جاك دريدا.. التفكيك لا شيء/ لينا هويان الحسن
التفكيك الداريدي ليس منهجاً، يفكك دريدا أفلاطون ويرى أن الأسطورة لا تتكون من الحرية والخيال بل من إكراهات، بينما يصف عنواني كتابي رولان بارت بالسعادة المرعبة وأسماء جان جينيه بأنها لا ماضي لها
بكثير من المكر يتعامل جاك دريدا مع المدوّنات، مع اللغة، مع المكتوب.. لهذا سنقرأ تحت عنوان مثل: «المكتوب مسبقاً»، ما يخلخل كل ما كتب منذ بضعة وعشرين قرناً على الأقل، المكتوب، الذي يعمل بحركة بطيئة تكاد لا تُدرك، ليفضي في نهاية المطاف إلى التكتل تحت اسم اللغة.
في عام 1966 أنجز جاك دريدا مقالته الشهيرة بعنوان: «البنية، الدليل، اللعب، في حديث العلوم الإنسانية» محاولاً فيه خلخلة الطرح البنيوي الذي سيطر على المشهد الفكري الغربي، ليقدم بذلك مفهوماً جديداً للكتابة باعتبارها نقيضاً لمفهوم الكلام والتمركز حول الصوت، فالكتابة عنده ليست مجالاً للتجسيد الحرفي للكلام، أو طريقة الخط المكتوب به، بل هي أعمق وأكثر من ذلك.
هنا في كتاب «فصول منتزعة» الصادر حديثا عن دار الجمل – بيروت، نقرأ الكثير حول مشروع دريدا التفكيكي. الفصول هي عيّنة مواتية لولوج ورشة التفكير التي عمل في سياقها جاك دريدا على مساءلة الميتافيزيقا الغربية وتفحص متن مفاهيمها ومسائلها نقدا وتقويضا وتفكيكا.
هذه الفصول «المنتزعة»، تقوم على مبدأ التسلسل التاريخي لنشرها، باستثناء «الرسالة إلى صديق ياباني» التي اختار المترجم أن تتصدر هذا الكتاب حيث يجد فيها القارئ خير مدخل لاستكشاف مسألة التفكيك، ذلك أن دريدا يتناول فيها مباشرة مفردة «التفكيك» كيف نشأت عنده وفُرضت عليه، ثم كيف استشكلت عليه شيئاً فشيئاً وصارت تحيل على مسائل المنهج والمفهوم والكتابة واللغة والترجمة، من دون أن يكون «التفكيك» في حدّ ذاته قد تحول إلى مفهوم بعينه ولا منهج بعينه.
لا يخفى على أحد ما تتسم به كتابة دريدا من تركيب وتفصيل يجعلان «جملة» دريدا في معظم الأحيان تتمرد على السنن الفلسفية والميتافيزيقية الدارجة لتتنزل عند ذلك الحد الدقيق الذي يخلخل الفواصل القلقة، القائمة بين الفلسفي واللافلسفي، بين الفلسفة والأدب..الخ
ما الذي ليس هو التفكيك؟ لكنه كل شيء!
ما هو التفكيك؟ لكنه لا شيء!
إن التفكيك يحدث في كل مكان وحيثما ثمة تفكيك، حيث يوجد شيء ما، ينبغي أن نتفكر، فما يحدث اليوم في عالمنا وفي «الحداثة»، يجعل من «التفكيك» دافعا، بكلمته وأغراضه المفضلة واستراتيجيته المتحركة. يقول دريدا هنا: «ليست لدي إجابة بسيطة تقبل الصوْغ، عن هذا السؤال. كل المباحث التي أعمل عليها، إنما تلتمس تفهّم هذا السؤال الخارق. فهي علامات متواضعة على هذا السؤال بقدر ما هي محاولات تأويل له».
ليس منهجاً
هنا، ينفي دريدا كل ما يتعلق بالمنهج، فالتفكيك ليس منهجاً ولا يمكن أن يُحوّل إلى منهج. إنما يتأمل أن يغدو التفكيك ممتلكاً في عالم القراءة ليكون لاعباً أساسياً في عملية التأويل. يطرح سؤاله الصعب: هل يمكن بهذه الكيفية تطويع التفكيك لتعاود المؤسسات الأكادمية تملّكَه وتروّضَه؟!
