جذور السلطة الراهنة في سورية.. التحالفات القائمة وسوابقها/ سمير سعيفان
صباح 8 مارس/آذار 1963، قام انقلاب عسكري في دمشق، شارك فيه ضباط بعثيون وناصريون وقوميون عرب ومستقلون، تحت شعار الوحدة العربية وتحقيق العدالة والاشتراكية والقضاء على الطبقات المستغِلة (بكسر الغين)، وجاء هذا ضمن تيار في العالم الثالث آنذاك، إذ قام في العديد من بلدانه انقلابات عسكرية، تولت السلطة السياسية، وقامت بإجراءات اقتصادية واجتماعية، وكان منها عدد من البلدان العربية، مصر عبد الناصر، العراق، سورية، الجزائر، ليبيا، اليمن الجنوبي.
أزاحت السلطة العسكرية الجديدة الطبقات السياسية القديمة، حيث أزاحت حكومة خالد العظم، وحلت البرلمان المنتخب، وصادرت حريات التنظيم والتعبير، فألغت الأحزاب السياسية والصحف والنقابات الحرة، ومنعت التنظيمات السياسية والاجتماعية، وبالتالي، مَرْكَزَت السلطة السياسية في يد الانقلابيين. ولكن، ما لبث هؤلاء أن اصطرعوا فيما بينهم، لتنتهي السلطة بيد المجموعة البعثية.
في الستينيات
صادرت سلطة البعث العسكرية، خلال عامي 1964 و1965، أملاك كبار ملاك الأراضي، ووزّعت جزءاً منها على الفلاحين، وأبقت جزءاً آخر أملاك دولة. كما قامت بتأميم الشركات الصناعية والتجارية والمصارف وشركات التأمين، وتدخلت الدولة في التجارة الداخلية. كما تم تأميم التعليم بمراحله كافة. وطبق نظام نقد غير قابل للتحويل الحر وخاضع لرقابة شديدة. وتوسعت فئة موظفي الحكومة عدة مرات، واندمجت أعداد أكبر من أبناء الريف وفقراء المدينة في الفئات الجديدة الصاعدة. وقد تراجع دور القطاع الخاص، حتى غدا، في مطلع السبعينيات، لا يملك أكثر من 25% من القدرات الصناعية، تتوزع في ورش ومشاغل بالدرجة الرئيسية. وأصبح القطاع الخاص الفردي والصغير جداً والصغير والمتوسط المسيطر على المشهد في كل قطاعات الاقتصاد الوطني.
نتيجة تلك الإجراءات، تم تجريد الطبقات والعائلات التقليدية وعائلات رجال الأعمال السابقة من قوتها الاقتصادية والسياسية، ومن مكانتها الاجتماعية أيضاً، ولم يبقَ لها النفوذ نفسه، واختفى عن المشهد أشخاص، مثل خالد العظم وأصبحت مذكراته ممنوعة في سورية، واختفت عائلات اليوسف والأتاسي والخوري والقوتلي والحفار والقباني والحلبوني وإبراهيم باشا وقطب وصائم الدهر والطباع و دياب أخوان والدسوقي والقدسي وسعادة وسكر وعبد المتين أخوان والططري وشبارق والزعيم والعظم والبرازي والشيشكلي واليكن والكيخيا وشلش والكنج وإسماعيل ومعمارباشي وأصفر ونجار وغيرهم، ولم يعد هؤلاء يركبون السيارات الفارهة، ولم يعد لهم نفوذ في دوائر الدولة.
