جحيم سوريا أم محارق تونس؟/ نزار بولحية
■ احدث تصنيف للمقاتلين التونسيين في سوريا يضعهم في صدارة ترتيب المقاتلين الاشد قسوة وشراسة في التعامل مع السوريين من بين نظرائهم من العرب والاجانب. المقاييس التي تم على اساسها اعتماد التصنيف غير معلومة، ومع ذلك فهو اي التصنيف، يحافظ على رواج ملحوظ داخل اوساط واسعة في تونس، ويُقدم كحجة قوية للتحذير مما يصفه البعض بخطر امني داهم يحدق بالبلاد، في صورة ما اذا اقدم هؤلاء على العودة اختيارا ام اضطرارا. الالتباس الذي يحصل في المقابل هو في معرفة الحجم الاصلي لظاهرة تستدعي قلقا متزايدا وتقتضي فرزا موضوعيا ودقيقا بين الحقائق المجردة على الارض، والمبالغات المدبرة والمقصودة أو التأويلات الخاطئة للاحداث. هؤلاء الشباب هم، بحسب وصف اطلقه عليهم رئيس الحكومة في مارس/اذار الماضي، «قنابل موقوتة» وهو توصيف قد يشاركه فيه معظم الطيف السياسي في تونس، لكن تحديد اعدادهم او هوياتهم، فضلا عن التعامل الانسب مع تلك «القنابل» وتفكيكها الجيد، تظل كلها هواجس معلقة رغم الحديث عن النية في تجميع الاجهزة القضائية والامنية المعنية بقضايا الارهاب في جهاز واحد، والجدل المستمر بشأن وضع تصور شامل ومتكامل للمسألة. ومن ناحية اخرى فان قرار فتح مكتب اداري في دمشق بعد ان ظلت العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين البلدين، الذي جاء وفقا لما أكده مسؤولون تونسيون، تلبية لحاجة ملحة لرعاية شؤون الاف التونسيين المقيمين في سوريا، يطرح تساؤلات اضافية عما اذا كان اولئك المقاتلون سببا ودافعا مباشرا وراء اتخاذ مثل ذلك القرار، وايضا عما اذا كانوا بنظر السلطات ما يزالون تونسيين كاملي الجنسية ومشمولين بصفاتهم تلك مثل باقي المواطنين، بالحقوق والحريات التي ضمنها الدستور، أم ان هناك سعيا خفيا لنوع من التعاون والتنسيق مع النظام السوري بغرض حصر أعدادهم وتحديد أماكن وجودهم في مرحلة اولى قبل السعي في مراحل موالية الى القضاء النهائي عليهم، إما اثناء العودة او قبلها.
ينحصر الاشكال هنا بالاساس في جانبين وهما، المستوى الامني العاجل، ثم البعد الاستشرافي لمجمل المخاطر التي تتهدد مسار الانتقال الديمقراطي، التي تتطلب مزيدا من الوقت ومن الفرص والظروف المناسبة للانضاج. في الجانب الاول هناك آلة قمعية لمنظومة استبداد لم تتطهر بعد مما علق بها من ادران الماضي القريب والبعيد، وترسانة من القوانين البدائية صممت لتتناسب مع تلك الآلة العمياء وتكون عقلها المدبر ولسانها الذي يشرع الجرائم ويبررها بداعي مقاومة الارهاب والتصدي لاخطاره.
ولعل مقرر الامم المتحدة لشؤون التعذيب، خوان مانديز كان شديد الوضوح لما اشار اثناء زيارته الاخيرة لتونس لاستمرار تلك الآلة في الاشتغال بنفس الاساليب القديمة، حيث اكد بعد جولة على بعض مراكز الاعتقال والسجون، على ان التعذيب لا يزال قائما في البلاد رغم الارادة المعلنة للسلطات بوضع حد لتلك الممارسة. وهنا مربط الفرس فلا يمكن لجهاز تربى على انتزاع آدمية الانسان وسلب الارادة والكرامة، والبطش بمن يعتقد انهم اعداء الوطن والسلطة ان يتحول بين عشية وضحاها الى أمن جمهوري، كما يحلو لنقابات الأمن التبجح بذلك في وسائل الاعلام. وما قد يؤكد ذلك هو التمسك الشديد بترسانة القوانين التي صيغت زمن الاستبداد ومن ضمنها قانون مكافحة الارهاب الذي وضع في 2003، اي في عهد الرئيس المخلوع بن علي لمطاردة كل رأي مخالف تحت مسمى التصدي للاعمال الارهابية. وما تم ايضا من ردود افعال متشنجة وعصبية بعد مناقشة مشروع بديل لذلك القانون داخل لجان المجلس التأسيسي مطلع هذا الشهر في اعقاب خلاف بين النواب حول تعريف الارهاب وخطر استخدامه ذريعة للحد من الحريات الخاصة والعامة. اذ سريعا ما اعتبر الامر بحسب نقابات الأمن وبعض السياسيين ووسائل الاعلام التي تدعمهم تعطيلا متعمدا لرجال الامن عن حربهم ضد ارهاب، لا احد في تونس يملك جوابا شافيا حول سر اختفائه اوقاتا، ثم ظهوره المباغت في اوقات اخرى يكون فيها مسار الانتقال الديمقراطي قد قطع خطوة او خطوات في الاتجاه الصحيح.
