنطقة، وتحديداً تجاه إسرائيل، أفضل من النظام السابق- عندها ستصبح مقاربة المحافظين الجدد والليبراليين أكثر قبولاً في العواصم الغربية وبين الشعوب المختلفة.
لا أظن أن هذا السيناريو ممكن، ولهذا السبب يحتاج المدافعون عن الديمقراطية إلى إطلاق نقاش حول المقاربات البديلة فوراً.
لكن ثمة أمر واحد مؤكد ولا بد من أخذه بالاعتبار: الشعب في تلك المنطقة هو الذي سيتحمل مجدداً تداعيات كل رهان تقوم به أي قوة عظمى.
* شارك في تأسيس خدمة مراقبة وسائل الإعلام، Mideastwire.com، مقرها بيروت
الجريدة