بعد تلك الإجراءات، أصبح رجل الدولة، وخصوصاً قيادات الجيش والأمن وقيادات حزب البعث وقيادات منظمات العمال والفلاحين وبقية منظمات الدولة ومؤسساتها، هم من يملكون النفوذ، وهم من يركب السيارات الفخمة الحديثة، وأصبح رجال أعمال الأمس وملاك الأراضي يطلبون ودَّهم بأشكال مختلفة، وأصبح أصحاب الحاجات، وما أكثرهم، يتجهون إلى هؤلاء، بدلاً من أولئك، للتوسط لقضاء حاجاتهم، سواء كان صاحب الحاجة رجل أعمال، يبحث عن صفقة مربحة، أم مواطناً فقيراً يبحث عن عمل. تمركزت السلطات السياسية والاقتصادية، وحتى الاجتماعية، إلى حد بعيد، في يد الدولة المتغوّلة، فمن يجلس على كراسي الدولة، ويقبض على “مقودها”، يستطيع باسمها أن يوجه سيرها كما يريد. فالسيطرة على الدولة تعني السيطرة على كامل المجتمع من جوانبه كافة.
استبدل التحالف الحاكم السابق، المكون من الطبقات الإقطاعية والرأسمالية البازغة والعائلات التقليدية، الآن، بتحالف جديد حل محله، تحالف الجيش وفئات المثقفين “الثوريين” وفلاحو الريف وفقراء المدن بقيادة الجيش، وهي الصيغة التي وضعها أكرم الحوراني، وهو أحد أهم الشخصيات السياسية في سورية، منذ منتصف الأربعينيات وحتى منتصف ستينيات القرن العشرين.
في السبعينيات
رحبت الأوساط المدينية بإزاحة جناح صلاح جديد الراديكالي من السلطة، وتولي وزير الدفاع حافظ أسد، الأكثر براغماتية، السلطة، بعد انقلاب عسكري بتاريخ 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970. ورفعت البرجوازية المدينية شعاراتها الترحيبية في الأسواق التجارية، في دمشق وحلب وحمص وحماه، تقول: “طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد”.
أعلن الأسد عن سياسة اقتصادية أكثر انفتاحاً على القطاع الخاص، ولم يقم بأي إجراء إضافي ذي طابع “اشتراكي”، واتبع ما سُميت سياسة “التعددية الاقتصادية”، وفتح الباب مواربة لاستثمارات القطاع الخاص بشكل ضيق. وبعد حرب تشرين 1973، أصدر تشريعات خاصة بإنشاء شركات سياحية وفندقية، شراكة بين القطاع الخاص والدولة، وقد أتاحت المساعدات التي حصلت عليها سورية من الدول العربية النفطية، وبلغت نحو 1.5 مليار دولار سنوياً، قدرة أكبر للإنفاق الحكومي، لإقامة مشروعات كثيرة للبنية التحتية، أو بناء مصانع وإقامة شركات أو مشتريات حكومية أخرى، ما أوجد جبهات عمل أوسع للقطاع الخاص الذي اندفع نشيطاً بعد نحو عقد من التأميم والتضييق.
ومنذ السبعينيات، بدأت أسماء رجال أعمال بالبروز، مثل الشلاح والعطار والنحاس والعائدي وألتون وتقلا وهدايا وغيرهم. وبدأت ظاهرة التشارك بين القيادات الإدارية والعسكرية بالنمو، وجلها قيادات من أصول ريفية فقيرة، وقطاع الأعمال الجديد، فلدى هذه القيادات القرار الذي يصنع فرصة الربح. ولكن، لا يمكنها ممارسة الأعمال مباشرة، وكان أبناؤهم ما زالوا صغاراً، فكان لا بد من شراكة رجال أعمال من القطاع الخاص وتقاسم المنافع. ومنذ السبعينيات، بدأ نشاط التهريب بالنمو، حيث كان يمنع استيراد سلع كثيرة تخصصت بتهريبها مجموعات تلوذ بالقرابة للفئة الحاكمة، مكونين ثروات كبيرة (الدخان، الأدوات الكهربائية، العملات الصعبة والذهب، وما شابهها).
