ثنائية الاستراتيجي والتكتيكي في الحالة السورية
باسل أبو حمدة
لا يتوارى الخط الاستراتيجي المفترض والناظم للثورة السورية المعاصرة خلف التكتيكات المتبعة من قبل قواها السياسية فحسب، بل إن الأخيرة تطغى على الأولى بطريقة تؤدي إلى ذوبانها فيها وتحكم، بالتالي، قبضة حالة الاستعصاء السياسي التي طال أمدها في هذه الحلقة من حلقات الربيع العربي بعد أن دخل شعار إسقاط النظام بالصيغة التي طرح عليها في بداية الحراك الثوري في سوريا مرحلة التجمد، بينما راحت تتقدم الأوضاع في الميدان وفي مختلف المحافل السياسية في غير اتجاه.
على الرغم من مشروعية ومنطقية شعار إسقاط النظام، إلا أن طرحه كان يفتقر دائما إلى تفكيكه وجعله على مراحل تقوم، أولا وليس أخيرا، على عدم تجاهل عناصر ومكونات الحالة السورية وتشابكها مع مختلف العوامل المحلية والاقليمية والدولية التي يتعين إدراج كل عامل منها على أجندة من يضعون الخطط ويحددون مسار هذه الثورة، هذا إن وجدوا أصلا في هذه الحالة، حيث يعتقد على نطاق واسع بوجود العديد من القوى التي تقوم بهذه المهمة كل منها على حدا.
الغريب أن الأمور تبدو على الجانب الميداني من الصراع السياسي الدائر في سوريا أقرب إلى صيرورة الواقع من الناحية التكتيكية بعد أن تمكنت قيادة الجيش السوري الحر من ربط نفسها بشبكة قيادة مع مختلف الكتائب والألوية وحتى المجموعات المسلحة العاملة في مناطق سورية مختلفلة ومتباعدة يصعب عليها التواصل أصلا نتيجة الظروف العسكرية والأمنية التي يفرضها النظام على الأرض كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، والأغرب من ذلك غياب حتى الرؤية التكتيكية فيما يتعلق بمجموعة الجبهات القتالية المفتوحة على مصاريعها بين قوات النظام وقوات الثورة، حيث يبدو كل ما يقال حولها مجرد تعليقات على ما جرى، في حين يغيب على المشهد أي تصور لما سوف يجري.
لكن في المقابل، ثمة علامات استفهام كبيرة تتسع رقعتها كلما ظهر تشكيل قيادي عسكري جديد على غرار الاعلان عن تشكيل الجيش الوطني السوري بقيادة اللواء أحمد حسين الحاج علي، الذي ولد، في الوهلة الاولى، حالة من التفاؤل باتجاه وحدة الذراع العسكرية الضاربة للثورة السورية، وقبله المجلس العسكري الأعلى بقيادة اللواء مصطفى الشيخ والحبل على الجرار، كما يبدو، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن كل تشكيل عسكري جديد يظهر يدعو بقية العسكريين إلى العمل تحت لوائه.
بعد ذلك تأتي العلاقة الملتبسة بين مختلف هذه القيادات العسكرية الثورية وبين مختلف التشكيلات السياسية المكونة للثورة السورية، التي بدورها تبدو تائهة في دهاليز المبادرات والمبادرات المضادة بحيث بات ظهور تشكيل سياسي معارض جديد أمرا يدعو إلى السخرية، لا بل إن الكثير منها، إن لم نقل جلها، يولد ميتا أصلا، والأسباب بات يعرفها القاصي والداني وتتعلق أولا وأخيرا بارتباط هذه الولادات العقيمة بنزعات فردية وبأجندات لا تمت، في حالات كثيرة، للمصلحة الوطنية بصلة، والمشهد هنا يعج بالمفارقات الغريبة ليس في ميدانها السياسي والعسكري فحسب، بل في ميادين عديدة أخرى تطال منظمات المجتمع المدني وروابطه أيضا، علما بأن عددا من هذه الروابط قد بدأ يشق طريقه إلى موقع الفعل الثوري في الآونة الأخيرة على غرار رابطة الكتاب السوريين التي عقدت مؤتمرها التأسيسي في القاهرة الأسبوع الماضي.