تحت عنوان «عقاقيرية أفلاطون»، يعمل دريدا على تفكيك التشابكات المعقدة بين السرديات الأسطورية التي تناولت الإله المصري «ثوث»، الذي يظهر في المدونات القديمة كإله له وجوه عديدة، وأحقاب عديدة، ومساكن عديدة. يبدو أن «ثوث» قد أخذ حصة كبيرة من أطروحات دريدا التفكيكية، يظهر ذلك جلياً في نصه المعنون: «تسجيل الأبناء: ثيوث، هرمس، ثوث، نبو، نيبو». أسماء لإله واحد، يظهر في النقوشات المصرية بجسد إنسان ورأس طائر: «اعتملت مشاعر الخوف من المجهول في القلب الضَجِرِ، إنه الخوف من الرموز، من الإنسان شبيه الصقر، ذلك الاسم الذي حصل عليه وهو منعتق من نير العبودية على جناح مصنوع من الحَلفاء، هارباً من ثوث، إله الكَتَبَة، وهو يكتبُ بقصبةٍ على لوحٍ حاملاً رأسه المتضايق الشبيه بأبي منجل». دريدا يعكف على تفكيك الأسطورة، حيث يرفض الانقياد إلى القول بالحرية والخيال في التاريخ الأسطوري ويرجح كفة الإكراهات التي تخضع لها تلك العوالم.
في الفصل الذي يحمل عنوان: «ميتات رولان بارت»، يمعن دريدا في تفكيك «بارت» من خلال كتابين شهيرين له: «الدرجة صفر للكتابة، والغرفة المضيئة». العنوانان هما عنوانان سعيدان، سعادة مرعبة – على حد تعبير دريدا – فيقدم لنا قراءة مذهلة تجمع بين جمال اللغة الأدبية والعمق الفلسفي الفظيع الذي تحيلنا إليه لغة دريدا.
من الواضح أن الفصول «المنتزعة» التي يتضمنها الكتاب هي «كتيّبات» تشكلت بذرتها عبر مقالات صحافية نشرها دريدا على نحو غير منتظم. الفصل الذي حمل عنوان: «الوجهة الأخرى، ذاكرات، أجوبة، ومسؤوليات». هو محاضرة ألقاها دريدا في ملتقى حول الهوية الثقافية الأوروبية. حيث يقدم قراءة «مُفكِّكة» لأوروبا التي تعرّفت على ذاتها بوصفها وجهة، أم باعتبارها الحدّ المتقدم لقارة، في الشرق وفي الجنوب الحد المتقدم لأقصى الأرض. نقطة انطلاق الاكتشاف والاختراع والاستعمار.
أيضا، نقرأ دراسة في أسلوب جان جينيه، تحديدا «الأسماء» أسماء أبطال جان جينيه: «عندما يمنح جينيه أسماء فهو يعمّد ويفضح في آن معاً، إنه يقدّم الإضافة: ليس الاسم كما يبدو للوهلة الأولى، شيئاً نلتقيه في الطبيعة أو نكسبه في التجارة. إنه يبدو ناتجاً لمرّة واحدة في فعل لا ماضيَ له».
تدهشنا صرامة دريدا في ملاحظاته، ونظرياته، وتفكيكيته، فيحافظ على نظام خفي بحيث يحيط المفاهيم النقدية بخطاب حذِر ومدقِّق، ويشير بصرامة إلى انتمائها إلى المكَنة التي تسمح بتفكيكها، ومن ثم إلى الصدع الذي منه يتراءى لنا النور الخافت لنهاية مغايرة لم تُسمَّ بعدُ.
يُذكر أن هذا الكتاب الثري ترجم فصوله، عدد من المترجمين: «عبد العزيز العيادي، ناجي العونلي، معزّ المديوني»، بينما قام ناجي العونلي بتحريره.
(كاتبة سورية)
السفير