في الثمانينيات
شهدت سورية أزمة اقتصادية خانقة، مما اضطر الأسد إلى الإفساح في المجال أوسع أمام القطاع الخاص، وتخلت الحكومة عن مزيد من احتكاراتها. وشجعت الاستثمار السياحي والزراعي الخاص والمشترك بين الدولة والقطاع الخاص الذي يقدم رأس المال. فكانت هذه مناسبة لنمو ثروات شركائهم من رجال السلطة. وقد خرجت سورية من هذه الأزمة، بسبب زيادة إنتاج النفط من الاكتشافات الجديدة، ومن المساعدات التي جاءتها بسبب انضمامها إلى الحلف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت، إضافة إلى اتباع سياسة جديدة بتشجيع الزراعة.
في التسعينيات
في أجواء انهيار المعسكر الشرقي “الصديق”، وبدء مفاوضات مدريد بين العرب وإسرائيل، خطت السلطة السورية خطوة أوسع باتجاه فتح الباب أمام القطاع الخاص، فصدر قانون تشجيع الاستثمار 10 لعام 1991، وتخلت الدولة عن مزيد من احتكاراتها، ما أحدث موجة من الاستثمارات، في النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين، في الصناعة والنقل خصوصاً. وبدأت تبرز مجموعات أعمال أكبر وأكثر وأسماء جديدة، وبدأت مجموعات الأعمال التي تعود إلى بعض أبناء المسؤولين بالظهور والتوسع. لكن، لم يتخذ الأسد، في التسعينيات، أية خطوات إصلاحية أخرى تكميلية لمناخ الاستثمار، فتراجعت وتيرة الاستثمارات. فبعد أن تم الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، شعر الأسد أنه بحاجة أقل لمزيد من الانفتاح على القطاع الخاص، بسبب خشيته من نمو قوته. لذلك، تراجعت الاستثمارات الخاصة وحدث ركود.
ثمة دافع آخر للأسد الأب في اتخاذ مزيد من إجراءات الانفتاح الاقتصادي. فإضافة إلى اشتداد مرضه، أراد أن يؤجل اتخاذ تلك الخطوات الواسعة في الانفتاح الاقتصادي، لكي يقوم بها ولده بشار، الذي كان يتم تحضيره لوراثته في السلطة، كي تسجل إنجازاً لولده، وتخلق قبولاً أوسع لعملية التوريث غير المفهومة. وقد توفي الأسد الأب في العاشر من يونيو/حزيران 2000، وتم توريث السلطة لولده بشار، كما هو مخطط.
شكل انتقال السلطة بداية لتسريع الانفتاح الاقتصادي، واستكمال عودة الرأسمالية إلى الديار السورية. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تخلت الدولة عن معظم احتكاراتها، وتم فتح قطاع المصارف والتأمين أمام القطاع الخاص، وأحدثت سوقاً مالية، وأبرمت سورية اتفاق تحرير تجارة مع تركيا، بعد أن كانت قد أبرمت اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى “الجافتا” منذ 1997. وتم تحرير عقود الإيجار وتعديل قانون العلاقات الزراعية، وتم فتح قطاع التعليم، وفتح قطاع التطوير العقاري أمام القطاع الخاص، وكذلك فتح قطاع الإعلام وقطاع الإعلان ونشاط المعارض وغيرها. وفي هذه المرحلة، كان لأبناء المسؤولين وشركائهم الحصة الكبيرة في هذه الاستثمارات. ونتيجة ذلك كله، أصبح قطاع الأعمال عام 2010 يساهم بنحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
خلال كامل الفترة السابقة، شكلت سلطة الدولة الرافعة التي كونت من خلالها الطبقة العسكرية السياسية الحاكمة ثرواتها الخاصة، ومكنت قبضتها الاقتصادية، إضافة إلى قبضتها السياسية والأمنية. فبعد إجراءات الستينات، أصبح الاقتصاد مسوراً بإجراءات ومؤسسات حكومية، يقف على بوابات أسوار اقتصادها مسؤولون حكوميون، تتحكم قراراتهم بالنشاط الاقتصادي، ما فتح الباب لهؤلاء “البوابين”، في إساءة استغلال سلطتهم، لتحقيق مكاسب مادية شخصية.