الطامة الكبرى تكمن في أن الافتقار إلى القدرة على إيجاد صيغة توافقية مبتكرة بين ما هو استراتيجي وبين ما هو تكتيكي قد جب كذلك إمكانية النظر إلى أهمية هيئات المجتمع المدني البديلة كما يجب، فبقيت بدورها متراجعة إلى الصفوف الخلفية من الحراك الثوري بسبب قصور في الرؤية الاستراتيجية للثورة والتي تشي بأن الصراع السياسي في سوريا يختلف تماما عما حدث في حلقات الربيع العربي الأخرى، وأن لهذا الصراع أجل طويل يتطلب استنباط آليات عمل وأهداف تكتيكية ومرحلية واضحة المعالم بمقدار وضوح الهدف الاستراتيجي المتمثل باسقاط النظام وإقامة دولة مدنية حديثة في سوريا.
كان يفترض بالقوى السياسية الفاعلة في التجربة السورية أن تفكك الطابع الشمولي لخطاباتها السياسية المتفرقة وأن تخصص مزيدا من البحث والتحليل والجهد والوقت للنظر في إمكانية مرحلة برامجها السياسية على غرار وثيقة العهد الوطني والمرحلة الانتقالية التي شكلت حصيلة مؤتمر المجلس الوطني السوري في القاهرة، حيث ينفتح السؤال على مآلات تلك الوثيقة ومدى احترامها ليس من قبل القوى غير المنضوية تحت راية المجلس فحسب، بل من قبل القوى المكونة له أيضا.
في ظل إحتمالية أن يمتد الصراع في سوريا لأمد طويل والتي باتت مؤكدة وفقا لمعطيات الواقع وتوقعات المحللين الاستراتيجيين، لم يعد مجديا الإكتفاء بالبحث في أسباب وحيثيات هذا القصور في الرؤية ورده إلى عوامل موضوعية معروفة أهمها حالة الوهن التي عانى منها العمل النضالي في سوريا جراء قمع النظام له على مدار ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، فضلا عن أن النظام نفسه عمد إلى سد أي ثغرة لهذا العمل حتى بعد اندلاع الحركة الاحتاجية في مارس من العام الماضي، فهذا نوع من المراهقة السياسية، التي لا تستقيم ولا ترتقي إلى مستوى التغيير المنشود، ذلك أن ثمانية عشر شهرا من عمر الثورة تكفي وتزيد للخروج من هذا المستنقع السياسي باتجاه حالة فرز حقيقية لأداة الثورة من خلال وقفة تاريخية أمام عمل كل مكون من مكوانتها، على أن تمتلك هذه المكونات جرأة كافية لممارسة النقد الموضوعي والنقد الذاتي على طريق تصحيح المسار في محاولة لتقليص عمر النظام ومعاناة الشعب السوري في آن.
لم يعد كافيا كذلك رفع الشعار الناظم للثورة بالصيغة الحالية بعد أن بات بعض المحللين يطلقون على النظام السوري صفة المحتل الداخلي، فلهذه الصفة مقوماتها ومتطلباتها وقبل هذا وذاك معناها الذي يختلف بصورة كلية وجوهرية عن صفة النظام الاستبدادي، ويضع، في الوقت نفسه، قوى الثورة أمام قراءة جديدة للمشهد السياسي وربما إستراتيجية وتكتيكات جديدة أيضا تنسجم مع هذا الواقع، فالقراءات الخاطئة تقود بالضرورة إلى استنتاجات خاطئة، وهذه تقود إلى معضلات مفرداتها إطالة عمر النظام وزيادة حجم التضحيات التي يقدمها الناس على مذبح التخلص منه، الأمر الذي يجب أن يرفع السقف السياسي للحراك الثوري في سوريا على كافة المستويات الداخلية والخارجية وذلك باتجاه رسم خارطة واقعية لمعسكر الأصدقاء قبل معسكر الأعداء، وصولا إلى توصيف حقيقي للحالة السورية وخلق الأداة والخطاب المناسبين لقلب صفحتها مرة وإلى الأبد.
كما تتطلب القراءة الجديدة والجدية لهذه الحالة رسم خارطة جديدة لمجمل ما يبدو تحالفات ربطت بين الثورة السورية بمجملها وبين عدد لا يستهان به من القوى العربية والاقليمية والدولية، حيث يجب أن توضع النقاط على الحروف في هذا الاتجاه الذي يعول عليه البعض كثيرا ويعتبره حاسما في الحالة السورية لاعتبارات تتعلق في المقام الأول بعجز غير مسبوق في رؤية هذه التحالفات على حقيقتها والتي ساهمت وتساهم، إلى حد كبير، في حالة الاستعصاء السورية ومنحتها ما تحتاج إليه من أدوات ترتقي بها إلى مستوى الأزمة المستدامة.
‘ كاتب فلسطيني
القدس العربي