جمهورية الجماجم.. بانتظار فعل
محمد الرميحي
علينا أن نفكر في عدد من السيناريوهات التي يمكن أن تتكشف عنها الأحداث في سوريا، حيث إن الربيع العربي ليس عملية تلقائية، كمثل فعل الحياة التي نهايتها الموت! بل هو كمثل قطار يمكن تعطيل طريقه. واحد من السيناريوهات – وهو الأكثر قربا إلى المنطق – وأيضا ما يتوقعه العالم، سقوط النظام الحالي. يحتاج المرء إلى خيال واسع كي يتصور طريقة السقوط تلك. قد تكون واحدا من سيناريوهات ربيع العرب العسيرة، وهما اثنان اليمني والليبي، وقد يكون هناك سيناريو آخر – غير متخيل الآن – قد يفاجئ الجميع، حيث يبقى ذلك الوجه من النظام السوري، أو يبقى منه صلبه إلى فترة أطول، وربما على رأسه القيادات الحالية. على أي وجهة يمكن أن تنتهي الأحداث، يمكن باطمئنان أن نقول: يعتمد على اللاعبين الكثر وطريقة استجابتهم للتحديات في الملعب!
السيناريو الثاني لا يريد أحد أن يفكر فيه، ولكنه مع ذلك ممكن الحدوث، ويجب أن لا يغيب عن الأذهان، لأن بعضنا فقط يرغب في اختفاء النظام السوري سريعا، مما يزيح التفكير الآخر والممكن.
ما يمكن أن يبقي النظام ليس مصداقيته أو أصدقاءه أو قدرته على المرونة في الحكم، إنه أهم من ذلك بكثير، هي الأداة التي اعتمد عليها في الأربعين عاما الماضية، البطش المفرط وغير المتحفظ، مع كل من يعارضه.
من الحقائق التي ظهرت حتى الآن عدم قدرة الجيش السوري على التعامل مع أي تهديد خارجي مهما كان صغيرا أو ضعيفا. والمقارنة أنه لم يستطع أن يحتوي – كما يقول النظام – «مجموعات إرهابية مسلحة» فكيف له أن يواجه تهديدا خارجيا، خاصة من إسرائيل، هذا يسقط حجة الممانعة التي تدثر النظام السوري في السابق بها طويلا وكثيرا. هذا الجيش وأقصد صلبه الطائفي، لم يستطع قهر أو التغلب على عدد صغير من المنشقين – كما يصفهم الإعلام السوري – لأكثر من عام، مسلحين بأسلحة شبه بدائية. فإذا كانت فكرة «الممانعة» التي كانت تخفي لدى البسطاء الوجه القبيح للبطش قد سقطت، فقد بقي البطش نفسه.
أعرف أن البعض لا يرغب في المقارنة بين ما يحدث في سوريا وما حدث قبلها في العراق، ولكن التذكير بما حدث مهم، خاصة بعد حرب تحرير الكويت. بعدها بقليل قام عدد كبير من الشعب العراقي بالخروج على الدولة الصدامية، في الحقيقة خرج عن نطاق الدولة وقتها أربع عشرة محافظة من ثماني عشرة، إلا أن نظام صدام حسين استطاع أن يستخدم جهازه العسكري المتماسك في قهر كل هؤلاء المنشقين، مع خمسمائة ألف من الضحايا على أقل تقدير. لولا التدخل الدولي الصارم في عام 2003 للإطاحة بذلك النظام الشرس، لربما بقي صدام حسين إلى يومنا هذا يلغ في دماء الشعب العراقي.
في 15 مارس (آذار) من العام الماضي عندما اجتمع مجلس الأمن القومي الأميركي، كان النقاش حول ليبيا، وقد أظهرت كل من بريطانيا وفرنسا، عتبا واضح اللهجة للإدارة الأميركية، بعيدا عن الدبلوماسية، حيث أسرت للإدارة الأميركية: «إننا حاربنا معكم عندما دعوتمونا في كل من العراق وأفغانستان، واليوم ليبيا قريبة من جنوب أوروبا ويشكل الاضطراب فيها الكثير من القلق للدول الأوروبية»، وكان الطلب أن تشارك الولايات المتحدة في جهود فرض حظر على الطيران الليبي. بعد نقاش – أصبح موثقا ومنشورا اليوم في كتاب صدر أخيرا عنوانه الأوبامية – قرر الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يذهب إلى أبعد من «حظر الطيران» وطلب من مندوبته في الأمم المتحدة أن تعمل على تمرير قرار دولي يقضي بـ«استخدام كل الوسائل المتاحة، إذا لم يتوقف القذافي عن قتل المدنيين»، لولا ذلك القرار الذي اتخذه أوباما على عكس ما يريد غالبية أعضاء مجلس الأمن القومي الأميركي، لكان القذافي معنا حتى اليوم، حيا يتحكم في رقاب من بقي من الشعب الليبي وربما أبعد من ذلك.