حرصت سلطة الأسد، ومنذ 1970، على أن تبقي قطاع الأعمال الخاص تحت قبضتها القوية، فأبقت البيروقراطية الشديدة أداة للتحكم به. كما أحدثت محاكم الأمن الاقتصادي، لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب رجال الأعمال الذين لا يخضعون لإرادتها، أو مَن يسعى إلى تعظيم دور هذه الطبقة، على نحو مستقل عن سياستها، وقد تعسفت هذه المحاكم ضد رجال أعمالٍ، لم يفعلوا شيئاً يُذكر، بينما صمتت عن ارتكابات كبرى، كانت تقوم بها “رأسمالية المحاسيب”.
من جهة أخرى، عملت السلطة على تشكيل قطاع أعمال خاص قوي من أبناء المسؤولين، ومن يلوذ بهم، وأن يكون هو القطاع الخاص الأكبر والمسيطر، فقد كبر أبناؤهم، ولم يعودوا بحاجة للتستر خلف رجال أعمال آخرين. هنا، أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد وثلة من بيت الأسد وغسان مهنا ونزار الأسعد ومجموعة الخولي، ونبيل طعمة وسيلمان معروف، وخالد قدور وعائلة الشهابي وسمير الحسن ومهران خوندة ووهيب مرعي وعائلة طلاس وعائلة خدام ومجد سليمان ومحمد حمشو وطريف الأخرس وعائلة الخياط، وسليم دعبول وغيرهم.
ولكن، هذه المجموعة الريعية التي نمت على طبق الدولة، مباشرة أو برعايتها، لا تستطيع في معظمها أن تعيش بدون دعم الدولة ورعايتها، عكس الطبقات الرأسمالية المنتجة التي كانت سائدة في سورية قبل آذار/مارس 1963، والتي اتسمت بسمة إنتاجية، وحققت مكانتها وثرواتها عبر المنافسة، وتميزت بالحرص والاقتصاد في الإنفاق الشخصي الباذخ.
“أصبحت الأسماء الأكثر تداولاً في قطاع الأعمال هي رامي مخلوف وإخوته والأخوان رياض وذو الهمة شاليش وكمال الأسد”
إلى جانب تلك المجموعة، نما قطاع أعمال قريب من رجال الحكم، ويعتمد على علاقاته بهم لتوسيع نشاطه، لكنه أصبح، الآن، أقل التصاقاً بهم عما كان من قبل، مثل النحاس والشلاح والعطار والعائدي وهدايا وألتون وغريواتي وغراوي ودعبول-الميدان وطيارة وصبرا والشاعر وعزوز وسنقر والرهونجي ووتار والعقاد والحافظ وكركور وزيدو والصباغ والبزرة وأنبوبا وألتون وفرزات والأوبري والبيلاني وعساف وغيرهم. غير أن هذه المجموعة أصبحت تشكو من منافسة غير منصفة مع المجموعة الأولى التي تنحاز الدولة إلى جانبها.
وإلى جانب هاتين المجموعتين، نما عدد من رجال الأعمال، وخصوصاً في الصناعة، من الذين اعتمدوا على مهاراتهم وصبرهم لتحقيق نجاح ملحوظ، وأعادوا بذلك إحياء روح رجل الأعمال السوري، المعروف بمهارته، والتي هدرها نظام البعث خمسة عقود.
أخيراً
دارت الدورة، وعادت الرأسمالية إلى الديار السورية، الرأسمالية التي جاء انقلاب البعث إلى الحكم تحت شعار القضاء عليها، عادت كطبقة جديدة، تعكس تحالفاً جديداً بين السلطة السياسية الشمولية المعتمدة على العسكر، وطبقة رأسمالية، تعود في جزء كبير منها، إلى الطبقة السياسية الحاكمة، مكونة بذلك طغمة مالية سياسية عسكرية حاكمة، وأصبح التحالف السابق الذي أشرنا إليه أعلاه في خبر كان.
العربي الجديد