ثورة سوريا.. الواقع والأهداف وسبل الانتصار/ سلامة كيلة
سعت السلطة إلى ضمان تماسك “بنيتها الصلبة” من خلال ضمان خوف “الأقليات”، خصوصا العلويين، لكي تستطيع سحق الثورة.
لهذا أصرّت منذ البدء على خطاب يركز على أن الثورة هي حراك سلفي أصولي إخواني، ولم يكن لديها غير هذا الخطاب لتخويف الأقليات والعلمانيين.
وساعدتها الأوضاع الإقليمية والدولية على ذلك، بما في ذلك بعض أطراف المعارضة التي كانت تعتمد على التدخل الإمبريالي لإسقاط السلطة، وبالتالي فرحت بالخطاب الذي يجعل الثورة إسلامية الطابع.
هذا ما فرض الاستعصاء، حيث كان يجب أن تتفكك السلطة لكي تحقق الثورة خطوتها الأولى في إزاحة بشار الأسد وحاشيته، وخصوصا أن الثورة ظلت عفوية، وقادها شباب لم يعرفوا السياسة أو الحرب، بعد أن همّشت المعارضة دورها فيها، وعملت السلطة على تصفية كل الناشطين الذين يمتلكون قدرا من الوعي.
الآن، بعد ثلاث سنوات من الثورة، البطولية، التي واجهت وحشية سلطة “مافياوية” لم يعنها تدمير المدن وقتل الشعب، لا بد أن يعاد البحث في كيفية تطورها بشكل يخدم انتصارها.
الأمر الذي يفرض معالجة جملة مشكلات: وأولها، تجاوز الانقسام الذي أوجدته السلطة في صفوف الشعب، بين ما يسمى “الأغلبية” و”الأقليات”، فهذه لم تكن أقل نقمة على السلطة، ولا كان وضعها المعيشي أفضل -بل إن الساحل كان يعتبر من أفقر مناطق سوريا- رغم استفادة فئات منها من متنفذين في السلطة، أو استخدام السلطة فئات فقيرة منها -نتيجة الحاجة- لكي تكون هي “البنية الصلبة” التي تدافع عنها.
بالتالي، لا بد من أن يعود التأكيد على أن الثورة هي ثورة الشعب، وأن الاستبداد والإفقار كان يصيب الشعب في مناطقه المختلفة.
وهو الأمر الذي يفرض إعادة تحديد الأهداف التي يسعى الشعب عبر الثورة إلى تحقيقها، فالمسألة هنا لا تتعلق بإسقاط النظام بمعنى تغيير الأشخاص، بل تتعلق بتحقيق جملة أهداف يكون تحقيقها مدخلا لحل مشكلات الشعب المتعددة والمختلفة.
هذا يعيدنا إلى تحديد هدف الثورة، الذي جرى ابتساره إلى إسقاط النظام، والذي يمثل إسقاط النظام المدخل لتحقيقه، فما الأهداف التي تفرضها المشكلات التي جعلت الشعب يتحرك من أجل إسقاط النظام؟
بالطبع، يكون الهدف من التمرد على نظام استبدادي هو الانتقال إلى دولة مدنية (بمعنى علمانية) ديمقراطية، وهو الهدف الذي راود النخب وقطاعا من الفئات الوسطى التي كانت تريد التعبير عن ذاتها، والإحساس بأنها كيان سياسي، أي كيانا له رأي وفاعلية.
لكن، هل يمكن أن نتجاهل أن أغلبية الشعب -نتيجة الاستبداد الطويل الذي ألغى السياسة في المجتمع، ودمر الثقافة عبر تخريب التعليم وزيادة الأمية- لا تعرف السياسة؟ وبالتالي لا تعرف معنى الحرية والديمقراطية؟ إذن، لماذا ثارت؟
هنا يجب أن نلمس مشكلات الشعب -الطبقات الشعبية المفقرة- التي بات جزء كبير منها عاطلا عن العمل، ومن يعمل لا يكفي أجره لتحقيق الحد الأدنى من المعيشة اللائقة به، فضلا عن العجز في مجالات التعليم والصحة وتوفير مسكن.