حتى في الحالة المصرية والحالة التونسية، من الخطأ التفكير بأنه لم يكن هناك تدخل دولي بشكل ما، فكان التدخل على قدر المطلوب، ساعة بالتصريح والتلويح وساعة بالنصيحة في مقام الأمر، ولأن النظامين على درجة من التحضر، لم يوغلا في القتل، في الحالة اليمنية كانت التوازنات القبلية المتجذرة في تجمعات الشعب اليمني، قد حدت من الولوغ في دماء الشعب اليمني من جهة، والتدخلات الخارجية النشطة لعبت دورا مهما في زحزحة أركان النظام السابق من جهة أخرى.
مجمل القول أنه لا تصور لرحيل النظام في سوريا دون تدخل خارجي نشط، وهذا التدخل يساوي في المقدار ويضاد في الاتجاه، البطش الذي يقوم به النظام السوري على شعبه. لن تردعه الأقوال مهما غلظت، ولا الاجتماعات الدولية والإقليمية مهما كثرت.
العقبة التي تعرفها موسكو، كما يعرفها غيرها، أن الولايات المتحدة تمر بمرحلة مخاض الانتخابات الرئاسية، وهي فترة حرجة لا تستطيع الإدارة القائمة خلالها المقامرة في اتخاذ أي إجراء دولي، خشية إغضاب جزء من الرأي العام، ذلك سوف يستفاد منه سلبا في الحملة الانتخابية الشرسة بين المتسابقين للرئاسة. ودون الولايات المتحدة، فإن باقي الدول الغربية أو العربية ليس لديها الوسائل للتحرك الإيجابي على الأرض، كما لا تستطيع تركيا فعل ذلك. في الجوار العطل قائم، في حديث مع قيادي عراقي كبير تبين من المناقشة أن العراق الرسمي متعاطف مع النظام السوري، ويرى أن من يقوم بالعمل العسكري المضاد للنظام في سوريا هم «جماعات غير منضبطة وربما تكون «القاعدة»، هذا توجه يخرج العراق من أي مساعدة إيجابية للضغط على النظام السوري، يبقى في الجوار الأردن وإمكاناته محدودة، ولبنان المسيطر عليه نفسيا وواقعيا من اليد الثقيلة للمرحلة السورية السابقة بكل تبعاتها.
ليس في الأفق في المدى المنظور أي رغبة أو حتى قدرة للمساعدة الدولية على غرار «ليبيا» أو حتى «اليمن»، بالطبع الشعب السوري أدهش نفسه والآخرين بهذه المقاومة الفذة وهذه التضحية العظمى، إلا أن ذلك ليس كافيا للإطاحة بالنظام، كما أن المساعدات التي تذهب إليه قليلة نسبة إلى احتياجاته. من جهة أخرى «ميوعة» بعض القوى المحسوبة على المعارضة أو ضعفها وترددها وتشرذمها، وهي ميوعة عبثية غير مبررة، وربما غير أخلاقية، تزيد الأمر تعقيدا وتعزز سلبيا قدرة النظام على المناورة، ففي الوقت الذي يضحي فيه السوريون في الداخل بحياتهم، يتردد البعض في الخارج بالتضحية بكراسي هي أشبه بالكراسي الموسيقية!
في نهاية المطاف فإن جمهورية الجماجم بانتظار فعل دولي حاسم، رأس هذا الفعل ردع المتشدقين في المعارضة السورية وفضحهم، والانتقال إلى فعل إقليمي حاسم، ثم دولي فعال. دون ذلك فإن الحسم في سوريا ليس عملية تلقائية، بل قد يشكل أول انتكاسة لربيع العرب!!
آخر الكلام:
لعل النظام السوري يفكر في تفعيل المثل الشعبي «إذا ما بتكبر ما بتصغر» يبدأ التفعيل من خلال إثارة حرب إقليمية بتنشيط حزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، الذي سوف يستدعي عملا عسكريا تركيا ثم رد فعل إيرانيا، ثم تعلق حرب إقليمية، تبدو فيها حركة الشعب السوري صغيرة جدا، ويترك للنظام تصفيتها – ربما بمساعدة دولية -!
الشرق الأوسط