جدران الوهم: حسان عباس
حسان عباس
يرفع الإنسان جدراناً منذ خرج من كهفه الطبيعي ليخطو خطوته الأولى على طريق الحضارة. لكن من الجدران ما يصبح سجناً لمن رأى فيها أسواراً تحميه، أو قبراً لمن اعتقد أنها تمنحه أماناً كان يرتجيه. تلكم هي جدران الوهم.
من الممكن أن تختلف وظيفة الجدار حسب الزاوية التي يُنظر إليه منها. فقد يكون جداراً يمنع الخارج، الـ (هناك)، من العبور إلى الداخل، الـ (هنا)، كما يمكنه أن يكون جداراً يمنع الداخل، الـ (هنا)، من الفرار إلى الخارج، الـ (هناك). يمثل سور الصين العظيم النموذج الأكثر إبهاراً، ويمثل جدار الفصل العنصري النموذج الأكثر قبحاً لجدران الحالة الأولى؛ بينما يمثّل جدار برلين النموذج الأكثر شهرة، وتمثل أسوار السجون المثال الأكثر انتشاراً لجدران الحالة الثانية. لكن في الحالتين يبقى الجدار سيفاً يقطع التواصل بين الناس، وسدّاً يغلق الفضاء.
ولئن كانت الجدران والأسوار حقيقة مادّية ملموسة، وثقيلة، فثمّة جدران غير مرئيّة حتى نظن أنها بنات وهمٍ، لكنها لا تقلّ فعّالية وقوة عن جدران من الفولاذ. قد نجد هذه الجدران في الطبيعة كتلك التي يحددها برائحته الخاصة ذكر بعض أصناف الحيوانات لتمنع اقتراب ذكور أخرى من “بيت حريمه”. غير أن المجتمعات البشرية ملأى بها. منها ما يرفعه الأفراد لمرض أو لمزاج خاصّ بهم، ومنها ما تنصبه الجماعات لإيمان أو عقيدة أو خوف.
التقيت مؤخّراً شابّة قادمة من بلدة وسط سورية معروفة بجمال طبيعتها، وبانفتاح أهلها واختلاطهم، رغم اختلافاتهم المذهبية بفعل انتمائهم إلى أربع طوائف. وكان في البلدة طريق يدعى “الكورنيش” يعطي صورة مصغّرة عن مجتمع البلد، فعند أصيل كل يوم دافئ، تخرج صبايا البلدة وشبابها للتنزه فيه ناشدين الحياة، غير عابئين بما يحملونه من انتماءات أو ثقافات أو أحلام. سألت الشابّة عن أحوال الحياة في البلدة، وعن “المشوار” على “الكورنيش”، فنظرتْ إليّ بحزن وقالت: منذ سنة وأكثر ما عدنا نذهب إلى هناك. سألتها لماذا؟ قالت: لأنه يقع في حيّهم فنحن نتجنّب الذهاب عندهم وهم لا يأتون عندنا، طبعاً الضمائر المتصلة (هم) و(نا) تعود إلى الطائفتين الكبريين في البلدة.
ومن مدينة ساحلية تنقسم أحياؤها إلى مجموعة شمالية يقطنها بشكل خاصّ القادمون من القرى الجبليّة الساحلية، ومجموعة جنوبية يقطنها بشكل خاص أهل المدينة الأصليّون، هتف لي صديق ليخبرني أن البحر صار بحرين وأن “الكورنيش البحري” انقسم إلى نصفين، كلّ نصف يتبع مجموعة أحيائه، أي لأتباع “طائفته”. بل وأضاف أنّ السوق التاريخيّ الموجود في المدينة القديمة لم يعد على حيويته الممتدّة إلى قرون خلت، لأن الوافدين من القرى فتحوا سوقاً خاصة بهم في أحيائهم، وأن عدداً من المقاهي والمطاعم ظهرت في شمال المدينة تستقبل الزبائن الذين هجروا الأماكن العامة في المدينة القديمة، لأنها تقع في أحياء (الآخرين).
لا جدران في هذين المثالين سوى جدران الوهم التي يرفعها الخوف. الخوف من الآخر. وهو خوفٌ استنبته فشلُ النظام في إدارة التنوّع في البلاد، ورعته خياراتُه السيّئة في إدارة الأزمة، وجاءت القوى الجهادية الإسلامية وخطاباتها التكفيرية لتزيد في الطين بلّة، ولتُنضج الخوف وتثمره.
لا يمرّ يوم إلا وتنتشرُ الأخبار عن إجراء جديد، أو مجزرة جديدة، أو غزوة جديدة تدفع الناس إلى وضع حجر جديد في جدران الخوف، فيرفعونها أكثر فأكثر عساها تحميهم من خطر يتصوّرون قدومه. لكنهم، بفعلهم هذا، يسجنون أنفسهم أيضاً في “غيتويات” محكومة بالاختناق والموت. ففي بلاد شرق المتوسط، وبسبب التاريخ السحيق للاختلاف والتنوّع والتشابك، لا يمكن للمكوّنات المجتمعية البقاء إلا إذا انفتحت على بعضها البعض، وكلّ محاولة لخنق الآخر ليست في الحقيقة سوى عملية انتحار.
المدن