أغلبية الشعب (تقريبا 60%) تعيش في هذه الوضعية، و20% تعيش في وضعية قلقة نتيجة ارتفاع الأسعار وانهيار قيمة الأجر، بعد أن سيطرت أقلية ضئيلة على الثروة، واستفادت فئات أخرى من النمط الاقتصادي الذي تشكل كاقتصاد ريعي “مافيوي”.
هل هذا السبب كافٍ لكي يثور هؤلاء؟ أو أن “الفكرة المجردة للحرية” هي التي دفعتهم إلى ذلك؟ بالتأكيد إن وضعهم هو الذي فرض ثورتهم رغما عن أوهام النخب التي أرادت أن “تسرق” الثورة فتقلصها إلى تحقيق مطامحها، أو توهمت أن مطلبها هو مطلب الشعب بأسره نتيجة نرجسية تعيشها.
لقد ساعد الخطاب الذي حصر الثورة في الحرية على عدم المقدرة على تحريك قطاعات شعبية هي مفقرة وتريد التغيير (العلويون خصوصا)، وعلى العكس سهّل انجرافهم خلف السلطة خوفا من أن يكون هدف الحرية مدخلا لتغيير السلطة لمصلحة الإخوان المسلمين والقوى الأصولية (التي ستأتي لكي تنتقم مما حدث سنة 1980-1982).
ومن جهة أخرى، فتح الأفق لكي تكون “الدولة الإسلامية” هي البديل عن “الدولة الديمقراطية”، وأصبح الانتقال من هذا إلى ذاك سهلا ما دام الأمر يتعلق بشكل السلطة فقط، خصوصا أن الشعار الأول الذي طرحته نخب “شبابية” هو “الله، سوريا، حرية وبس”، ليكون المرتجع إلى الله سهلا.
وهذا ما فرض تغييب شعار الحرية، وحصر الصراع في إسقاط النظام من قبل تلك النخب، ليكون البديل الإسلامي هو “الحل” لما بعد الأسد، حيث لم يعد يطرح بديلا سوى هذه القوى الأصولية “الجهادية”، من جبهة النصرة وداعش، إلى جيش الإسلام والجبهة الإسلامية.
إذن، لا بد من إعادة تحديد هدف الثورة وتقديم البديل الذي يتضمن حلا لكل المشكلات المجتمعية، وأولى نقاطه هو إعادة بناء الاقتصاد بما يسمح ببناء قوى منتجة، وتوظيف العاطلين عن العمل، وتحديد أجر مناسب مقابل الأسعار، بما يسمح بعيش لائق.
مع إعادة بناء منظومة التعليم والصحة من قبل الدولة الجديدة، لكي تناسب العيش الإنساني والتعليم الذي يخدم عملية التطور والاقتصاد المنتج.
ويعني هذا -تحديدا- ضرورة حل مشاكل البطالة (كانت بين 30 و33% من القوى العاملة)، والأجر المتدني، وانهيار التعليم والصحة.
وتبقى الدولة وحدها المعنية بهذا المجال، حيث نجد أن “رجال الأعمال” المعارضين يتنافسون للحصول على جزء من كعكة إعادة الإعمار، ويدفعون إطارات المعارضة لفرض اقتصاد ليبرالي شره، بات متجاوزا حتى لدى مطلقيه. وأيضا لا بد من أن تكون إعادة الإعمار “محلية” أي سورية، بعيدا عن نهب الشركات الإمبريالية وسمسرة السماسرة، حيث لا تفعل سوى مراكمة الديون على الدولة.
