جرائم «الكيماوي»: محاسبة بشار أم تسوية دولية أخرى؟/ عبد الوهاب بدرخان
«بات الآن مستحيلاً إنكار أن النظام السوري استخدم غاز الكلور مراراً كسلاح ضد شعبه»… هذا ما استخلصه البيت الأبيض من تقرير «آلية التحقيق المشتركة» بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية، وهو كلام موجّه مباشرة إلى الكريملن الذي التزم على الدوام بتحصين حليفه النظام من أية إدانة أو عقوبات يقرّها مجلس الأمن، بل ذهب إلى حدّ اتهام فصائل المعارضة السورية بشنّ هجوم كيماوي ضد سكان المعضمية التي تسيطر عليها في غوطة دمشق (21 أغسطس عام 2013).
كانت هذه الواقعة أبرز العلامات الفارقة في الصراع السوري، لا بسبب استخدام سلاح محرّم دولياً فحسب، بل خصوصاً في كونها أظهرت استعداد الدولتين الكبيرتين وتوافقهما على تجاوز القانون الدولي لاعتماد صيغة تسوية لا تخلو من عقوبة للنظام السوري بإلزامه التخلّي عن ترسانته الكيماوية والقبول بتسليم مخزونه وتدميره. وقد واجه القرار الدولي 2118، قبل صدوره متضمّناً هذه التسوية، انتقادات حادة من المجتمع الدولي، ما دفع الأميركيين والروس – بحثاً عن التوازن – إلى تضمينه أيضاً «بيان جنيف» (30 يونيو 2012)، الذي ينص على تسوية سياسية للصراع عبر «هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة». ويتبيّن اليوم أن الصيغ المطروحة للحل السياسي لا تنفكّ تبتعد عن «صيغة جنيف»، كما أن منظمة حظر الأسلحة الكيماوية تقرّ حالياً بأن نظام دمشق أخفى عنها مواد ومعلومات عن برنامجه الكيماوي، ولم يسلّم كل مخزونه، رغم أنها أعلنت رسمياً (مطلع يناير 2016) أن المخزون دمّر بنسبة «مئة في المئة».
الهجمات الكيماوية تتكرّر كلّما أراد النظام حسم مواجهات بدت صعبة لقواته، أو لمعاقبة بعض المناطق على احتضانها فصائل المعارضة. وآخر الوقائع سُجّل أوائل أغسطس الحالي في سراقب (محافظة إدلب) التي قصفت ببراميل فيها غازات سامّة، كردٍّ على إسقاط مروحية روسية في نواحيها، لكن التقرير الدولي الجديد تضمن للمرّة الأولى نتائج تحقيق مستند إلى عيّنات موثّقة من تسع هجمات ثبت في اثنتين منها أن مروحيات عسكرية تابعة للنظام ألقت غاز الكلور (في بلدة تلمنس 21/04/2014 وبلدة سرمين 16/03/2015). وفي التقرير نفسه اتهام لتنظيم «داعش» باستخدام غاز الخردل في معركة مارع (ريف حلب، 21/08/2015). وحيث لم يؤكّد الاتهام كانت الأدلة ضعيفة، رغم أن تقارير الأطباء وإفاداتهم المصوّرة مع الضحايا تتحدّث عن العوارض ذاتها.
عندما يناقش مجلس الأمن هذا التقرير سيكون عليه أن يتحمّل المسؤولية، أي أن يحاسب الجهة المتهمة، وهي هنا حكومة لا تزال ممثّلة في المنظمة الدولية ومعترفاً بشرعيتها رغم أن غالبية دول العالم قطعت العلاقات معها، ولم تعد تعتبرها شرعية طالما لم تعدم وسيلة لقتل شعبها، من الكيماوي إلى قنابل النابالم (الأسبوع الماضي في داريّا قبيل الاتفاق على إخلائها)، ومن الصواريخ الباليستية إلى البراميل المتفجّرة. هذه المرّة هي الأولى التي يجد فيها النظام نفسه أمام إدانة حتمية وعقوبات دولية محتملة لا يمكن أن يعطّلها سوى «فيتو» من روسيا، وربما يدعمه أيضاً «فيتو» من الصين. وسيعني ذلك، إذا حصل، أن دولتين كبريين مستعدتان لـ«شرعنة» جرائم ترتكبها «دولة» عضو في الأمم المتحدة.
في عام 2013 تجاوز استخدام نظام دمشق السلاح الكيماوي ما كان الرئيس الأميركي حدّده كـ«خطّ أحمر» يستوجب التحرك ضدّه، واتخذ بالفعل خطوات أولية لضرب أهداف عسكرية للنظام، لكن موسكو دفعت بحجج عدة لإجهاض هذا التهديد، أولها أنه لم يثبت أن النظام هو من قام بالهجوم ولا «أدلة قاطعة» لتجريمه، وثانيها أن الضربات الجويّة لن تجدي والأفضل حرمانه من هذا السلاح لضمان عدم تكراره اللجوء إليه، وثالثها أن ضرب النظام سيقضي على أي أمل في حل سياسي للأزمة، وهكذا تخلّى باراك أوباما عن خططه العسكرية ليجنح إلى تسوية عملية. لكن معظم العواصم المعنية، باستثناء موسكو وطهران، كانت تشتبه بأن النظام لن يسلّم كل مخزونه، وهو ما تأكد لاحقاً.
هذه المرّة لن تستطيع موسكو المحاججة بأن الأدلة ليست قاطعة، لكنها قد تسعى إلى التخفيف من خطورة الجرم بذريعة أن غاز الكلور غير مصنّف كسلاح كيماوي مثل غازَيّ الخردل والسارين. لذلك دعا المندوب الروسي في الأمم المتحدة إلى «عدم استخلاص نتائج متسرّعة»، مبدياً استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة في معالجة هذا الملف، لكن أي تسوية لن تستطيع تجاهل الوقائع المثبتة في التحقيق، وفي أسوأ الأحوال قد يُصار إلى إلزام النظام السوري باستكمال تصفية برنامجه الكيماوي وبسلوك جدّي في أي مفاوضات من أجل الحل السياسي للأزمة.
*محلل سياسي- لندن
الاتحاد