الآلة القمعية لن تستطيع اذن بشكلها الحالي ان تجد الحل لمغامرين قذفت بهم عصابات دولية في أتون معركة دُفعوا اليها بحماسة الشباب او بتصورات وافكار مغلوطة حول واجب الجهاد. وحتى ما يدعوه الوزير المكلف بالشؤون الامنية بعملية تخليصهم من «ثقافة الموت» من خلال عرض مشروع «قانون الرحمة والتوبة» لمن لم تتلطخ ايديهم بالدم في سوريا، كما يقول، لن يكون بالامر الفعال ما لم يرفق بجوانب اخرى روحية وثقافية بالاساس، وهذا لب وجوهر البعد الاستشرافي الاخر، الذي قد يأخذ مثلما ذكرنا مزيدا من الوقت.
على هذا المستوى فان القصور الحاصل هو في اجتزاء ما يطلق عليه بالارهاب ومن يوصفون ايضا بالارهابيين. ولعل ما علق في اذهان الناس من صور نمطية لم يكن ليختلف كثيرا عما كان عليه الحال زمن بن علي، باستثناء بعض التفاصيل البسيطة، اذ استبدل الحجاب بالنقاب وصار طول اللحية دليلا على الانتساب الى فريق منبوذ ومتهم بالارهاب حتى يثبت العكــس، وهو في جميع الاحوال لن يتمكن من حق الدفاع او من تقديم قرائن وادلة البراءة.
لقد اعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون في الايام الاخيرة عما سماه بخطة الترويج للقيم البريطانية التي تستهدف بالاساس مناهج التعليم في المملكة المتحدة. بعض المراقبين يرون في الاجراء تصديا لما يمكن ان يشكله المقاتلون البريطانيون من خطر على هوية وثقافة البلد في حال عودتهم. وفي كل الاحوال تحتاج تونس اليوم لخطوة مماثلة، لكن باتجاه هويتها وثقافتها التي ابتلعها الاستيطان اللغوي والفكري، وتحتاج كذلك لوعي مفقود بأنها بصدد التأسيس لعصر جديد لا مجال فيه لاقصاء الافكار والاراء تحت اي مبرر. ومثلما تنظر السلطات الى آلاف الشباب المقاتلين في سوريا على انهم قنابل موقوتة عليها ايضا ان لا تغفل عن ملايين القنابل الاخرى الجاهزة للانفجار داخل البلد في اي لحظة، وهي قنابل المخدرات التي استشرت في تونس بشكل غير مسبوق وقنابل الغش التي غطت على الامتحانات ودفعت وزير التربية لان يصرح بانها صارت «ثقافة» لدى التلاميذ، هذا فضلا عن المحارق التي يندفع لها الكهول والشباب كل يوم بفعل اليأس والرخاوة النفسية والروحية.
ما بات مطلوبا الان واكثر من اي وقت مضى، هو ان تعطي الدولة اشارات لا لبس فيها على انها مفتوحة امام كل ابنائها، بمن فيهم من اخطأ، وان تحاسب الذين وقعت افعالهم تحت طائلة القانون بمنطق العقاب الفردي لا بأسلوب العقوبات الجماعية القديم.
وفي الاثناء هناك ادوار اخرى ينبغي على علماء النفس والاجتماع وائمة المساجد ان ينهضوا بها لاصلاح الشرخ بينها وبين جميع الابناء. اما بانتظار ان يتحقق كل ذلك وقد يستغرق الامر شهورا طويلة واعواما، فإن ما تبقى من خيارات امام المقاتلين التونسيين يكاد ينحصر تقريبا في امرين اثنين، إما جحيم سوريا أو محارق تونس، وفي كلتا الحالتين فان الاختيار بينهما صعب ومر.
٭ كاتب وصحافي من تونس
القدس العربي