بالتالي، لا بد أن يحظى “الخطاب الاقتصادي” بالأولوية، وأن يعبّر عن مصالح المفقرين في مواجهة سعي “رجال الأعمال الجدد” لمراكمة الثروة على حساب الشعب المفقر.
ولا شك في أن من يتابع النشاط في أروقة معارضة الخارج يلمس الشره الذي يحكم هؤلاء، ومن يقرأ التصورات حول البديل يلمس ركاكة الخطاب الليبرالي بعد أن فشل.
وفي موازاة ذلك، لا بد من التأكيد على أن الدولة يجب أن تكون علمانية ديمقراطية، وهذا لا يحتاج إلى تمويه أو خوف من الأصوليين، أو تبرير لرفض ذاتي.
إن فصل الدين عن الدولة أمر لا تراجع عنه، وكل التخوفات التي تطرح تنمّ عن تشوش ذاتي أكثر مما تنمّ عن ظرف موضوعي لا يسمح بذلك.
ولا شك أن الدولة الديمقراطية هي الضمانة لكي لا تتحول الدولة التي تنشط في الاقتصاد لخدمة تطور المجتمع إلى مزرعة لفئة تنهب، مستغلة مواقعها السلطوية.
وفي مستوى ثالث، لا بد أن يكون واضحا أن الصراع ليس مع “بيت الأسد”، بل مع نمط اقتصادي فرض انهيار الزراعة والصناعة والتبعية لهذه الدولة الرأسمالية أو تلك (من تركيا وأوروبا إلى روسيا، وأميركا التي كانت تسيطر على حقول النفط) نسجته المافيا الحاكمة التي اتخذت طابعا عائليا، لكنها كانت تعبر كذلك عن البرجوازية التقليدية التي لا زالت تدافع عنها.
بالتالي، فإن “التلهف” على دعم الخارج “الإمبريالي”، والسعي لدعم تدخله، وتغييب المسألة الوطنية، أفضى إلى تجاهل مشاعر الشعب الذي رأى نتائج التدخل الإمبريالي في العراق، والذي لا يستطيع أن يتصالح مع الدولة الصهيونية كونها عدوا يحتل فلسطين والجولان، وهو الأمر الذي كان يجعل الشعب السوري يدعم كل مقاومة حقيقية.
ولا شك أن مصالح أطراف المعارضة و”رجال الأعمال” الذين انخرطوا في المعارضة، كانت تجعلهم أميل لـ”التبعية” للقوى الإمبريالية (الفرنسية والأميركية)، ولقوى إقليمية.
وهذا الأمر أضرّ بالثورة، وأسهم في تخوّف قطاع شعبي منها، انطلاقا من أن هؤلاء “الفطاحلة” الذي يغزون الفضائيات باسم الثورة هم ممثلو الثورة، رغم أن مسار الثورة كان مختلفا.
وبالتالي، فإن تموضع سوريا -الدولة الجديدة- يجب ألا يكون في صف القوى الإمبريالية، القديمة والجديدة (أي الروسية/الصينية)، بل لا بد أن يكون مع حركة الشعوب الناهضة في العديد من بلدان العالم، والتي ستشمل كل العالم في الفترة القريبة القادمة.
بمعنى أن الثورة يجب أن تكون مع الشعوب ما دامت هي ثورة شعب يريد التحرر والتطور والعدالة ضد الطغم الإمبريالية، وضد تقاسم العالم بينها، ومع أفق يحقق الرفاه والتحرر لها جميعا.
هذا الأمر يفرض أن يكون الشعار الذي رفع في ثورتي تونس ومصر هو المعبّر الحقيقي عن الثورة في سوريا، أي شعار “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، فليس من حرية والشعب مفقر، ولا يمكن أن تنشأ دولة ديمقراطية في ظل اقتصاد ريعي “مافيوي”.
هذه الأهداف هي التي توحّد الشعب، وتؤسس لوضع الصراع على أساسه المكين، وتسمح بتجاوز الاستعصاء القائم الآن.
الجزيرة نت